الرئيسية | سرديات | ما لا نهاية للحب في التاريخ | حمودي عبد المحسن – السويد

ما لا نهاية للحب في التاريخ | حمودي عبد المحسن – السويد

حمودي عبد المحسن

 

 

فصل من رواية الراية البيضاء (الدرفش) في قيد االكتابة

قبل ألف عام وعام كانت هناك حكاية حب عظيم تنحدر من بلاد ما بين النهرين، إذ من قرية منداي التي تقع في البطائح قرب هور الحمار الذي يستمد مياهه من النهرين العظيمين دجلة والفرات تبدأ الحكاية سيما وقد أبى أهلها أن يغادروها بالرغم من أن الطوفان دمرها مرتين، فكل مرة كانوا يشيدونها من جديد لأن أهلها  قد يمتد تواجدهم إلى عصور موغلة في القدم، وقد يمتد إلى عهد للسومريين، فكانوا يأبون أن يغادروا أرض أجدادهم، ولأن حرفهم، ومعيشتهم ارتبطت بالمياه الجارية النقية، فهم كانوا يشيدون الزوارق (البلم) من البردي، وكذلك كانوا يشيدون القارب الصغير (المشحوف)، وكانوا يستخدمون الزوارق للتناقل بين القرى، ونقل البضائع من الخضروات والتمور، وكانوا أصحاب حرف خاصة الفن في الصياغة والنقش وصناعة المناجل، ثم كان لقرية منداي شيخا بلحيته البيضاء، ووجهه البهيج الوقور، وهو يرتدي الثياب البيضاء التي تسمى (رسته) اشتهر هذا الشيخ برؤية الأحداث، وقراءة التاريخ كما وارد في الكنز العظيم ( كنزا ربا) وقد لقب بالهبة النورانية في ذلك الوقت الذي اندثرت فيه القيثارة السومرية. هذا الشيخ لقب بالعارف الحكيم الحليم، فهو كان يعرف خبايا وأسرار الدنيا، ويكشف الغائب اللامرئي، وينبئ بالحوادث المقبلة، ويتروى برأيه قبل أن يتنبأ بالأمر قبل وقوعه متوخيا الدقة وصحة النظر، فكان يأتي إليه أصحاب الرأي لمشورته حيث كانوا يستشيرونه في كل شئ ويستمعون إلى رأيه ونصيحته، فقد وصفوه بأصالة الرأي وذي العقل الوافر، ويعرف الزلل في ابتدائه وأثنائه وانتهائه، وكانوا يقولون عنه أنه العارف بأحكام الدنيا ليس مثل منجم يعتقد أن ما يحدث في الأرض تخبرنا به نجوم السماء، وتنبهنا عن الأحداث القادمة على الأرض… لا أبدا… أنه كان يكرر دائما: أن المنجم لا يستطيع أن يفك رموز الكون ويفسرها، وهو في الأسفل حين ينظر إلى الأعلى، لذلك كلما رفع رأسه إلى الأعلى، ونظر إلى النجوم، فهو لا يرى غير الهالة السماوية، وهذا تأمل فقط، ومراقبة حركة النجوم في ظهورها واختفائها سواء كانت تلك النجوم متلألئة السطوع أم باهتة الضياء، إذ كل ما يحدث في الأرض اخبرنا به الكنز العظيم (كنزا ربا) وكشف لنا المستعصي والمجهول على الأرض، فما علينا سوى أن نتبصر في كلماته.

