الرئيسية | حوار | محمد بلمو: الشاعر هو العدو اللدود للانغلاق والانتماء الضيق

محمد بلمو: الشاعر هو العدو اللدود للانغلاق والانتماء الضيق

حاوره عبد الواحد مفتاح

في هذا الحوار مع الشاعر المغربي محمد بلمو، نحاول سبر أغوار تجربته الكتابية، والإطلالة من قرب وهو يفصح لنا عن شيء من عدته الداخلية، ورحلته الشعرية  التي انطلقت منذ التسعينات ومازالت تضيف الجيد والغني للمكتبة المغربية، من كتب شعرية لها ما يميزها ويدمغها ببصمته المرهفة والشفيفة.

محمد بلمو شاعر مثل قصيدته هائل الكرم والعفوية، تلقائيته شديدة، ليس التكلف أحد طباعه أو من سيئاته، يكفي أن تشعل حوارا معه، لتجده ينساب معك في حديت ودي ورحب. هنا نقف عند بعض العتبات الأساسية والمراحل التي مر عندها، لنقف مع هذا الشاعر ليس لمحاولة التعرية عن مطبخه الخاص، لكتابة القصيدة وإنما عن سيرتها وعن هذه الرحلة الكتابية الموشومة بالتعدد وسؤال التحقق

كبداية لهذا الحوار ، ما فاتحة النص الذي ورطك في عالم الكتابة؟ خبرنا قليلا عن البدايات؟

يتعلق الأمر فعلا بورطة بداية أدت إلى ورطات متتابعة لا يمكن للحيز المخصص لهذا الحوار أن يغطي حكايتها، لكنني سأحاول التركيز في سردها إجابة عن سؤالكم.

عندما خرجت للحياة في ستينات القرن الماضي، كان ذلك في بيت قديم من الطراز المريني مع ملامح معمار القصبات بالجنوب المغربي، في قرية جبلية بمقدمة جبال الريف اسمها “بني عمار”، منذ طفولتي المبكرة المفعمة بالفضول، وأنا أنجذب إلى صندوق خشبي كبير مركون في أحد غرف الدار وفوقه تضع والدتي حقائب وأغطية، لذلك كان ميعاد فتح أمي ذلك الصندوق يوما مشهودا في حياتي، كان مملوء بأنواع وأحجام من الكتب بالعربية والفرنسية… كنت أصغر بكثير من أن أعرف قيمتها المعرفية، لكن ذلك العالم الذي غرقت بين أغلفته وصفحاته كان قد سحرني تماما..  بدأنا نقلب أنا وأخي فؤاد الذي يكبرني بسنتين في الكتب، وقد شدتنا محتوياتها من خطوط وحروف مختلفة وأيضا مما يحتويها البعض من صور.

هذه كانت ورطة البداية التي ستؤدي بي إلى ورطة بعد ورطة بدون توقف. فانجذابي لعالم الكتب ولد رغبة لي في تقليد الخطوط والرسوم  ثم الكلمات والجمل فالأبيات الشعرية بقلم صعب وعنيد… عندما انتقلت إلى مدينة مولاي ادريس زرهون لمتابعة دراستي الاعدادية والثانوية، قادني عشقي للكتاب إلى البحث عن مكتبة ولم تكن هناك إلا واحدة صغيرة يبيع صاحبها الكتب والمجلات، كنت أجمع بعض الدراهم من عملي مع أبي في الحقل خلال نهاية الأسبوع والعطل لاقتني بها الكتب من صاحبنا “بن عشراق”، هكذا اقتنيت كتب المنفلوطي التي عمقت عشقي للكتاب وسلسلة جرجي زيدان من روايات تاريخ الإسلام وأيضا سلسلة اللص الظريف “أرسين لوبين”… ومجلات الطليعة وآفاق  العراقية والعربي الكويتية… وتجرأت يوما للبحث عن مكتبة في مكناس حيث اقتنيت كتابا سجاليا بين طه حسين والعقاد، وكانت بدورها قراءته ممتعة وشيقة…

كان ذلك كافيا لأكتب بعض الكلمات الرومانسية على شكل قصيدة حرة في ورقتين ناصعتين وازينها بدوائر بالاحمر والازرق، ثم تسللت إلى مقر جمعية قدماء تلاميذ بني عمار التي تأسست في سنة 1978 وحضرت بالصدفة جمعها العام وانأ طفل صغير… كانت المجلة الحائطية تقابل ادرج المقر الكائن في الطابق الأول، وقفت أمامها وألصقت قصيدة في حيز فارغ من المجلة وانصرفت..  كانت تلك بداية ورطتي في العمل الجمعوي بسبب الكتابة، فقد تم ادماجي من طرف المشرفين على انشطة الجمعية في اللجنة الثقافية.. ومنذ ذلك الحين كتبت مئات الوثائق والمراسلات والتقارير إلى حدود سنة 2008، حيث تحللت من مسؤولية تسيير الجمعية بعد 14 سنة متواصل من النضال والعمل المكثف واليومي المضني.

