الرئيسية | حوار | محمود عواد: على النقدية العربية تغيير ملابسها الداخلية المستعارة

محمود عواد: على النقدية العربية تغيير ملابسها الداخلية المستعارة

حاوره عبد الواحد مفتاح

 

كيف عساك تقديم محمود عواد، هذا الشاعر النغل..المنبوذ والمشاكس بلا سلالة أو أباء مؤسسين، يكسر كل ما حولنا، يهدم الأشكال ويحطم الأبنية، إنه صراخ عظيم، صراخ يريد أن يقول كل شيء دفعة واحدة، ولا يقول شيء تحديدا، صوت متفرد جدا ووقاد، متنازع حول شرعيته الشعرية داخل المدونة النقدية، حيت ما زال إلى اليوم وبعد صدور ديوانه (أكزيما) نلاحظ جملة من النقاد والأكادمين يتحولقون حوله كهنود حمر، دون أن يحسموا في مكانته داخل الخريطة الجغرافية لقصيدة النثر.

سجالات وطرحات ما زال صداها يتعالى بين حين وأخر حول قصيدة هذا الشاعر، الذي سجل لنفسه ومتنه انتباها مبكرا وقويا. وهو انتباه من نوع صحي على ما نحسب، ذلك أن الخلخلة التي عمل عليها في عمود القصيدة وموسيقاها التصويرية، جعلته يكون مزعجا بامتياز، واليوم إذ نستضيف هذا المشاكس في هذا الحوار، فليس إلا للتعرية عن نقاط تظل لازمة في منجزه، ونناقش معه بعض المفاهيم والآراء التي سيكون لها دور أكيد في تكبير الصورة للنظر بعينين واضحتين لهذا الشاعر المزعج والجميل.

 

     *هل الكتابة ورطة ؟ وكيف تتأصل في ذات ، حدثنا عن ذلك .

أجل لكن ليس بالمعنى الذي قصــدته أنت ،إنما هي سقطة المخيال المنقب عن مؤامرته، إذ التورط بالفكرة تُمثل شرارة الشـــر المؤدية إلى اسـتبطان مجاهل وجودك بيــن براثن هــــذا الكـون الشاسع ،لـــذا أكاد أجزم أن خنزيرية الحياة بما تُختزن من بشاعة ولؤم ،قد شكّلت الحافـز الأول لإمكانية ابتلاعي لـسكين المؤامرة ،فـما أن نُشرع في الكتابة سيتضح أن الحياة  بمجملها عــبارة عن كـولاجات شرسة لاتحتاج سوى لمخيلة منكوحة بالخراب ، تعـمل على لصق وترتيـب انخسافات   عانى ولايزال يُـعاني مـــنها الكائن ،وكل انخساف يُلـازم الروح هـو تصريح ٌبضرورة قبول نزالها وتعميق التورط بها أكثر مما ينبغي ،فأية ورطة ستصدر عن خيال نشــأت طفـولته بيّاعاً للعـــلاليق في سوق اللحم وحاملاً لأكياس القــمح والشعير، في ظني أنَّ ورطة ًكهذه كافيةٌ لأن تطرحك على دكة مغـتسل الأيام القادمة ، فكلنا جثث والشاعر الشـرس هو من ينيك جثته ، أو يقترح نيك الحياة من خلالها .

   

 تقول “لا وجود لمُعاصرة في الأدب ،طالما الفضيحة ُلم تُكتشف بعد ،فالكتابة التي لا تجرؤ على امتـــلاك مشـروع فضيحتها المعاصرة ، يجب أن لايعول عليها ولو بتلميحٍ عابر ،أمّا الكاتب المُتخفي عن مستقبله   فهو غيرُ فضّاحٍ بالمرة ما وظيفة الشاعر اليوم في نظرك؟