ذات يوم في ذلك الزمان القديم بلغ هذا الشيخ الحكيم الحليم من العمر أشده، وقد أورته الحوادث والتجارب وعواقب الدهور، فدعا شيوخ القرية إليه، وقد اجتمعوا إليه، ليستمعوا إلى أصالة رأيه وإدراكه الثاقب ووصاياه،  وتنبؤه الأخير، فمنه تولد الحكمة والفطنة، وصدق الرؤيا، وكانت الدموع تترقرق في عيونهم، وهم ينصتون ويصغون إليه بصمت، وهو كان يتحدث بلغة وقورة مهيبة خافتة، هادئة راقية، تتخطى سمعهم إلى قلوبهم:

ـ باسم الحي العظيم، مستعينين بالحي الأزلي في معرفة الحياة، مرتدين الأردية الثلاث من الضوء  والنور والوقار نبدأ الكلام:

يا أبناء النور ليس هناك أحد يستطيع أن يمنع القادم إلا الحي العظيم في عالم النور السماوي الذي هو فوق كل شيء، فقد كتب على مصير أبناء الرافدين والبشر كما مدون في الكنز العظيم (كنزا ربا) فالبشر عابري سبيل وضيوف على هذه الأرض في رحلة محدودة، فها أنا قد أتاني الرحيل، فالحياة واحدة على الأرض، لم يحسن بني الإنسان أن يعيشها، فكيف له أن يحسن أن يعيشها بعد الموت، وهو لم يجربها، فحياة الدنيا ليس فيها فوز أو هزيمة، والانتصار الوحيد فيها أن يدرك محاسنها بني الإنسان، ويعيشها سواء أن نظر إليها بطيئة أم سريعة، طويلة أم قصيرة، فهناك موتى وهم أحياء لأنهم تعطشوا للموت، وهناك من يعتقد أنه وصل إلى قمة جبلها، وهو لا يدري أن هناك آلاف قمم الجبال أمامه وخلفه، ثم أن أسفل قمة هذا الجبل الذي ارتقي إليه وادي عميق سواء نظر إليه أم نظر إلى السماء في بعدها التي تفصله عنها مسافة كأنها بين الشروق والغروب أو بين النور والظلام أو بين العاقل والجاهل أو بين الخير والشر أو بين الجميل والقبيح، هي مسافة كما بين الظالم والمظلوم، وهو في كل الأحوال سوف لن يبقى معلقا في قمة الجبل أي لابد أن يهبط إلى الوادي، ليواصل رحلته إلى قمم الجبال الأخرى إذا استطاع، لذلك فالحياة رحلة محدودة يجب أن تعيشوها بسلام مهما كانت المسافة بين الحياة والموت، بين الأرض والسماء.

نعم، سيأتي وقت تختفي فيه القيثارة السومرية حينها ستنخفض مياه دجلة والفرات، وتشتد السطوة، وتنقص العقول، وتضعف المروءة، وترتكب المآثم والمظالم، ويتفشى الظلم والاستبداد، ولا ينصف المظلوم من ظالم، وينتشر الجور، وتجهر الناس بالعداوة والكره والحقد، ويكثر لئام الناس والكدر والخيبة، وتفقد الكرامة والعزة، ويصير الناس يسفهون الحليم، ويدخلوه في الذل. هذا الوقت سوف يسمى آفة الزمان، فتجنبوه لأن عاقبته فساد السياسة والحروب المفرطة بسفك الدماء التي سوف يغذون الأرض بها بدلا أن يسقوها مياه. هذه الحروب سوف تجلب النوائب والفتك، فاجتنبوا آفة الزمان، وتحلوا بنور السماء الذي يضيء الأرض كما يضيء قلوبكم، فكما للسماء شمس واحدة، فلكل منكم قلب واحد.

نعم، يا أبناء النور، والشجرة العظيمة التي تلجأ إليها كل الطيور تبتغي الأمان والسلام، وكي تغني وتغرد بسلام وأمان سيأتي يوم عجيب حيث تظهر فيه القيثارة السومرية، ويظهر عازفها مندا في قريتنا منداي، ويظهر الحب العظيم  في بلاد الرافدين، هذا الحب ليس له مثيل في العالم الأرضي، فهو غير عادي، نادر، يتميز بجماله الرائع في نبض الحياة، ومنابع الوجود، فيكون نموذجا أسطوري للنفس الفرحة، وللنفس المضطربة بالأسى والغضب لما لحقت به ويلات الدهور، وما خلفته من أذى. حينئذ سيلتمس الناس دقات القلب المفعمة بالرقة الروحية التي لا تصمت ولا تخمد. هذا الحب سيعزفه مندا بأنشودة خالدة فريدة على قيثارته السومرية، يكون له إيقاع استثنائي مندمج مع جلالة الروح المندائية، لذلك قد أجيز لي أن أكشف أسراره لكم لأنه متوهج بالنور الأنيق البهيج، يذكي قلوب البشر، وتستلذ بمعانيه، فيختلف الكلام حوله، وتنطق الألسن عنه كأنه نجما في أعالي السماء يسير في إبطاء. هذا الحب الروحي لا يقهر أبدا، فما عليكم إلا أن ترعوه، وتفهموه، وتفسروه أن القلب يلتمس  المحبة، والعين تديم النظر إلى الجمال.