وهكذا تتوالى الورطات، عشقي للكتابة ورطني في الاشراف على مجلة حائطية بداخلية الثانوية رفقة الصديق علي المنصوري الذي اقام في السويد منذ عقدين بعد ان طاف العالم كله. وكان تتلمذي على يد استاذي الجليل القاص والناقد محمد إدارغة بالسنة الاولى باكلوريا إمعانا في التورط، فقد تعرفنا بفضله على الادب المغربي الحديث رواية وشعرا ونقدا كما عرفنا على اهم المجلات الثقافية المغربية التي كانت تصدر ولكنها لا تصلنا في زرهون، مثل “البديل” و”الثقافة الجديدة” و”انفاس” و”جسور”.. حيث انغمرت في الارتواء من الثقافة والكتاب المغربيين، بعد مرحلة كاملة من قراءة المنتوج القادم من الشرق. الرائع في استاذي الجليل انه كان يسألنا مرارا عن الكتابة ويشجعنا على اقتحام بياضاتها، فاحضرت له قصة كنت قد كتبتها عن قريتي.. بعد اسبوع خصص للقصة حيزا من الوقت في القسم، فتحدث عنها وطلب مني قراءتها على التلاميذ ومناقشتها بعد ذلك. كان ذلك مؤثرا ومبهجا، فألحت علي طموحاتي وأنا التهم الكتب تلو الكتب واخط المسودات تلو المسودات.

في السنة الثالثة باكلوريا سيكون طبيعيا أن  تورطني الكتابة في الاعتقال لمدة ستة اشهر رفقة ستة من رفاقي، لأنني كتبت بيدي بيان الاضراب الذي نظمناه بالثانوية الجديدة التي فتحت وهي تفتقر لأهم المتطلبات مثل المراحيض والطبشور… من جامعة ظهر المهراز بفاس نشرت اول كتاباتي الشعرية والثقافية في جريدتي المسار والطريق اللتين كان يديرهما الاعلامي والمحامي والمناضل السياسي الكبير استاذي الجليل الراحل احمد بنجلون. وبعد الإجازة التحقت بالرباط وعملت متعاونا مع جريدة الطريق ثم صحافيا مهنيا بجريدة الميثاق الوطني لتبدأ تجربة جديدة من ورطة الكتابة والترحال بين المنابر…

في منظورك ما وظيفة الشاعر اليوم؟

كانت وظيفة الشاعر القديم أن يكون لسان وصوت وضمير قبيلته، في العقود الماضية لعب الشاعر فالغالب دورا مشابها إلى حد ما، حيث كان لسان وصوت وضمير حزبه أكان في السلطة او المعارضة، اليوم لم تعد الاحزاب في حاجة إلى شعراء، لأنها تنتاب وتتحفظ من الشعر، ولم يعد الشاعر – وقد فتحت قنوات التواصل الكوني على مصرعيه بين يديه الهشتين- في حاجة إلى مظلة وهو العدو اللدود للانغلاق والقيود والانتماء الضيق والأعمى. الآن، اعتقد ان الشاعر مطالب بأن يكون صوت العالم ولسان الإنسانية وضميرها، متموقعا مع الحرية والسلام والعدالة والكرامة والازدهار لكل البشرية، وضد الظلم والقهر والإقصاء والاستعمار والاستغلال من أي كان وفي اي مكان وزمان. على الشاعر اليوم أن يكون صوت ولسان الانسان فيه.

المتتبع لتجربتك الشعرية، يلاحظ اشتغالك على القصيدة الشعرية فلسفيا دون السقوط في لبس الغموض، ترى ما هو سبب اختيارك لهذا الاتجاه؟ و على ماذا تراهن؟

في نظري، وحسب تجربتي المتواضعة، لا يمكن للشاعر إلا أن يكتب لغة عصره، ولقراء عصره.  لذلك سيكون التكلف في جلب المفردات من القواميس القديمة وحشرها في النصوص غير مجدي. انا احاول ان استعمل لغة مألوفة بسيطة، كي اتواصل مع القارئ، لان ذلك هو الأساس، بيد أن الاشتغال الابداعي المتأني هو الذي يتكفل بتقديم نص شعري ناضج وليسا مجرد حروف وكلمات. من الطبيعي ان يكون في اشتغالي شيء من الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس، فقد تابعت دراستي الجامعية في شعبة الفلسفة وأنجزت بحثا  ميدانيا لنيل الإجازة في سوسيولوجية الادب حول قراءة الشعر عند الطلبة الجامعيين.

