الرئيسية | أدب وفن | “مملكة الغرباء” لإلياس خوري: رائحة ذكريات الحب قرب البحر الميت

“مملكة الغرباء” لإلياس خوري: رائحة ذكريات الحب قرب البحر الميت

في تقديمه للترجمة الإنكليزية لرواية (الجبل الصغير)، كتب إدوارد سعيد: “في كتابة إلياس خوري نعثر على إحساس عام باللارسمية. (…) إن فرادة [روايته] المذهلة هي في تجنبها الميلودراما والمألوف؛ فخوري يحْبِك الفصول من غير نسيج أو نسق يمكن التنبؤ به (…). ويضيف سعيد: إن كتابة خوري تمثل أيام البحث والتجربة الصعبة التي يُعبَّر عنها الآن في المشرق العربي بالانتفاضة الفلسطينية، حيث تتخطى الطاقات الجديدة مستودع العادة والحياة المحلية، وتتفجر عصيانًا مدنيًّا عارما. إلياس خوري، جنبًا إلى جنب مع محمود درويش، فنان يعطي صوتاً للمنافي ذات الجذور ولمصيبة اللاجئين الواقعين في الشرك،  للحدود المتلاشية والهويات المتغيرة،  للمطالب الجذرية وللغات الجديدة. من هذا المنظور، يودّع إنتاج إلياس خوري نجيب محفوظ وداعاً محتوماً،  وإن يكن وداعاً عميق الاحترام…”.

ولد الكاتب اللبناني إلياس خوري في بيروت عام 1948. عمل في الصحافة والتدريس، ونشر عدة كتب نقدية، وعدة روايات من بينها (عن علاقات الدائرة)،  (الجبل الصغير)،  (أبواب المدينة)،  (الوجوه البيضاء)، (رحلة غاندي الصغير)، (مجمع الأسرار)،  و(باب الشمس) التي انتجت فيلماً سينمائياً، (رائحة الصابون)، (يالو)، (كأنها نائمة)، (سيناكول)، وسواها.

 ومن بين رواياته “مملكة الغرباء” الصادرة عام 1993،  ومنها نقتبس ما يأتي:

قلت لها إنَّني أشمّ رائحة الذكريات.

ابتسمت.

كانت مريم تبتسم حين لا تعرف الأجوبة، ثمَّ تتلعثم وتتردّد قبل أن تقول إنَّها لا تعرف أن تعبّر عن فكرتها.

هكذا كانت.

امرأة قصيرة الشعر،  واسعة العينين،  ظهرها ينحني قليلاً إلى الأمام،  تدندن لحناً غريباً لم تقل لي مرّةً من أين جاءت به،  وتمشي إلى جانبي صامتةً على ضفّة البحر الميِّت.

كان الأفق رصاصيّاً.

رصاصٌ يلوّن ضفّة البحر الميِّت،  وأنا أقف. غور الأردن ينخفض بي إلى قاعٍ لَزِج. رطوبة ورصاص ورائحة ذكريات.

الفرق هو القصّة،  قالت. الحبّ هو قصّة الحبّ.

لم تكن معي في رحلتي إلى الغور. بلى كانت،  رائحتها كانت،  وأنا أشمّ رائحة الذكريات،  وهي لا تعرف الفرق بين الحبّ وقصّة الحبّ.

قالت إنَّها تحبّني.

يوم التقيت بها في تلك اللّيلة،  لم تتلعثم أو تتردّد. قبّلتني وقالت إنَّها تحبّني،  ولم تسأل عن الفرق بين الحبّ وقصّة الحبّ.

هكذا بداية الأشياء،  تبدو وكأنَّها معلّقة في الفراغ.

التقيت بها،  كان ليلٌ وكانت بيروت. التقينا على شرفةٍ معلّقة فوق البحر. كنت عائداً من غور الأردن،  رائحتي مبلّلة بالتَّعب،  وعلى رأسي غبارٌ من أرض فلسطين. وكانت هناك. جاء أصدقاء لا أعرفهم وسهرنا حتَّى الثَّالثة صباحاً. كانوا يرقصون وكنت أشعر أنَّني وحيدٌ وسوف أموت. كنت قادماً من الموت. هكذا قلت لها. اعتقدت أنَّني أحاول غوايتها وضحكت.

“(الموت)”،  قالت،  “(يا لطيف)”.

وضحكت.