ثم فيما بعد مرت أعوام كثيرة بعد موت الشيخ الكبير الذي غادرت روحه (نشمثا) سجن الجسد وعالم الظلام الدنيوي، طاهرة نقية، فاك ارتباطها ووثاقها وخالعة ثوبها الأرضي، متجاوزة العفاريت والظلام التي لم تستطع أن تمنع صعودها البهي إلى وطنها الأصلي في عالم الأنوار، متحدة مع رفيقها (دموثا) السماوي، ناشدة الخلاص والنجاة في رحلة العودة الأصيلة إليها، وناجية من مخاطر وعذاب المطهر، فظهر مندا وظهرت القيثارة السومرية، وعادت مياه دجلة والفرات إلى الجريان كأنها تروي شجرة الدنيا باعثة الخير والازدهار، وعزف مندا على قيثارته، وغنى أحلى وأبهج أغانيه التي دونها في مدونته، ثم جاء زمان آخر، فاختفى كل شيء بما فيها مدونته، ودمر الطوفان قرية منداي، واندثرت مثلما سبقتها عاصمة السومريين أور بآلاف الأعوام، ولا يعرف أحد أين موقع قرية منداي بالضبط ، وأين اختفت، أهي مطمورة تحت الأرض أم هي غارقة في مياه الأهوار أم هي مدفونة في جزيرة من جزر الأهوار خاصة وقد شاعت الأنباء في بلاد الرافدين أن هناك ديوان دونه مندا بنفسه صار مفقودا حيث فيه قصائد من نظم مندا قد تغنى بها، وتغنى بحبيبته السوسنة البيضاء، لذلك تغنى بحكاية هذا الحب أبناء الرافدين تيمنا به وافتخارا به، فصار نموذجا للحب الطاهر الصادق، وصار قدوة للعشاق. حينئذ صارت حكاية الحب أسطورة تتناقلها الأجيال، وصارت أنشودة فرح للمحبين، وصارت تقال حولها قصائد شعر، وصار كل شاعر ينسب إلى نفسه أنه أول من اكتشف هذا الحب الذي كان لغزا محيرا عند الناس بينما كان شاعرا آخر ينفي ما قاله قبله من شعراء، فصار هو ينسب هذا الاكتشاف إلى نفسه، وقدم دليله بما يقوله من شعر. نعم، كل هذه السجال كان حول أحقية الاكتشاف يعود إلى حب مندائي قديم بين مندا والسوسنة البيضاء حدثت قديما في قرية منداي التي اختفت عن الوجود.

ذات يوم تعالت الأصوات فرحة، إذ أن شيخا عجوزا عثر على الديوان المفقود الموسوم بعنوان (الحب شجرة الحياة) في جزيرة داخل الأهوار، ووجد فيه تدوينات مندا الغائبة منذ  قرون طويلة، وكانت أجزاء كثيرة منها قد تلفت إلا أنها كانت مطرزة برسم العلم (الدرفش) في الصفحة الأولى منها، وهو علامة (+) كبير، وعليه قطعة قماش بيضاء مع غصنين من الزيتون وأغصان من شجرة الآس على منتصف العلامة في منطقة التقاطع، والدرفش عادة يصنع من أغصان القصب ليدل على الجهات الأربعة في علامته، و الطهارة والنقاء في بياض قماشه، والسلام في غصني الزيتون، وأزلية الحياة أغصان الياسمين. هذا، وقد تم معالجة الديوان الجامع ما بين الشعر والنثر بعناية، ليتناوله الباحثون والمؤرخون، وليشاع خبره في أرجاء البلاد، ويكون في متناول القراء، فصارت كلماته قصائد حب، وصارت أمثال رقة، وصارت مقاطعه مغناة عند العشاق:

