الرئيسية | سرديات | مقطع من رواية : (عين العدم ) (1) | عبد الحق طوع

مقطع من رواية : (عين العدم ) (1) | عبد الحق طوع

عبد الحق طوع

 

في مساء الحديث عن الخبز الحارْ وإنعدامه وصباحه الباكر، أيقظتني نقرات خفيفة على الباب، غيرت من وضعية جسدي واختفيت في دفء البطانية. تسللت همهمات خافتة إلى أذني، وبعد لحظة قصيرة، دخلت أمي إلى الغرفة وهمست بصوت يغالبه النعاس :

ـ عبدول … قم …سي حميد ينتظرك. بتثاقل تركت الحصير وبخطوات تتعثر بين النوم والجوع ، دخلت أقدامي في نعلي ودون أن أغسل وجهي فتحت الباب واستقبلني سي حميد بدراجته الهوائية، إمتطيت حديدة تتصل بين المقود ومكان جلوسه. وضعت يداي على المقود وعيناي تحاولان اليقظة . رغم غبش الظلام وبحكم العادة كان سي حميد يعرف جيدا الطريق… طريق غيرمعبدة . وبعد نصف ساعة وكأنها الدهر من سفر الجحيم ، توقف سي حميد . نزلنا وقال بصوت آمروهو يحرك رأسه مشيرا إلى مقهى :

ـ احرص الدراجة…دقيقة وأعود .

وبعد لحظات خرج سي حميد رفقة رجل بدين وقوي وقال :

ـ أترك الدراجة وتعال إلى هنا .

تأملني الرجل البدين القوي وقال :

ـ أسْمَكْ ؟

ـ عبدول….

ـ عبدول والتفت إلى سي حميد وقال :

ـ جيد … يبدو من نظراته أنه يصلح لشيء ما.

ضاغطا برفق على أذني تمتم سي حميد :

ـ كن مهذبا مع سي عبدالله وإلا…

حركت رأسي بالموافقة وسؤال كبير يرقص على قدم عرجاء في الأعماق :

ـ لأي شيء سأصلح ياترى ؟

وسرحت بنظري…. طاولات غلفت بقطع البلاستيك، لا زالت تحمل بقايا بقع زيت وفتات خبز، كؤوس وأطباق صففت في شكل سيء. ضوء قنديل غازباهث شد بحبل إلى السقف. ضوء ينيركلمات لافتات توزعت في رحاب المقهى على جدران من القصدير وسخة ،كتب عليها بلون أسود و بخط رديء: ”ممنوع الطلق والرزق على الله” ”من توكل على الله فهو حسبه” ”ممنوع تدخين الحشيش والكيف” ”هذا مكان للعمل وليس للقمار” ”هذا بيت خبزي وأنا سلطانه” لوحة كبيرة من الورق المقوى دقت بمسامير على خشب يعلو إطارها الوسخ وجيش من الذباب. يطغى على فضائها مسحة لون أخضر باهت. تضم رسومات عديدة : رجل وإمرأة وبينهما شجرة وحية تتسلق فروعها .وإلى جانب هذا الرسم رجل بعمامة صفراء اللون ضخمة ويبدو رأسه في وسطها كحبة عدس يمتطي أسدا. يتأبط سيفا ويشير إلى كرسي من ذهب وحوله أجساد بشرية في ركوع. ورهط من الشياطين يحملون رأس شاب ونهرمن الدماء تنزف من رقبته. رجل عجوز غارق وجهه في شعر أبيض يمتشق خنجرا خنجرا وعلى المصطبة تمدد شاب في وداعة وملاك يقبض يد العجوز في حين الأخرى تحمل كبشا سمين وأقرن . في الأسفل منظر عام لمدينة حولها يحوم سرب حمام وعلى القبة الخضراء بقع زيت يميل إلى السواد ….

وعلى الجدار اليميني صورة مدفع مقلوب ورجل عجوز يبكي وفوق المدفع بالضبط رقم 67. وفوق المقلاة بالضبط صورة لرجل بوجه لايبتسم إلي يحدق. قالت لي أمي وبتأكيد صارم ذات يوم أن هذا الرجل صاحب الطربوش المستطيل أطل بوجهه عليهم من القمر وألقى خطبة طويلة على الناس . وشجعهم على ضرورة المضي في الطريق لطرد الخونة.

