الرئيسية | أدب وفن | مبارك عمّان ماضي الأيام الآتية
مبارك عمان

مبارك عمّان ماضي الأيام الآتية

أنيس الرافعي

أنيس الرافعي

أنيس الرافعي

من «ذاكرة الجدار» إلى «ذاكرة ما قبل التاريخ»: عنوانٌ يمكنُ أن يكون ملائماً للتمثيل لمقولة مارتن هايدغر القائلة بأنّ «كل عمل فني يفتحُ عَالماً على طريقته، ولكن هذا العمل يمضي في ما بعد إلى صورته المتبقية الكامنة ليستقرّ فيها». كما يجوزُ أن يكون كافياً لاختزال ثنائية «الوعي – الفعل» المتحكِّمة في التجربة الجمالية للفنان المغربي مبارك عمّان، وهو يقدِّمُ مؤخراً معرضه التشكيلي الجديد، تحت عنوان: «جذور» برواق المعهد الفرنسي لمدينة الجديدة.

فمبارك عمّان المُولع بفكرة «أصل الشيء الفني» بوصفه حامل صفةٍ ومادةً مُشكَّلة وشكلاً مُدركاً، انتقل من مرحلة استلهام مرجعياته الطفولية ضمن نطاقها الشخصي الضيق ذي الصلة الوطيدة بأضغاث الذاكرة، إلى محطة البحث في الذاكرة الجمعية الإنسانية.

ومن هنا، فإنّ اللّوحات التي يزخرُ بها هذا المعرض، تتخذُ من الآثار مقال عن بنيونس عميروشوالعلامات التي خلّفها «الكائن البدائي» على ﺇهاب الكهوف والمغارات موضوعة مركزية لها.

للوهلة الأولى، قد يتراءى هذا النزوعُ كما لو أنّه عودة ارتدادية إلى النسوغ الأولى لانبثاق الفن الإنساني الساذج القائم على التشبيه العفوي والمقارنة المباشرة، والمُتصَرف حياله دونما فكرة أو تخطيط، بيد أنّ الأمر مخالف تماماً لتصوُّر من هذا القبيل، لأنّ مبارك عمّان يرتدّ إلى «ماضي الأيام الآتية»، ويسخر بمعنى من المعاني من «الفطرية» (بنفس الإدراك وتطويع الموروث صار بابلو بيكاسو «بدائياً بطريقة حداثية»)، ليقول على طريقته بأنّ هذا النزوع فعل مقاومة لدى الإنسان المعاصر من ﺃجل البقاء على قيد الحياة، ومن ﺃجل قصدية حفظ الأشياء في الذاكرة، لا التصرف إزاءها تبعاً لباعث مباشر، بل تفكيكها وتأويلها لحظة التماس معها، نفياً للعين التي تظهر صورة الشيء نفسه، وصورة الفعل كجسد للفكرة، أي كتصوُّر للشيء لا خَلْقٍ أصيل ومتعمَّد له، فأعمال مبارك عمّان الجديدة تتصيغُ بطريقة متدرجة من البسيط إلى المركب، ومن المشخَّص إلى المجرد، سواء على صعيد الرموز (خربشات، نقوش، دوائر، خطوط، قوارب، آلات موسيقية، أجساد ناحلة، حيوانات ميثولوجية بلا أعين أو ملامح واضحة…)، أو على صعيد المواد (تراب، صباغات طبيعية، خشب، نحاس، كلس، صمغ، برادة الحديد، أو بعض المتلاشيات مثل سدادات القناني أو المفاتيح القديمة…). وهو تدرج لا يشغل السند (القماشة) بطريقة اعتباطية، وإنّما على نحو يتيح تفاعل الرموز والمواد داخل «مختبر الزمن»، نُشداناً لحركية وأكسدة محتملة بإمكانها تحقيق صدفة العتاقة والقدم. فيصير هذا التف142_1_1اعل «الخيميائي» بَعْدياً وطرازاً من المقاومة ثلاثية الأبعاد: مقاومة البياض بالأثر، مقاومة الصمت بخطاب التصوير وسننه، ومقاومة تجهُّم الحاضر بمحاكاة ساخرة «باروديا» للماضي.

أمّا بخصوص التقنية المعتمَدة في هذه اللّوحات، فهي تمزجُ بين كل من النحت والكولاج، وتشركهما ضمن طبقات مضاعفة تمحو الموجود لينبجس منه ما هو في طور التكوُّن، ليس بهدف إعادة إنتاج أو بعث عالم منسيّ أو منقرض، بل لمساءلته كمتخيِّل إنساني وكرؤية بديلة للفن.

في الحقيقة، تلك الآثار والعلامات التي تظهر على لوحات مبارك عمّان، هي من ابتكاره الخاص آثار وعلامات وكهوف ومغارات «معاصرة جداً»، غير أن الخيال «المتوحش» لصاحبها وذائقته «الاسترجاعية» مغرقان في «أسطورة البدايات»، ليقول لنا بأنّ الفنان عليه أن يظل باستمرار قيد النشوء والتجلِّي.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.