ضحكت أنا ورقصنا. رقصت أمامي،  كان جسمها مربوطاً بآلاف الخيوط غير المرئيّة. كانت تتحرَّك يميناً وشمالاً دفعة واحدة. لا أذكر كثيراً. أنا لا أعرف أن أتذكَّر الأشياء،  هي أخبرتني،  أخذتها إلى البحر وركبنا قارباً شراعيّاً ومضينا نتوغّل من الشاطئ إلى الأعماق، وهناك أخبرتني وكنت أرى الأشياء وكأنَّها ظلال. كأنَّنا ظلالٌ للكلمات. قلت لها إنَّ ما روته يبدو لي معقولاً،  (أذكره لأنَّك تروينه). ضحكت. الضحكة لم أنسها؛ كيف أنسى? كانت ترقص وكنت أرقص،  ثمَّ نامت. لم تنم. ذهبت إلى الشُّرفة واستلقت على أرجوحة إسبانيّة مصنوعة من الحبال. مشيت باتِّجاهها. كانت عيناها مغمضتين،  ولكنَّها رأتني. رأتني بعينيها ولم تفتح عينيها. رأتني أتقدّم فأزاحت جسمها قليلاً كأنها تترك لي مكاناً صغيراً كي أستلقي إلى جانبها. أمسكتُ بطرف الأرجوحة قليلاً وهززتها. كان هواء أيلول. في تلك السنة أمطرت في أيلول. دائما تمطر في أيلول. بيروت في أيلول تبدو مبلّلة ببدايات الشِّتاء. يكون الشِّتاء على طرف ثوبها وكأنَّه على طرف ثوب امرأة. كنت أراها من الخلف،  وكان ثوبها طويلاً ومطرّزاً برسومٍ حمراء،  وهي تركض والماء ينقِّط من طرف الثوب. كانت مريم تنام،  وأنا أمسك بحبل الأرجوحة،  والهواء المبلّل برائحة الماء يغطّي وجهها.

كان وجهها مغطّى بالماء،  بما يشبه الماء. ثمَّ اقتربتُ واستلقيتُ إلى جانبها. لم تقل كلمة،  أغمضتُ عينيَّ كما أغمضت عينيها،  ورأيتها كما رأتني،  وصارت الأرجوحة التي تحملنا كأنَّها سفينةٌ تهتزّ وسط بحر هادئ.

قالت إنَّها فتحت عينيها، فوجدت أنَّ الجميع ذهبوا.

أيقظتني،  وسألتني ذلك السؤال الذي سألتني إيَّاه آلاف المرَّات. فتحت عينيها وقالت شيئاً يشبه (الأهلا)،  ثمَّ سألتني من أكون. لم تكن تعرف اسمي،  وأنا لم أقل لها اسمي. بعد ذلك عرفته،  لكنَّها لم تكن تستخدمه أبداً حين تخاطبني. فتحت عينيها وسألتني من أكون،  فضحكت،  وضممتها إلى صدري وتركتها تتغلغل هناك في الداخل.

في تلك اللّيلة التي أذكرها لأنَّها روتها لي،  أو رويتها لها،  لا أعرف،  ولا أعرف لماذا لا يتوقّف العشَّاق عن رواية حكاياتهم التي يعرفونها. معها تعلَّمت أنَّ الحكاية تُروى لأنَّها معروفة،  وأنَّ النَّاس حين يروي بعضهم حكاياتهم لبعض،  يحوّلون الماضي إلى حاضر،  وأنَّ القصص لا تكون إلاَّ بوصفها ماضياً يحضر الآن.

سألتني من أكون،  ونهضتْ من الأرجوحة،  فتبعتها. دخلنا إلى الصالون،  وكان هناك فراش على الأرض. قالت تعال،  وجئت. استلقيتُ إلى جانبها ونمتُ.

(…)

يومها قالت لي إنَّها تحبّني،  وضحكت.

لم نضحك لأنّنا لم نصدِّق،  ضحكنا لأنّنا صدّقنا. تصديق الأشياء مثل عدم تصديقها يقود إلى الضحك. (خمس ساعات وأنت تطير فوقي،  كأنّي أستقبلك وأودِّعك وأنت تضحك).

هكذا قالت.

هكذا كانت تروي القصّة دائماً.

(وغداً عندما تنتهي الحكاية سوف نجلس على شاطئ البحر،  ونسكر ونضحك ثمَّ نمضي،  لا أريد نهاياتٍ حزينة).

تحدّثت عن نهاية الحبّ قبل أن يبدأ. تحدّثت عن الحبّ وكأنّه حكاية تعرفها من بدايتها إلى نهايتها.

(الحكايات لا تنتهي)،  قلتُ لها.

(ماذا ينتهي?)،  سألت.

(ينتهي الرَّاوي)،  أجبتها.

(أنت الرَّاوي)،  قالت.

(لا،  أنا الحكاية).

ضحكت،  (أنت هكذا).