كائن بشري وحيد من رواد المقهى شد إنتباهي بقامة عظمة صمته العميق. قوة وفتنة ضوء طاغية كبريق مشع تسايرخطواته . جلسته . حركاته . وعمق نظراته . من يكون ؟ ومن أين إستمد وجلب سحر هذا الحضور البهي… في صوته ارتطام الأمواج ، صدمة لقاء النارالأولى. سفر النيازيك والشهب والاعاصير المدمرة . أحببت هذا الرجل وفي صمت.. يطلب شايه ويجلس قبالة اللوحة الكبيرة التي دقت بمسامير على خشب والتي تضم رسومات عديدة. ويطيل النظر في وجوهها . كان كلب وسماه ” أوم ” يرافقه دوما . صاحبنا يجلس في زاويته المعتادة . وأوم في الخارج ينتظر ولا تنزل عيناه على صديقه الساحر الجميل ، يتابع كل شهقة وحركة . وفي أيام المطر يسمح لأوم بالدخول ، يتوسد أقدام صاحبنا وينام . يخرج كومة من الورق ويغيب في يم بياضها ، كدب جريح يكتب . ولا أحد من الرواد يزعج عزلته . بل يحترمون وجوده وأحيانا يقدم له أحدهم شقف كيف أوكأس نبيذ … يدخن بشراهة غريبة وعيناه على وجوه اللوحة الكبيرة . ويهتز بطنه بقهقهات مديدة . ترى مآلذي يضحكه ؟ مالذي قرء في الوجوه ؟ . يجمع أوراقه في حقيبة سوداء يقدم تحية الوداع ويبتلعه الزقاق الطويل . قال لي مرة بعد تلميع حذاء زبون ودون كلمة شكر : ـ ينبغي أن تطرد جرثومة العبودية من دمك . إعصرها من عروقك : قطرة قطرة لعل الإنسان فيك يولد . وتغيرت ملامحه و أضاف بغضب :

ـ تبا لمن يقهر الإنسان وتبا لمن يتحمل القهر . أول خطوة لميلاده : تحرر من ديناصور الخوف . وصمت وأضاف :

من رضي بأن يكون حماراً فلا يغضب إذا ركبهُ النّاس.. وتغيرت ملامحه و أضاف بغضب :

ـ تبا لمن يقهر الإنسان وتبا لمن يتحمل القهر .

في الحقيقة لم أفهم أبعاد وصيته. بعد أيام وجدوا هذا الرجل الغريب مقتولا في منزله؟ من قتله ؟ لماذا ؟ الرجل يحترم عزلته ولا يتكلم إلا مع نفسه والبياض . أكيد وراء الرجل جبال أسرار وقضية . وحتى لا أصاب بوجع في الدماغ قلت في نفسي وأنا أعيد مشهد إستغراق نظره في الصوروقهقهاته ووصيته الغريبة لي :

ـ ربما استيقظ شيء ما في داخله وتذكر حادثة ما من الماضي .

صحيحْ !!!

ـ الوصية لاتولد إلا بعد تجربة مريرة …الرجل أحمق و ربما الكيف كان السبب . لماذا يكرربعد كل تحية عابرة على رواد المقهى :

ـ اعرف نفسك…

أكيد لا أحد من رواد المقهى فهم عمق وأبعاد الكلمة . ولا أنا . تمنيت لو كان هذا الرجل أبي . السعادة معه ممكنة . أكيد. ” أوم ” ظل وفيا للمقهى بعد رحيل صديقه. كل زبون يقدم له بالقدر المستطاع من الطعام. وضع سي عبدالله آنية له. من حين لحين أتكلف بملئها بالماء . أوم هو الأخر إختفى في ظروف غامضة. ربما تعب من الإنتظار أو وقع ضحية لدورية شرطة الكلاب الضالة . وقد أكد لي شاهد عيان من أهل النقيق أن عظام ولحم وشحم الكلاب بعد خلطها بمادة ما يعبدون بها الطرق .

……………… 

الآن . وبعد شيخوختي هذه أعرف جيدا ماكان يدور في خلده؟ وبلسانه أتحدث الآن: ولأنني شاركت هواء هذا الرجل النظيف والذي أغتيل دون ذنب فقط لأنه يحب بلده وتمنى أن يعيش أهله بكرامة. لن أدعه يموت بجرة قلم رخيصة: عاش ومات. ويليت لو مات ميتته الطبيعية. لقد إغتالوه سيدي. إغتالوه وينبغي أن أزوجه ليستمر نسله. وهو ينظر إلى اللوحة إقتربت منه وسألته :

ـ مالذي يضحكك ؟

قال : ـ هذه الشجرة ؟

ـ وهل هي مهرجة قالت لك نكتة ؟

ـ نعم

ـ أنا لاأرى إلاشجرة عادية وعلى اليمين رجل وعلى اليسار إمرأة وحية تتسلق الشجرة .

ـ لهذا السبب تضحكني .

ـ أكيد فكرت في اليد التي ألصقتها هنا … وعن ماذا يحكي لسان اليد ؟

ـ هذا الرجل أبونا والمرأة أمنا .

ـ هذا الرجل العاري أبي وهذه العارية أمي ؟؟.

ـ نعم

ـ إذن فكرة الحجاب فكرة مغلوطة وصفعة في حق أمنا واهتز وتمايل كرسيه بنحافة جسده وقال بصوت سريع النطق ومديد :

ـ أسكـــــــــــــــــت ياشيطان .

ـ ولماذا تسميني الشيطان …؟

ـ اليد ستسميك هكذا .

ـ وماذا تعني الشجرة بالنسبة لليد ؟ . . .