 

                                  الطيور تشكو في العلياء

أنني راحل إلى السماء، أصعد عبر غيوم سوداء

أصعد على ظهر عنقاء، لألتقي السوسنة البيضاء

يا سوسنة بيضاء أنت تهبطين إلى الأرض الجرداء

تهبطين إلى أسفل في ليلة ظلماء كنجمة في سماء

أنا أصعد إلى أعلى، إلى منبع النور حيث الضياء:

حيث النجوم، والقمر، والسلام، والمحبة، والعناق

وأنت تهبطين إلى أسفل حيث الظلام يخيف العذراء

حيث الموتى، الهياكل العظمية، الأشباح، والنفاق

من فضلك اسمعيني: نحن كنا نسير سوية جنبا إلى جنب، وكنت أنت تغنين في قلبي، وتغرسين جذور الحياة. فجأة، توقفنا عند جسر البشر. رأينا رحيل الطيور، ذبول أزهار الأقحوان، دموعا تشكل أنهار، رؤوس ترتفع على رماح، جثثا في انتفاخ، ملابس حداد سوداء، مخلوقات ماكرة شريرة في ألف رداء، ونيران تشتعل حمراء ثم سمعنا من بعيد عبر حقول دخان: الأرض في وباء.

نحيب وبكاء، طوفان من جوع وعطش، وآلام

ثم مشينا ألف سنة، وسنة عند نحيب الأيتام

الآن، نتوقف فوق جسر نهر عظيم، يهدر بصخب الماء. نراقب المياه وهي تغسل الحجر والصخر، والعشب الذابل الأصفر بعد المطر، وأوراق الخريف الصفراء والحمراء تسقط في عتمة الألوان في هاوية رماد.

اسمعيني من فضلك: أنت دائما معششة فوق الشجر، تحت المطر، تنظرين إلى أعلى، لترين وجهك في ضوء القمر.

ثم مشينا ألف عام وعام، ولم نفترق بقلبينا لأن لا شيء يقيدنا إلى بعض سوى الحياة

أنا راحل إليك يا عذراء السماء، يا سوسنة بيضاء،هاربا في ليلة ظلماء من وحش الدماء

الآن، أجلس في وحشة الزمن، في بيت طين، وأنت في تاج الخلود يا سوسنة بيضاء. أنا أنتظر حتى تحكمين، وتتخذين قرارك الأبدي بعد أن مات الصنم، ومات ذو القرنين، والظل الأسود للجلاد، ودفنوا في ظل ضوء القمر، وهدأة الليل وسكونه، فبقينا وحدنا، إذ كل شيء واضح، ويفسر: جرائم الأولين وآثامهم، الأحجار الناطقة، والزمان الذي لم ينته بعد. فقط عندنا الكلمات حتى لا ينمحي العالم، حتى يتهذب من قشور صفراء، ومن أصوات إنفجارات، ومن تأتأة خادعة، ومن بلاد مفجوعة، وتعذيب مفردات لأننا شهداء على هذا الكون، شهداء على الموت.

الآن، أجلس في وحشة الزمن، في بيت طين، حتى تحكمين، وتتخذين قرارك الأزلي، وأنا أديم النظر إلى عينيك. عيناك لا تكذبان، فيهما لمعان خافت، فيهما إصرار، وشفتاك مثل برقع يلمع، وصوتك لطيف مثل بزوغ فجر مثل هدهدة حمام.

أنا أنتظر حكمك الأزلي، إذ لا أريد أن أكون وحيدا في وحشة الزمن مثل سراب خافت مبهر، يلوح لي من بعيد، فقد همست قطرات المطر: سوف أنزل إلى أسفل من مسارب السماء، ابتلع قبلات الأرض، ولا شئ آخر.

