الرئيسية | سرديات | مساء عادي في بوينس أيرس | أحمد خلف

مساء عادي في بوينس أيرس | أحمد خلف

أحمد خلف (العراق ):

 

بذلت جهدا كافيا للتخلص من ألاعيبه الصبيانية الثقيلة , لكن دون جدوى, فقد أدركت أنه يقوم بسرقتي كلما حانت فرصة تصفية الحساب , يعرف أني أكتب عنه الآن وأرسم له ملامح هي إلى شخصيات شكسبير أقرب جدا , من حقيقة ما هو عليه .. ولما سألني : ويليس بارنستون كاتب سيرة بورخس, كان ذلك خلال إحدى زياراته إلى بغداد وقد عرفني عليه صديقي الروائي زهير الجزائري في فندق الأمباسادور في الأسبوع الأول من أيام الاحتلال , لما غادرنا مبنى الجريدة , متأبطين عددا من الصحف والمجلات المتباينة والمختلفة في نظرتها لمسألة الاحتلال , كانت النية في أول الأمر ليس الذهاب إلى الأمباسدور بل دخول أحد البارات القريبة من مبنى الجريدة كانت تلك فكرة أحد العاملين معنا, لكن زهير رفض الدعوة وأشار عليّ بالذهاب إلى الفندق للقاء كاتب سيرة بورخس ..

سألني بارنستون قائلا :

ــــ أنت تكتب عن شخصية من شخصيات بورخس كما حدثني عنك السيد زهير ليلة أمس .. أليس كذلك ؟
قلت له : ـــ كلا .. كلا ..

ثم أردفت :

ــــ تقصد : أكتب عن رجل ثقيل الظل بصيغة شايلوكية محكمة السوء ؟ لا يستطع أي مخيال تجاوز هذا الرجل الشايلوكي في دس أنفه في موضوعات لا تعنيه ومع هذا كان لا يني يتدخل من جديد كلما حاولت دفعه خطوة إلى الوراء , كان يردد أمامي وبصيغة ميلودراميه محكمة الدناءة :ــــ خطوتان إلى الوراء خطوة إلى الأمام ..

ــــ من أين تعلمت هذا ؟

ـــــ أمر هذا لا يعنيك . سأتعلم أشياء كثيرة لكي

أتمكن من دحرك عاجلا أم آجلا ..

ــــ آه يا جميل المحيا !!
ــــ اذاً أنت تسخر مني ؟

في البدء , أسميته صديقي اللدود , الغريب وجدت هذه التسمية تروق له وأي نقد أو شتيمة تدفعه أن يكون جذلا ومتعافيا وطعامه هواء آخر الليل , كان بوجهه الطولي فاقع اللون وانحناءة كتفيه من الجانبين توحي كلها بالهرم المبكر , حتى أن نظرته تبدو عاجزة عن أن تحط أو تستقر في نقطة محددة.. كان يريد أن يدفعني للكتابة عنه لكي أترك له آثارا تزيّن أيامه الخاوية , لعل الخاطر الذي طوّق الفكرة لديّ في الكتابة عنه , هي دحضه ولكي لا يخيب مسعاي في تجنب شروره, بذلت قصارى جهدي في غض الطرف عن بعض أفعاله السرية تجاهي ..

قال بارنستون بحكمة صحفيّ مارس عمله سنين طويلة :

ـــــ الكتابة عن أشخاص يخالفونك الرأي أو السلوك تتطلب الوقوف ضدهم أو تهيئة حصة من المودة والحب لهم ..
ثم لما صمت برهة من الزمن:

ـــــ هل تكرهه أم تحيد عن شروره ؟

ضحكت : كلا لقد أفسد عليّ عددا من الأصدقاء بضغينته .

كان الحضور يصغي لنا وتلقى بارنستون تحيه من امرأة أجنبية الهيئة وجميلة الطلعة , ذات عينين واسعتين وفم شهي مثير حقا , واضح أنها من بلده أو تعرفه عن قرب , جاءت مع حشد المترجمين والصحفيين وكتاب السيرة أو الروبرتاج الصحفي , جمهرة من الناس الغرباء تقاطروا على الأمباسادور ذلك المساء , كان أحد الصحفيين العرب يبدو سعيدا بمقالته الأخيرة المنشورة في الجريدة التي يعمل فيها , ويده تلوّح بالصحيفة التي حصل عليها اليوم صباحا كما يبدو , لقد التقطها من رجل الاستعلامات توا , كان بارنستون وكذلك صديقي الروائي يحدقان بالصحفي العربي الذي بدا جذلا بمقاله اليوم , ويده لا تكف تلوّح بالمقال إلى أحد معارفه من أهل البلد, كان صوته واضحا :

ــــ لقد أنصفتكم يا عراقيين , بمقالتي هذه ..

وضحك زهير الجزائري ملء فمه وهو لا يكف يهز رأسه على خطوات الصحفي العربي , أدركت أن ضيفنا التقط بعض الإشارات الدالة على محتوى الموضوع , عزز ذلك الرأي في ذهني ابتسامة هازئة ارتسمت على ثغر بارنستون في الحال , عندما راح صاحبي يترجم له الحكاية كلها , شاهدت بارنستون كيف يحرك رأسه ذات اليمين وذات الشمال , ولا يكف يرسل نظرات عاجله للصحفي العربي ..

