الرئيسية | فكر ونقد | هرمونيا الهمس في ديوان “تركنا نوافذنا للطيور” للشاعر محمد عريج

هرمونيا الهمس في ديوان “تركنا نوافذنا للطيور” للشاعر محمد عريج

زكرياء الزاير

 

17078738_10154126412106986_1157199519_nسأدعي أنني حاولت أن ألمس هذه النصوص بيدين عارتين رغم أنني أعرف أنها نصوص عالية التوتر وأنا لست حذرا على كل حال … هذا الحلم الكائن فيه، هو طائر يأخذه نحو الأعالي. إلى أعلى يسير، إلى أعلى يتطلّع:

 “أطلُّ مني عليك الآن في عّجَل /

أنا الذي بك هذا الوقت أنفرد “ص8

“وكنت أصغي لموسيقى الطريق بلا حلم ** كمغترب يصغي لمغترب” ص 41

فهو يضيء هذا الحلم/ الوجود بنار خالدة يسرقها خلسة من الشمس. لا يخاف الحريق، ولا يخشى الغرق. فبالنار يشتعل، وبالماء يتعمّد ليمتلئ بالصدى الذي يلتقطه قطعة قطعة، ويوزِّعه كما تشاء الريح، كما يشاء الماء، كما يشاء الشاعر:

“على الريح أنْ تكنس الطرقات ** من الورق الميِّت المهمل” ص 7

“على الماء ألا يرى نفسه ** ويكفر بالبئر والجدول “ص 7

“على شاعر أن يسبَّ الطريق ** ليهرب من نصِّه الأول” ص7

“وإني سوف لن أستاء من قحطي/

ولن أترك ظلي لاهثا في الشمس خلفي/

فأنا أعرف أن الماء خصمي : قل هو الماء غرور مفرط/

 يمضي سرابا في الصحارى خادعا /

 أو واحة أو حلما يلمعُ “ص37

  يقول كلامه/ كلومه على مضض غير آبه بالكون ؛ يحمل حلمه/ طائره ويسمو، فليس يمثل له الكون  غير اسم عابر قد يندَّس بين عباراته، غير شيء ما داخل اللغة التي تملؤه وتوحد كيانه وتصوراته لمن حوله؛ موجودات تألفها العين وتراها البصيرة، ويرفضها الخاطر، فتشاغبها اللغة، وينسجها الإيقاع، فيحكيها المجاز. وهكذا ينْوجد باللغة ويتواجد بها، يحلم بالصدى فيتناغم، ويسمو، ويغني.

 [الملح من] :

“سرق الضوء من قمر كان يحرس أحلامنا طيلة الليل../

وانسلَّ مثل الذئاب.. إلى كلمات القصيدة /

لم يبق حرفا ولا صورة تتداخل فيها الطبيعة والوحي واللغة /

المنتقاةُ “ص 20

و[الملح من]

“سرق الجرح منّا ..( ألسنا ملائكة حين نجرح؟) “ص 19

و”الجرح مصباحنا في الطريق.. يضيء لنا حلما يترقرق في/

أدمع العين ..”ص19

بالحكي دائما يتجسّد:

 “ليس لديَّ ما أقول /

 أنا سأحرِّك شفتيَّ عشوائيّا أيَّها العالم /

وعليك أنت أن تفهم شيئا ما /

والأهم من هذا أن تصدّقه “ص6

” أجفُّ كعطر سرى في الهواء .** ولم يختبئ في زوايا رئةْ “94

لقد وجد الكون داخل القصيدة، داخل هذه الشحنة العالية التوتر . يصنع منها ما يحلو له من التعرجات، وينحو بها صوب النقاء والصفاء، صوب الماء تماما. فماذا يكون الشعر غير الماء، هذا الكائن الآخر الذي لا لون له ولا يأخذ شكلا واحدا، وليس يرسو في مكان واحد، بل يمتد  ويتوالد، وينفجر، فيكبر شيئا فشيئا. وشيئا فشيئا يكشف لنا عبر انتقالاته السلسة أنّ شيئا ما يوجد داخل هذه اللغة؛ إنّه الشعر، كخطاب يسمو بنا إلى الجمال كعنصر آخر داخل معادلة تبدو عناصرها مركبة بطريقة ما، داخل جسم ما، لا يملك سرها غير شاعر ما يقول جراحه:

 “إلى لا أحدْ../

لأن القصيدة بنت السّراب../

تجيئ بلا موعد..وتضيء المسافات للعابرين../

وترعى حنين الأبدْ” ص5

 لا ينطق عن هواه وليس يعرف ما يقول، وليس يعني ما يعنيه؛ هو فقط يهمس لنا، ولنا أنْ نفكّ شِفراته كما يحلو لنا، لنا أن ننظر في الاتجاه الذي نريد، ولنا أن ننظر في الاتجاه الذي يريد. ربما صوب ذات محطمة بعناية فائقة، أو ربما نحو خيبة ما باللغة، أو ربما نحو عطب ما ، أو ربما نحو فرح ما، أو ربما نحو فشل ما، أو ربما ورطة ما، ربما نحو حياة ما، أو ربما ورقة ما :

ف”كل ورقة امرأة مطيعة، وضحيّة كلُّ ذنبها أن الفكرة لم تجد /

مفرداتها تماما، وزينتها الكاملة أمام مرآة اللغة.. “ص13

و”كل ورقة ناي، لم تراع الريح هشاشته وهي تنفخُ فيه لكي يشهق/ بالموسيقى.. “ص13

وحده الشعر يجرحه ويرمي به نحو الهلاك الجميل، نحو الضياع الممتع، والهوس العاقل. إنّها متعته، ربما هذا ما يدّعيه، وربما هذا ما ندّعيه :

“(…) جسرٌ نحو أغنية /

خضراء لم يحلم بها أحد” ص10

“ثابتة هذه الشجرة /

لكنّها تعرف أكثر مني عن السفر” ص33

“لم يخطر في بالي مرَّة أن هذا المتشرد النّائم تحت/

الشجرة شاعر “ص 33

” كميت لم يجد قبرا، وكامرأة ** تمرُّ بين عناوين تمزِّقها /

” كميّت، ذاك أنِّي تحت شاهدة ** أنام، أفتحها باسمي وأغلقها ” ص57…” “يتبادل الموتى مواقعهم /

وهم تحت التراب،/

ويخدعون العالم الفوقيَّ باستسلامهم وسكونهم. لكنّهم أذكى وأعلى حكمة من أن ينامو هادئين” ص59

 يعي جيدا أنّ الحقيقة/القصيدة  لعبة ماكرة قد تضيء وقد لا تضيء – بتعبير ” محمود درويش”- قد تمتلئ بالماء وقد تجفّ، قد تتبدّى وقد تختفي، هكذا كضربة ساحر يمكن أن يُخرج من قبّعته فيلا :

 “لم يزل في القصيدة شيء يشدُّك نحو الطُّفولة../

سرب الغيوم الذي كان يمشي كما كنت تأمره /

حين ترفع عينيك نحو السماء وتمشي وئيد الخطى.. “ص16

“حسب القصيدة أنّك ما زلت حيّا.. وخصبَ الخيال/

 لتنقذ نفسك من خلل العمر.. حين تصير إلها وتخلقها مثلما/

شئت في صورة واحدة “ص17

لا غرابة في أن يضيء نصه، لا غرابة في أن يصنع ملمحه بيده، لا غرابة في أن ينطق بالمعنى، هذا الشيء الهلامي، هذه الهيولى التي تجمِّع الأصوات وتصنع الواقع، واقع اللغة في ذاتها ومن أجل ذاتها. واقع الموسيقى، والإيقاع ، الذي يملأ فراغات هذا العالم بالهمس، هذه الثقوب التي تملأ القصب . الواقع الذي يجعلنا  نغفو في لحظة الأبد ، الذي يجعلنا نترك نوافذنا للطيور  .

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.