أنا أنتظر حكمك الأزلي لأننا عشنا أكثر من ألف سنة وسنة سوية متوحدين في رؤية العالم، وفي الأخير تريدين أن نفترق. أنا وأنت نمتلك نفس الهدف، وإن كنا مختلفان. أنا وأنت خرجنا من نفس البحر، ثم افترقنا على شاطئه غمضا، ينز الماء من جسدينا، حيث تغمس الروح ماضينا، وجفوننا في عبرة.

الكل في انتظار حكمك الأزلي. الغصن يتثنى غضا في شجرته، ينتظر حكمك حتى الآلهة المفزوعة المروعة تنتظر حكمك، وذاك الطائر الأخضر قرب الشمس الذي يصرخ ينتظر حكمك الأزلي.

أنت قلت منذ عهد التتر حينما اغتصبوا البلاد:

ـ توحدنا ألف عام وعام.

حينئذ انتفضت أنا إلى الوراء كرنة عجيبة، كندى هطل من غمام، إذ الكلمات تقول أشياء كثيرة. الكل في انتظار حكمك الأزلي في وحشة الزمن. القرار صعب لأن آلاف الأشرعة البيضاء تمخر في نفس البحر الأزرق الذي خرجنا منه، ولأن عيني تبحثان عنك بين آلاف النجوم، وجفوني ترمش قائلة:

أعطني يا سماء شهابي من عروقك

أعطني يا بحر درتي من أمواجك

أعطني يدك، لأن القدر بين راحتيك

لأن نظري مبهور بالنجوم

لأن نظري مبهور بعمق البحر

الآن، أسير أنا مدمي في بيداء، وفوق زهور تقتات من نجمك في السماء، وقد فاضت دموعي وفاضت دمائي مثل نداء:

 تجيش في صدري لوعة البطحاء

 وقد طواني الليل في الرمضاء

 ونصل السيف يرتعش في الفضاء

 الحرب لا تخمد إلا على أشلاء

والطيور تشكو باكية في العلياء

الآن، أرقد أنا على وشاح السوسنة البيضاء في ساحة الوغى، وعيناي لم تغمضا أبدا، عزني هواها، عزني جسدها، وجفوني ترقرق دمعا، وفي فؤادي صراخ، لا أريد أن أقضي حتفي في العراء لأن في شفتي بقايا قبل ولثم مثل غمام.

الحرب طاحنة حولي، صهيل جياد من قريب ومن بعيد، سيوف تضرب سيوف، ثم طعن، ثم عض بين مقاتلين، والنقع يرتفع في الفضاء من تحت سنابك جياد. فرسان تنهض، فرسان تسقط أرضا، وأنا أحتضن وشاح السوسنة البيضاء، سيوف حسام تنوش سمر الرماح.تكاد السماء تنفطر من طوفان الدماء. يكاد ركام الغيم يقطر دماء، ويلج في رعده، في بريقه. ضرب ونزال، وسيوف لوامع بواتر تغدو حد في الدماء.مراء، وتتزاحم الأجساد. تكسرت رماح، وتشققت أعلام، وسقط فرسان. هذا يجود بيديه، وذاك بقبضة رمال مغالبا أنياب سياف، وعيناي شاخصتان إلى السماء، إلى السوسنة البيضاء، والطيور تشكو في العلياء.

                                        دمعة وردية حمراء     

ذات مرة تمزقت ثيابي ليس لأنني كنت أمشي بين الأشواك، وتمزق حذائي ليس لأنني كنت أتسلق الصخور. لا، أبدا. لم يقتل أحد الظلام أو السماء، ولم يقتل أحد الملاك أو الشيطان، ولم يقتل أحد فوضى العذراء الحسناء. لا، أبدا. أنا لم أمت بسيف بتار مهما نزف دمي فوق الرمال لأن قلبي اختلج في سكون. قلبي هذا الذي تفتح لكل شيء. أخاديد زرعت فيه، جنائن غرست فيه، شعلة نورانية عظيمة أوقدتها السوسنة البيضاء، إذ نار صوفية تلتهب فيه مهما هبت أعاصير، ومهما كثر الطعن فيه. فجأة سمعت صرخة السوسنة البيضاء تتعالى في الفضاء: ثمة جموح آخر من رمي حجارة، تشابك أيدي، وجروح عميقة في أجساد، ونزف دماء، ونداء:

احملني فوق ذراعيك حبيبي، وأفعل ما تريد. افعل ما تريد طوال سنين

جرد السماء من نجومها، أملأ الأرض طوفان، حطم أجنحة الهاربين

حطم سفن الناجين، وحزنهم العميق في الليل الطويل، في الدجى اللجين

في هذا العالم المزعوم المفقود الضائع بين طغاة لا يعرفون صوت الأنين

ذات مرة، من أغوار الليل البديع، ومن أغوار الحلم المضيء، تراقصت دمعة مهيبة بهية، دمعة دافئة صافية، لامعة مثل درة بيضاء. دمعة سقطت على صدري نقية في بداية العصور، والدهور. سقطت مرتعشة، متفجرة، ثائرة. دمعة لا تذوب في حر تموز، وقد غادرت منبعها العين مباركة ، شجاعة، كريمة. لم تسقط عبثا في الليل البديع. هي أبدية ، وديعة. فجأة احمرت خجلا أن تمس صدري إلا أنها ترنمت مثل طيور: أحزين أنت؟ تلك كانت غبطتها الأولى في الزمن السحيق، مؤرقة ليلي الجليل. آه، يا ليلي الرحيب، البديع فوق صدري يترنم زائر بديع.

كان صدري في انتعاش، لتسكن الدمعة بيتها الجديد، موطنها الغدير، وتتغلغل في الأحشاء، وتغرس نهمة في الدماء، تنبش جذورها في الأعماق، تسكن في روحي مثل عذراء، ويحتضنها صدري في رواء مثل محارة في بحر، مثل نجم مذنب في سماء أو بئر في صحراء، وهي ترتوي من الدماء، يحرسها عرق الجبين.

كافئها جسدي في بهاء، ووهبتها روحي السناء، فترعرعت في مغيب، في اختفاء كنبتة مزدهرة خضلة، مزهرة، تفوح ذكاء، وغدت وردية حمراء، غرست جذورها في قلبي، وامتدت أبدية من ينبوع الدماء، تتفرع في جسدي إلى سائر الأرجاء، فصارت رائعة الجمال، وحسيت بها بانتعاش، تشع أضواء. لا أدري كم من الأيام مرت، وكم من الشهور مرت، وكم من السنين مرت، وأنا أتأوه في برد كانون، وانهمار مطر الربيع، وعندما ذرت الرياح في هجير، والنبتة تتفرع في غصون، وقد أكملت مسارها المنشود حتى بدأت تجف عروقي سوداء، وصار يؤلمني السهر، فقد شربت دمي، وصرت أرويها قطرة، قطرة حتى جاء الخريف، وقصفت الرعود، وجفت الأوراق، وتساقطت أوراق بعد أوراق، ودثرتني مثل كثبان رمال، فطويت ساقي في ترنيمة أوراق، وطقطقت عظامي مثل أوتار.

الآن، أنا وأنت يا سوسنة بيضاء قلبان في قلب واحد، وقد أغمضت جفونها النجوم في الصمت العميق الطويل، أتسمعين دقات قلبي ماذا تقول. همست السوسنة البيضاء:

ـ هذه ليست دقات قلبك، هذه دمعتي البيضاء ولدت في دمك منذ عصور، منذ دهور، قبل ألف عام وعام.

حينئذ ترنمت روحي:

ـ لا أفهم لغزها، فهي تخرج من صدري في ليلة غريبة جدا.

 لحظتئذ همست السوسنة البيضاء:

ـ آه، أنها تقول:

قبليني حتى يحدث انفجار مثل أمواج في هذيان

أريد أن تفتح الأبواب دون جرح وأنسى الأحزان

قبليني في هذه الليل الغريبة جدا، في ليلة الافتنان

ثم قالت في حسن نغم كأنه جني ثمر:

ـ خذ من ثغري أطيب قطر!