ارتفع صوت المرأة الأجنبية التي يعرفها بارنستون شيئا فشيئا بلحن لم يكن غريبا على ذهني وسمعي والتفت إليها أسألها : إن كانت هذه الأغنية للمغني الأمريكي الستيني : آندي وليامز .. وقلت للسيدة أيضا : أما الأغنية فاسمها : مون ريفر …… وأشاعت ابتسامتها نوعا من الرضا والقناعة .. كنت أرقبها وهي تهمس بضع كلمات لبارنستون , هو يصغي لها بانتباه شديد وكان حريصا على إقناعها بتفهمه لما تقوله همسا , ووجدت صعوبة بالغة في الكف عن النظر إلى ساقيها الجميلين أمامي , ساقان موحيان بسخاء المتعة التي تأتي عن قناعة وليس بالإكراه .. وفجأة قال يخاطبها : كلا .. إنه يكتب القصة ولديه فكرة القضاء على شخص ثقيل الظل يريد الانتهاء من وجوده الطارئ .. وقد أسماه الصديق اللدود …

ضحكت السيدة الأجنبية وهي لا تكف عن تحريك رأسها بإيماءات سريعة .. كنت أفهم منها عدم الاهتمام بالذي قاله برنستون عني ..

قلت لها سيكون ذلك في قصتي القادمة ينبغي الخلاص منه أعني الرجل الشايلوكي ثقيل الظل ..

قال لي زهير :ــــ لم أعد أقوى على ترجمة كل شيء لهما لتعرف ما يقولان ..

راحت صالة الأمبسادور تمتلئ بالنزلاء والرواد وأغلبهم من الصحفيين والمعنيين بالشأن الإخباري وتسقّط الأنباء ( عن احتلال بغداد ) من هنا وهناك .. كانت أغلب الوجوه غريبة عليّ ولا أعرف أحدا منهم وقال لي زهير حين أخبرته بعدم معرفتي للحضور داخل الفندق , قال :

ــــ أغلب هؤلاء الذين تراهم هم من الدول الأجنبية أو العرب ..

انتبهت إلى ثمة من يراقبني بإصرار وعناد , لم يكن باستطاعتي تحديد وجوده القلق الذي ظل يدفعني إلى مرمىً بعيد , بدت الأشياء أكثر شدة مما عليه من قبل وازدحمت الصالة بالعديد من الوجوه والناس الغرباء عن بعضهم , أدركت أن لابد من وجود حماية خاصة تحمي المكان و إلا سوف تضيع كل الجهود التي تبذل لتأمين سلامة الأجانب , ومع تدفق الكثير من الصحفيين والمراسلين لم تعد الصالة صالحة للبقاء مدة أطول وما عاد وجودنا سلسا كما كان أول الأمر , واقترح بارنستون الانتقال إلى البار لكي نخفف من وطأة الضجة علينا هنا .. والحق كنت متلهفا لتناول زجاجة من البيرة الباردة , وتناول الآخرون ما ناديت عليه من طلبيات لي .. كان المكان شبه معتم والإضاءة غير كافية للرؤيا التامة , وجدت من الصعب معرفة القادمين وهم يهمون بالدخول فرادا إلى البار رغم أني اتخذت مكانا يواجه المدخل بصورة مريحة .. انعطف أحد الداخلين بضع خطوات لكي يدير وجهه في المكان جيدا ..

كان شاحب الوجه ونحيف الجسد وثمة انحناءة في كتفيه من الجانبين , تقدم نحوي لما رآني أنظر إليه بإمعان :

ــــ أخبروني أنك تجلس هنا , لما سألت عنك هناك في صالة الفندق .. هل نسيتني ؟

ـــــ قل لي هل أعرفك أولا ؟
ابتسم بضيق واضح : ــــ أليس في نيتك أن تكتب عني قصة جديدة ؟
ـــــ صديقي اللدود ؟
ـــــ أنا أمجد ابن الخبازة !! هل نسيتني ؟ كما نسيت إسماعيل وأهملت حياته ؟ ألم أكن بطلا لإحدى رواياتك ؟؟ ما أسمها : موت الأب ؟ أليس كذلك ؟
ــــــ وكيف اهتديت إليّ في هذا المكان ؟
ـــ سألت عنك طويلا , حتى أخبرني أحدهم متبرعا بالطبع , ليرسلني إليك هنا ..

بعدها , سلمني ورقة صغيرة ومضى منسحبا إلى الوراء ليختفي في الحال ويتركني مأخوذا لا أدري ماذا عليّ أن أفعل غير أن تفتح أصابعي الورقة الصغيرة التي تركها تستقر بين يدي :

ــــــ اعلم أنك ستجعلني أموت على الورق ميتة رمزية ( كما يقال ) ولكني , سأتربص بموتك في إحدى المنعطفات , قريبا جدا ..

بالتأكيد لم ينتبه ــــ مترجم حياة بورخس ــــ بارنستون إلى أن بطل قصتي القادمة يقف أمامي ويوجه اللوم والعتاب لي ولم يكن بارنستون يدرك أنه كان يعاتبني بل يعنفني على التمادي معه والإساءة لحياته الخاصة كما أوردتها في روايتي السابقة موت الأب , لكن صديقي الروائي زهير الجزائري كان يهمس بأذن مؤلف حياة بورخس ( مساء عادي في بوينس أيرس ) دون النظر إليّ بل كانت عيناه تركزان على بطل قصتي القادمة وهو يغادر المكان ..

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.