من من الشعراء ارتبطت بهم وجدانيا، في رحلتك مع القصيدة ؟ وهل الشاعر بالنهاية هو محصلة قراءات؟

خلال حياتي التي ذكرت بعض ملامحها، قرأت للكثير من الشعراء والروائيين والمفكرين، من شعراء المعلقات والصعاليك إلى شعراء العصور الاسلامية إلى الشعر الحديث والمعاصر، من الشابي وشعراء المهجر والرومانسية إلى السياب والبياتي وخليل حاوي ومحمود درويش وقباني.. ومختلف الشعراء المغاربة بالإضافة إلى الشعر العالمي المترجم. في مرحلة الجامعة نشرت نصوصا شعرية كنت أحس أنها رغم اشتغالي طويلا عليها تردد صدى تجربة الشاعر الكبير محمود درويش، لذلك لم أنشرها حتى الآن في كتاب.. لكن قراءتي لفكر وإبداع المفكر الكبير عبد الكبير الخطيبي، والحفر في أعماق حياتي، مكنني من أن اتخلص من نبرة الصدى، لأخط على مهل تجربتي وصوتي الخاص. هذا يعني أن الشاعر أي شاعر ليس هو محصلة قراءات وحسب، بل إن تجربته الحياتية والإبداعية بخصوصياتها ومتاهاتها وتفاصيلها وأحداثها، وأيضا تبلور رؤيته المتجددة للكون والحياة، هي المكونات   الاساسية للتعبير عن الصوت الخاص للشاعر، هي رهانه ليحقق شاعريته الخاصة وإضافته الممكنة.

أنت من الشعراء التسعنيين القلائل الذين مازالوا يواصلون الكتابة والنشر، عدد كامل منهم توقف في منتصف الطريق،هل يعود ذلك للوضع الاعتباري الهش للكاتب؟ وماذا عن هذا الإصرار الحديدي لديك، في معانقة أزمة الكتابة أو أزمنة الكتابة بمعنى أصح؟

حكاية التحقيب للأجيال الشعرية وفق هذا المقياس كان لي رأي فيه، لانني اعتبر في ذلك تجنيا على الشعراء، لأننا عندما نقول شاعر ثمانيني أو تسعيني فقد يفهم من ذلك اختزال بل وحشر كل تجربته في عشر سنوات فقط،  ثم إن هذا التحقيب يطرح عدة محاذير، لأن الشاعر يكتب بزمن قبل ان يستطيع نشر ما كتب، فهل نحتسب في التحقيب تاريخ الكتابة أم تاريخ النشر، وأين سنحقب شاعرا كتب أو نشر أول نص له في نهاية الثمانينات، هل هو ثمانيني أم تسعيني أم بين بين. ثم اسمح لي عزيزي ان اختلف معكم هنا، فأنا لا أعتقد أن هناك شعراء كثيرون من “التسعينيين” قد توقفوا عن الكتابة. ربما هناك مجموعة قليلة، توقفت، مع انه هناك من ينقطع لمدة بسبب انشغالات أخرى ثم يعود لاستئناف الكتابة. صحيح ان الوضع الهش إلى ابعد الحدود للكاتب والشاعر على الخصوص، لا يشجع على الاستمرار، وهو ما يجعل من الكتابة مجرد ورطة لا متناهية، زد على ذلك تدهور نسبة القراءة ومشاكل النشر والتوزيع. بالنسبة لي أصر على اقتراف فعل الكتابة لأنه هو كينونتي ومتعتي ومتنفسي وصوتي الخاص.

هل تجد أن قصيدة النثر التي تكتبها بإخلاص كامل قد حققت وعدها، الذي انطلقت منه؟ أم أنها بحاجة لمراجعة جملتها النظرية بالكامل؟
ما يهم بالنسبة لقصيدة النثر، هو أنها تحررت من قيود الشعر الصارمة والمنغلقة على ذاتها وتقنياتها، هذا ما يمنح الشاعر مساحة حرية شاسعة، لذلك ما زال الافق مفتوحا امام تراكمات جديدة، خصوصا أنها لا تنفك تعيد مراجعة نظريتها. الذليل على ذلك ان القصيدة الكلاسيكية العمودية نفسها لا زالت تجد من يبدع بها إبداعا حقيقيا، طبعا النماذج قليلة جدا، لكن المهم أن قصيدة النثر لا زالت في ريعان شبابها والمستقبل أمامها للتطور  والابداع أطول.


كيف ترى للتجارب الشابة اليوم، التي تكتب هذه القصيدة ؟ وتربط نشرها بالأنترنت، هل هذا الفضاء أيضا أضاف الكثير للأدب، أم كان وبالا عليه؟

أتابع كتابات الشباب واستمتع بما تفاجئني به العديد منها من جرأة ابداعية وإمتاع. صحيح أن واقع النشر الجديد الذي اصبح متاحا بفضل شبكة الانترنيت، يطرح الكثير من الاسئلة، منها أنه يوفر شروط التساهل في الكتابة والنشر، أنا لا استطيع ان ابعث نصا شعريا لي قبل ان اعرضه على صديق ملم باللغة والنحو لمراجعتها لغويا، بينما نشرها كان يتطلب الانتظار لأسابيع لتظهر في ملحق ثقافي أو شهورا لتظهر في مجلة شهرية. الأن، هناك اماكنية لنشر اي شيء من طرف اي كان على نطاق واسع بنقرة واحدة، دون ان يستطيع أحد وقف ذلك، الشاعر وحده يتحمل مسؤولية ما ينشره كشعر، لذلك عليه ان لا يتساهل مع ما يكتب تحت ضغط الرغبة في النشر وفي الحال.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.