(أنا هكذا)،  قلت. وأخبرتها عن البحر الميِّت،  الذي هو بحر الملح وبحر الماء وبحر الحدّ الفاصل بين السَّماء والأرض.

أخبرتها كلّ الحكايات، وطلبت منها أن تأتي معي. قالت إنَّها لا تجد مكاناً. الزورق مضى وعليها أن تمضي إلى حيث تمضي.

سألتني كيف ينتهي الحبّ،  ومضت.

واليوم أراها.

أراها أمامي كامرأة مبلّلة الثّوب بالمطر. أراها من الخلف، وهي تمشي مسرعةً في شوارع بيروت المبقّعة بمطر أيلول. أراها وأقول لها إنّني أراها،  وأتركها تمضي إلى حيث لا أعلم.

(أنا لا أحبّ الشرفات)،  قالت.

وقالت إنّها تشعر بدوخة أمام البحر.

وقالت إنّها تحبّني.

وقالت إنّها الحكاية.

اسمها مريم،  نسيت أنْ أخبركم أنَّ اسمها مريم،  وأنّها بيضاء مثل وداد،  وأنّها تملك جسداً يتلوّن بالرغبة حين تأتي الرغبة. وأنها الآن لست أدري.

أخذتها إلى البحر الميّت. أذكر أنّني أخذتها وأنّنا مشينا أمام الأفق الرصاصيّ،  وأنّها بكت حين رأت أنوار القدس تتسلّل من خلف مدينة أريحا،  وأنّها ركضت وسط الماء المالح وقالت إنّها تمشي على الماء،  وأنَّها شربت قنّينة نبيذ أبيض،  وأنّها روت لي حكاياتٍ لا تنتهي عن رجالٍ ونساءٍ عرفتهم وأحبَّتهم.

كلّ الحكايات التي أعرفها ولا أعرفها اجتمعت هناك،  على تلك الضفّة المكسورة من ذلك البحر المالح الذي كان لونه رماديّاً. بحرٌ رماديّ لا يشبه البحار،  وخلفنا مدنٌ تنزلق نحو غور الأردن،  كأنّها تتساقط إلى تحت الأرض. إلى مكان لا يمكن الوصول إليه،  إلى حكايات تدور وتدور وكأنَّها لا تنتهي.

وتدور الحكاية.

عندما رجعت هذه المرّة والذكريات تغطِّيني بدل الغبار،  ورغبة الحياة صار طعمها مُرّاً وناشفاً،  أخبرتها حكاية الرَّاهب الذي مات،  وحاولت أن ألعب معها لعبة أخبار الحكايات التي نعرفها.

(أنا لم أكن معك)،  قالت.

(الحبّ هو قصّة الحبّ)،  قلتُ.

(ومتى ينتهي الحبّ?)،  سألتْ.

(حين تنتهي القصّة)،  أجبتها.

(ومتى تنتهي القصّة?).

(حين يموت الرَّاوي).

(ومتى يموت الرَّاوي?).

(هنا يجب تغيير السؤال،  يجب أن تسألي: من قتل الرَّاوي?).

(ومن قتل الرَّاوي?)،  سألتْ.

(لا أعرف).

عمَّ أكتب?

حكايتان،  لا،  ثلاث حكايات. لست أدري كم عددها،  ولا أعرف لماذا تترابط حين أرويها. عندما نكتب فنحن نمتلك أن نقول ما نشاء،  كلاَّ،  نمتلك أن نقول ما يُقال،  نشاء ما نقول،  لا العكس.

ولكن لماذا?

لماذا تحضر صورة وداد البيضاء على وجه المسيح مع نهر الأردن،  مع المريمات وهنَّ يحطن بالرَّجل الذاهب إلى الموت? هل هي الذكريات حين تُستعاد تختلط وتتحوّل إلى مزيج،  إلى حكايةٍ واحدة أصولها في كلِّ الحكايات?

لكنَّها ليست ذكرياتي.

هل أجرؤ يا سيِّدي على أن أقول بأنّ حكايتك هي ذكرياتي? هل أجرؤ يا سيِّدي على أن أنتظر منك جواباً?

قلت لسامية إنّها ليست ذكرياتي،  ونحن نقف أمام الجامع المهدّم الذي تحوّل إلى مقبرةٍ في مخيَّم شاتيلا. حتَّى كلمة حبّ لم أتلفَّظ بها. كان اسمها سامية لا مريم. سامية تأتي إلى هذا الحقل الشاسع من الحكايات وتدخل فيها. وتقول إنّها مريم.

الحقيقة أنّني قلت لها بأنّنا سنغيّر العالم. حدّثتها عن تغيير العالم من غير أن أعي ما أقول. قلت نغيّر العالم لأنّنا كنّا نقول ذلك.

عن مجلة ذوات

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.