    * أقولها بصراحة ٍتامة ،إنني غيرُ متيقنٍ من وجودِ وظـيفةٍ للشاعر،حيث أرى أن الوظائـفية تخنيث  لحالته الشعريّة ، فهي القاردة على إنتاج حضورها الشعري،والأخير  بحاجة لمــوقف يُمكّن الكتابةمن ابتكار فضيحتها ،مثل هكذا تحوّل من الصعب حـدوثه إلّا بتوافر مخيال شرير يذبح لغته بالحدث، ففي لعراق مثلاً أرى أن الأحداث أقوى ممن يحاول رصدها وكتابتها ،وصدمة الـفضيحة تـكمن في افتعال مجازر تشطب سلطة عائلات السياق المتوارثة و المعاصرة منها  على سواء ،علّ  الهشاشةَ تزول إلى غير رجعة ،إذ بالتطهر من القوالب والجنوسة المريضة، يبدأُ الأفق بالتــــــــــلويح ،وتهب روائح  التـجديد ،ويتبلور هاجس المحاولة في بلوغها الدهشة،وكل هذا مرهون بحضور الفضيحة ،والرائحة هي فضيحةُ الفضائح ،فالكاتب ُ المختبئ من فضيحته ،حتما سيعجز مـن امتلاكه فضول التخيّل   ،أما الشاعر الفـضّاح  فيحق لي توصيفه بالكلب المقبري ، ومن لا يكتبُ بهمة كلب المقبرة تزربه أشباحها ،بالنهاية تموت كتابته كما النعاج بكل نعومة ، بينما الكتابة الشرسة تحيا بموتها، والـسبب يعـود  إلى حيازتها شر فضيحتها  ، المنبثق من تذوق طعم المراحل من حافة سكاكينها ، ها هنا تــكونُ جـريمةُ الافتضاحِ قد اكتملت وما على الجـــــرح سوى الترحيب بتــحديد ملامحه بالشفرة ،ولكي نبلغ عمق

     الفضيحة ، أرى أن الراهن الحياتي ليس بحاجة لشاعرٍأو كاتبٍ ،بل لنيّاك خراب ماهر،يمنح النص فرصة تـقليم أسنان الوحش بلحمِ الضحيةِ.

*أصدرتَ أكتر من بيان حول الكتابة في سعيك لتكسير الأنساق المتعارف عليها، وهي البيانات التي خلقت انقسامات نقدية حـولها، نظراً لما تحاوله من كسرِ بنيةِ اللغة نفسها لا الأسلوبية القائمة عليها، إلى ما يرمي محمود عواد  من وراء ذلك؟

*المانفستو هو إعلانٌ انقلابيٌّ مهمته الرئيسة التذكير بضرورة الاعتداء على المتوارث والسائد منه ، فأحيانا قد يحتاج النصّ  لظهيرٍ مهمتُهُ زرعُ قــنابلٍ تحت وسادةِ النسق غايتها العبت بمناماته  الطامسة بوحل الغرور السياقي الراضع للأبوّة ،فمانفستو النغل الثـقافي قد أوضـح جوهرَ ما أرمـي إليه، كذلك “مسودة الكتابة  الوحشية” مثّلت الرهزة الجوهرية نحو العــــالم الأكزيمي ، فلـــطالما ظن الكُثُر أن اللغة هي معادل إبداعي ،ومعملٌ لمنـــتوجات  المعنى المختلف ،لكنني دوما ما أعمل بخلاف القواعد التوافقية ،وأقصى ما يهمني  في اللغة هو استعمالها،لأن التوظيف قد يضعها موضع الآمر والناهي ،بينما كي تضمن الكتابة فضيحتها ،يفترض خلوها من افتراضية القمع حتى .

*تعمل على التجديد في الأسلوب والأنساق، في كتابتك الشعرية لا على مستوى المبنى بل على مستوى المعنى أيضا، ألا تخشى على أعمالك مما قد يجرها عليه ذلك من صــــدامات نقدية قد تكون عنيفة أحيانا، نظرا لمنسوب التجريب المرتفع في كتاباتك؟

ــ من أولى مهام النص الـعناية بتجـــديد معاركه مع الآخر  الحارس للسياق ،وكلما تمضمضت المحاولة بالكوارث والكوابيس ،جاءت النـتيجة مـزيداً من الـرفسات على خاصرة الخشية،ثم إن النقد الــذي يعتقد أن النص يُســتبطن بالمصطلح  غير جدير بالالتـفات إليه والتخوّف منه ، وما يُنتج الــيوم من نصوص لاتنفك مزاحمتها للـنظرية، لا سيـــــــما أن النـص المعـــاصر أثبت جدارته وتفوقه على الجانب النظري ،وثمة ربكةُ أخرى مُنيت بها  المنظومة النــقدية ،تُلخص في عجزها من اختلاق نظـرية حَدَثية ناجمة عن ملازمتها للحدث، بمعنى أن تُستقى مفاهيمها من لحم ودم الحقبة المُنتجة للنص ، بما يقتضيه راهن المرحلة،فلو وسعنا النظر في النقد العراقي مثلاً لرأينا أن رحمه لم يتسع سوى للمصطلح ،لكن في ظني أن زهو بطن النص المعاصر لابد وأن تنتفخ بأجنةٍ نقدية ستُفاجئ النص نفسه .