فغاب دهر وألف دهر حين راح صدري يسقى قطرا دافئا من ريق السوسنة البيضاء، وراح أنفي يشم نكهة كأنها عطر زهر بينما كان صدري طماعا ضمآنا يتلذذ، ويتشرب رشف طيب، ويرتوي بعذوبة، وإذا بهذا القطر يغور إلى قلبي، ويتجدد، ويزدهر مثل غدير أخضر، وينسى أعوام القهر، ويتضوع من أحلى ثغر.

ذات مرة، سألتني العذراء الحسناء:

ـ أتريد أن أسقيك ماء النعيم، وأجدد قلبك من جديد؟

فقلت حائرا مذهولا:

ـ لعمري، في كل عام وعام أبتغي أن يتجدد قلبي في النعيم.

يا أيتها العذراء، ماذا يقول اليوم قلبك لي

وأنت تتوجهين بنظرك الجذاب إلي

تتوجهين بنظرك بألوان وظلال

ثم ابتسامة غامضة تأتيني منك

ثم ابتسامة محايدة، ثم ابتسامة باردة

وأنت تخلعين ثيابك، وتنزعين الغد

وتدخلين كون جنس البشر، وخلق البشر

ماذا يقول قلبك لي اليوم وغدا وبعد عام

ونظرتك الحادة مندفعة إلي في هذا اليوم

نظرة ذات بريق ساطع، تنفذ إلى روحي

روحي الحائرة تكاد تطفر من جسدي

وأنا ثمل في نظراتي إلى جسدك الناعم

جسدك الساحر، المتفوق الإيقاع والأنغام

أنا أنتظر شيئا لا يبدو حدوثه، الآن

اليوم الحاضر، وغدا الغامض

وقد حدث لك هذا فيما مضى

أعرف أنك العذراء الحسناء

بجسدك المتقد نورا

كنت تمتعين النظرات الغريبة

فيما مضى، فيما مضى

أنا أعرف أنك رائعة الجمال

هبطت من علياء السماء

ربما سقطت سهوا من الجنان

لكن ماذا يقول قلبك لي الآن

فلا يمكن أن افتح ذراعي إليك

ولا يمكنك أن تأسري قلبي بجمالك

دون أن أعرف ماذا يقول لي قلبك

اختفت العذراء الحسناء في لحظة مباغتة، وإذا بي أسمع القيثارة السومرية تترنم في أور، والنجوم في طلوع، والبدر في انتظار. السماء وكل كواكب السماء في انتظار، وهذه أور المسكينة الجميلة في انتظار منذ أن بناها السومريون مزهرة بالحسن، بالقصور، بالبساتين، وحدائق ورود كأي عذراء متألقة بالزهور، بالطيب كسوسنتي البيضاء، رقيقة مثل خميلة في غدير، يداعب وجهها النسيم والعبير، غضة الأطراف دون عيوب، تستحي الغمام من طلوعها المهيب مثل غيث في الصباح الحزين.

أهذه أور في آخر زمن؟ أور في ظلال دهور، في حطام، في خراب، تأكلها الليلة الظلماء، تلوذ من الأعداء، مثخنة بالجراح. كل يوم يمر عليها كئيب. كل يوم يمر عليها يموت الأبرياء، وتسكب الدموع على الوليد في الليل العميق. أور تبكي في كل شروق وغروب، وحين تهب عواصف الرياح، هذه أور المسكينة،الجميلة في حروب، وعهود.

ههنا تعزف القيثارة السومرية كي تعود أور عروسا، وتعود الجنان، وتعود الابتسامة على الوجوه في ليل موهوب طروب. أهذه أور مثل نجم يغيب، تجردت من ريشها الغريب، ونفضت أوراقها في الخريف. أوراق صفراء في دار سليب. كم خريف مر على أور وهي في انتظار، في وعود، أن تعزف القيثارة من جديد، وتعود أور مثل شمس في طلوع، مبرقعة بالزينة والعطور.