هي خرابنا جميعا

 – كيف ؟

أكيد لا أحد ولا سي عبدالله الذي يدعي بقوة جيبه وجسده فهم عمق وأبعاد الكلمة، في الحقيقة ولا أنا ولحد الأن . نحن سجناء وهم السعادة الكاذبة ، جشع الانتهازية و خواء المظاهر التهورو الطيش الحسد و الغرور . ربما التفكير والعمل بهذه النصيحة تفضح زيف الإنسان الشاسع والعميق …ومع الصدمة يبدء فجر حياة جديدة . .حسن حكى لي عن أمه وأنه لايراها إلامرة في اليوم الأول من كل شهرجديد يسلمها سي عبدالله ثمن عرقه ، تحكي معه لساعة أو أقل وتعود إلى الليل الرجال والكأس . أبوه في السجن . مضى على سجنه خمس سنوات، قتل دركي في احدى عمليات تهريب الكيف من منطقة كثامة إلى الجنوب. شيء واحد شد إنتباهي ودخلت في حيرة وقلق .علاقة الطفل حسن مع سي عبدالله ؟ شعرت بذلك في الليلة السادسة من نومي في المطبخ . سي عبد الله لايدهب إلى منزله ، إلافي وقت متأخر من الليل . يغلق المقهى من الداخل يدهب من يدهب ولايبقى إلا رواده الذين يعرفون أسراره. ويتحول المكان إلى ناد للقمار . خمر، حشيش ، كيف وأحيانا تنتهي الليلة بمعركة . يتدخل سي عبدالله بغضب وعنف ويهدد الجميع بسكين مطبخ . يذكرهم بماضيه ، فتوته وسجنه وأنه على إستعداد للعودة إلى برودته وظلامه . وأن مكانه في سجنه ينتظره . و يهدء الجو . ربح من ربح وخسر من خسر ، لكن سي عبدالله الرابح دائما ويسمي ربحه بزكاة الفطر . عندما إنسحب الجميع ، دخل سي عبدالله إلى المطبخ إنحنى وهمس في أذن حسن … حسن تصنع النوم أو كان نائما بالفعل …ركله…وكرر الهمس مع تهديد حاد .و بعد ذلك ودون إنتظار ركلة جديدة تبعه حسن . آهات … آهات ممزوجة بأنين حسن .

هلْ ؟ …. و….. وطرد حسن …. طرد بعدما ضبطت سرقاته ، كنت على علم بها . شتم دين أمه وأجداده وأشبعه ركلا ورفسا. لولم يتدخل بعض زبناء المقهى ، لمزق بسكينه بطنه وعرض الأحشاء للقلي والبيع. أحسست بحزن وفراغ كبير بعد رحيل حسن. على الأقل كان رفيق وحشتي وعزلتي. أصبحت أنام لوحدي في المطبخ. تضاعف علي العمل إلى حد التعب والضجر. ينبغي أن أتحمل كل شيء، أن أقاوم جرح وضربات القدر وأن أفتح مكانا لصبر في نفسي كما أوصتني البربرية. ينبغي أن أكون رجلا . بعد… بعد إنسحاب الجميع، دخل إلى المطبخ . إقترب مني، أحسست بشيء ما يتلمس جسدي… يده… يد الخنزير تتلمس وجهي، أطرافي، عنقي، كتفاي، فخداي وأرتاحت على مخرجي… ونهضت بهستيرية، جلست القرفصاء في جزع ورعب أحدق في الظلام. وجاء صوته يقطعه سكين حرارة الرغبة المجنونة التي ركبت رأسه:

ـ كُنْ ظريفْ …ماتْخَافْ… عْزيزينْ عْلِيَّ أوْلادْ أشْلوحْ. ماعلاقة هذا بأولاد الشلوحْ ؟ إمتدت يده إلي من جديد. جدبني إليه بقوة . حاول تقبيلي. رائحة الخمر تفوح بشكل صارخ من فمه. شد جسدي . بإحكام. إمتدت يدي إلى شعراته القليلة. إلى نظارته الطبية . تحكمت في إطارها. طرحتها أرضا. أبكي. أصرخ. لاأحد. لاأحد الرغبة الملعونة فتحت فم الغاب القديم، وكشفت عن أنيابها القديم وضاعفت من قوته. بدا كوحش في هجومه. يهتز… يزعق… إمتدت يده إلى سروالي… قطع أزراره… تمكنت من الإنفلات من يديه… تحركت نحو الباب… كان مغلقا …الملعون رتب كل شيء . فجأة !!! شعرت بشيء يقترب مني، يلمع في الظلام ويلمس عنقي . ويد تحكمت في شعري ولهات يقطع صوته :

ـ أتحب الصراخ ؟  أصرخ …. أصرخ إن شئت …لست أنت الأول .

حاولت… وحاولت… ضربني بقبضة خنجره على رأسي… و…

أينك يالله ؟

( إظــــــــــــــــــــــلام )

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.