*يقول مظفّر النواب ” هذه الأمة تحــتاج دروسا في التخريب” أعرف أنك من هواة هذا التخريب ومناصريه، سؤالي هنا ما حدود هذا التــخريب الذي تشتغل عليه ، جزء كبير منه ظاهر في ديوانك الأخير “أكزيما”؟

ــ التخريب هو سؤال الأسئـلة ،فمن دونها يتخــــشب الداخل بركود خارجه الجامد بالـتنميط ، والأسئلة من وجهة نظري هي قرد المـعرفة ، ولكي تفرز الكـــتابة لذتـها يتوجب عليها فـتح باب القفص والسماح  لقردتها اللـعب في حديقة النمط وتسلق أشجاره ، وتلك هي قمـة التخريب ،إذن ما تنـطوي علـيه أكزيما مجموعة تلفيقات رطبة ،لمطبخ يُديره خبث هذا الحيوان المـرح والمُحير في تنصيفه أيضاً ،والتخـريبُ الأهم في أكزيما يكمن في ولوج أنفاق الخوف والتدقيق في أدنى التفاصيل الحياتية .

 *ما تقييمك للمشهد الثقافي العراقي قبل 2013 وبعدها؟

ــ على الرغم من عدم مواكبتي لحقب ماقبل الاحتلال المتمثلة بسلـطة البعث المقيتة ،لكن بالإمكان رسم ملامح مثقفها ،فقد كان أقربَ إلى مُدلّك قوانين قتل وإقصاء ونفي ومجاعات  قذرة، ومثلما خرمشت أمريكا العراق بثقافة المُستعار والمرتزق ، كانت سلـطة صدام تدير دفـــة المشهد الثقافي بثقافة المخالب الناعمة وتقارير العلس ، فمن لايؤيد الحرب يُرمى في الزنازين ، أو يُفرم جسده ويُقدم وجبة غذاء عابرة لأُسود عدي

، أما بعد 2003 فرغم الانفساح الواسع وثورة التجريب الكتابي التي شهدها العراق ، إلّا أننا حاولنا استعادة روح القمع ، مؤسسين بذلك ظاهرة العشائر الثقافية ، فالمــــثقف العراقي بما يطرحه من سلوك ميّت تجاه من  يختلف معه في الرؤى والأفكار ، يؤهله لأن يكون الشخصية الأصلح لقيادة مضيف ما بعد الحداثة ، ولكي تثق بما أقول جرب أن تُخالف أحدهم بالرأي ، وستتأكد أن من تحاوره عشائريٌّ بامتياز ،

فحتى من يدعون مناهضة المؤسسة الثقافية من المشاريع المعاصرة هي عشائرٌ هـــــــــدفُها الأبوة والتبني .

*كيـــف تنظر إلى واقع الحركة النقدية في العالم العربي ،وهل من إضافة صحية بإمكانه تقديمها للمشهد الكتابي ؟

ــ كلّ المؤسسات الــثقافية سعت إلى التطوير والمسايرة ، والانتصار للمختلف والمنبوذ ،إلّا المؤسسة الـعربية والنقدية منـها إلى الآن تبحث في الـجنس وتأصـيله ،وسبـــــب ذلك يعود إلى تشبثها بالمنهجية المُستعارة ،ما يجعلها خادمة لأجنداتٍ سياقيةٍ ميّتةٍ ، ومــهمة النصّ المعاصر هي أن يقترح على النقد تبديل ملابسه  الداخلية  ،وإلّا فسوف يُصاب جسده بالعفونة ، والأخيرة هي فضيحة باردة ،وإذا ما تفاقم سوء حالته فقد  يضطر في يومٍ ما ،إلى كشف عورته ويمضي بتواريخ وأجيال شكّلت جزءاً من ثقافته إلى الهاوية،لكن يبدو  أن القادم أفضل بكثير ،فمنح نوبل 2016لمُغنٍّ شاعرٍشعبي بحدّ ذاتها نقلة نوعية وانعطافة فريدة في مسار  الفكر المُعاصر …

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.