ها هي القيثارة السومرية تترنم في حزن:

ـ أور في بكاء، في بكاء وأنين على الغريب

أور تبكي في ظلام، يا سوسنتي البيضاء

تعد السنين، وأسماء الموتى في الدروب

وتعد آلام الفراق، وأسماء جميع الحروب

وتعد الغيمة السوداء العابرة في السماء

أور تهلك نفسها أسى ووجعا في بكاء

تذرف الدموع لوحدها في انهمار، وتروي دجلة والفرات كي تحي الرمال والصخور، وأطلال الأجداد. لم يكن هذا سراب. أور ترغم القمر أن يكون بدرا يشع بالضياء والحنان، وتحمي سطوع نجمة السماء.

آه، أنا أخرج من صمتي، وأنعم بالهدوء في الليل العميق، البهيم. أخرج من ألمي السحيق كأنني أنا الشريد، الغريب، كي أستريح في هدوء من جروح، وثقل وهموم. أنا الوحيد، العاشق المشهور، المتيم بأور حمرة الخدود، إذ لا أملك أن أملك أن أعد دهور، وحتوف، وقبور، ولا مسافات بين حدود.

آه، أيتها السوسنة البيضاء، أور في بكاء منذ عصور، أغلقت باب الدار لتختفي في بكاء، وألف باب أغلقت لتكون في بكاء، وهي ترنو لعيون ضياء كي يهتز الكون في الدعاء، وتبدأ الصلوات من أجل أور، فهي مثل شمعة تحرق نفسها في سكون، وهدوء في رحم الظلام، وتسقط من البكاء ألف دمعة وردية حمراء، ألف مرة ومرة تبكي دموعا تضيء الظلام.

الآن نتحدث عن قصة هذا الحب العظيم الذي تغنت به الشعوب.

 

6 تعليقات

  1. حبكة ادبية راىعة اديبنا المميز

  2. “فالحياة واحدة على الأرض، لم يحسن بني الإنسان أن يعيشها، فكيف له أن يحسن أن يعيشها بعد الموت، وهو لم يجربها، فحياة الدنيا ليس فيها فوز أو هزيمة، والانتصار الوحيد فيها أن يدرك محاسنها بني الإنسان، ويعيشها سواء أن نظر إليها بطيئة أم سريعة، طويلة أم قصيرة، فهناك موتى وهم أحياء لأنهم تعطشوا للموت، وهناك من يعتقد أنه وصل إلى قمة جبلها، وهو لا يدري أن هناك آلاف قمم الجبال أمامه وخلفه، ثم أن أسفل قمة هذا الجبل الذي ارتقي إليه وادي عميق سواء نظر إليه أم نظر إلى السماء في بعدها التي تفصله عنها مسافة كأنها بين الشروق والغروب أو بين النور والظلام أو بين العاقل والجاهل أو بين الخير والشر أو بين الجميل والقبيح، هي مسافة كما بين الظالم والمظلوم، وهو في كل الأحوال سوف لن يبقى معلقا في قمة الجبل أي لابد أن يهبط إلى الوادي، ليواصل رحلته إلى قمم الجبال الأخرى إذا استطاع، لذلك فالحياة رحلة محدودة يجب أن تعيشوها بسلام مهما كانت المسافة بين الحياة والموت، بين الأرض والسماء”. سرد ممتع أركع ذاكرتي ليربطها بأحداث رواية حب في ظل طاووس ملك، والحب المثالي ذي النهاية الدرامية الذي ربط ميرزا بهنار. دمت مبدعا أستاذي الأديب ودام ألقك.

  3. اتمني لك مزيد من التقدم والازدهار بحياتك العمليه والمهنيه

  4. القيثارة السومرية، متى تعزف لحن الفرح ؟
    هي أشبه بملحمة فيها الشعر والنثر .. واللغة المليئة بالعنف والحب
    سلمت هاورى ابو كاظم على المادة المنشورة … ادباً ولغة وتاريخاً

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.