الرئيسية | سرديات | ليشيا والكلب (قصة ليست للأطفال) | منال الشيخ

ليشيا والكلب (قصة ليست للأطفال) | منال الشيخ

منال الشيخ (العراق ):

 

(يكون الانسان اسوأ من الحيوان حين يكون حيواناً) !/ طاغور

{وردَ اسمه في كتاب (كليلة ودمنة) ولم يلحظهُ أحد بين أبطالهِ الحُكماء يوماً،لكنه شوهد آخر مرة محفوراً على جدار أحد معابد الهرم البعيد، يتقلّدُ ألوهية موتهِ.. وينام.}

جلبتهُ معها من بلاد الصخب والعجائب حيث التطور الطبيعي لاسم (فاطِمة) هو (طُطم) أو (بطة) وفي أرقى الأحوال يصبح (تومي). نظفتهُ من غبار المدينة وقمل الأفكار وعجاجة الشهوة ولكنها نسيت أن تغسل فمَهُ من دمِ الحنين. صارت تصحبهُ معها كل صباح في هذه البلاد الباردة لتتعود قوائمه ُعلى ملمسِ الأسفلت المصقول وأذناه على سماع نباح كلاب بلدهِ الجديد. تطلّب منهُ وقتاً لتتعوّد معدتهُ على الطعام جاهز الصنع وأسنانه على قرمشة القطع النباتية معينية الشكل، بعدما كان يقتاتُ على جثث الجرذان وأجنحة العصافير المتكسرة، ثم يروي عطشهُ ببقايا عَرقٍ مغشوش في قعر إناء صدئ. كلابُ هذه البلاد الباردة مثلها مثل البشر،تعيش على النباتات واللحوم،لكن أنيابه ظلّت قوية لا ترضى بالأكل الهش الذي كان يذوب في فمهِ. انتقتهُ (ليشيا) من بين مئات الكلاب التي كانت تقفُ في طريقها وتتفننُ في نباحها ورقصها للفوز بطوق مفتاح الحياة الذي زين رقبتَهُ هو وحده. شَعْر جسمه قليل، فكّرَت، وهذا سيجنبها تمشيطه كثيراً والاعتناء به ولن تضطر لاستخدام فرشاة لاصقة لإزالة الشعر المتساقط من جسمهِ على سريرها أو كنبتها الزرقاء. وصل نباحُه الصامت إلى أذنيها كأغنية حزينة أو قصيدة تتوسل مستمعيها الرثاء. بقيت نظرتهُ تتبعها من زقاق إلى زقاق ومن بحرٍ إلى بحرٍ حتى حزمته مع أمتعتها وخيباتها في ذات نهار وطارت بهِ. وكي لا تقتله مرتين، وعدَت صاحبَهُ الأول أن تعيدهُ ليدفن هنا قرب الهرم البعيد وأن لا تدفنه على الطريقة الكاثوليكية في مقبرة الكلاب التابع لبلدية مدينتها. كانت تصطحبهُ في حفلاتها الصاخبة ليتعود سمعُهُ على نحيب أصحابها الهستيري وهسيس خواء أرواحهم الهاربة. بدأ يتعلم لغتهم ويفهمُها دون أن يُخرِج لسانهُ ليتعرق أمامهم من الدهشة ويسيل لعابهُ على أفخاذ صديقاتها. كانت (ليشيا) نباتية لا تتناول من الأذن أو اللسان شيئاً وهو كان بحاجة بين الحين والآخر إلى عضّ في رقبتهِ تحسّسهُ بأنه صالح للنباح حتى في الظروفِ الجوية القاسية. ظلَّ يشعر بالجوع لرائحة الدم بين الأفخاذ وطعم الحنين في الألسن، فــ(ليشيا) لم تكن تنزف دماً كل شهر مثل أمها أو جارتها الفارسية، بل كانت تنزف ندماً مائل لصفرة مثل ابتسامتها تماماً.تلك الابتسامة التي تضطرُ أن ترسمها مع كل لقطةٍ فوتوغرافية تلتقطها معهُ في قارعة طريق ما أو زاوية مقهى أو منصّة لإلقاء الخطب الشعرية. وحيدةً كانت تستسلم لأي فراغ يحتوي زحمة يأسها خاصة بعدما خسرت الكثير من وزنها لتناسب سيقانهُ النحيفة ومؤخرتَه الهزيلة التي كانت تملأ كفَّ انتظارها بخفّة.

سمّته (أنبو) وسمّاها (مريم)، خُلِقت من أجله، ولأجله ستصلب، وإليه تصعد، بعدما تنجب من روحهِ قلَقَين صغيرين بعيون زرق. علّمَتهُ الغناءَ والرقصَ على وجع وحدَتهِ وصمتها في ليالي الشتاء.

شاعَ في البلدة أن كلباً قَدِم من بلاد الشرق يجيدُ الرقصَ والغناء ونظم الشعر في الجميلات. كانت كل يدِ أنثى تمسّد على شَعْر جسدهِ يحسبها يد (مريم)، خُلقتمن أجله، ولأجلهِ ستصلب، وإليه تصعد، ولن يصبحنَ أمهات لقلقهِ يوماً. استزوجتهُ (ليشيا) وحدَتَها وخصّصت له عليّة البيت مأوى لما تبقى له من لهاث، يتدرب فيها على النباح الفلامنكيكي يناسب اللحظة دون أن يزعج المارة تحت نافذة تأملاته، وحتى لا يُحرجها أمام أهلها وزوارها بنباحه القروي الفظ. لكنه كان عندما يسكر بشرابِ الحزن والوحدة (يشطح) بعواء جبلي تَصَمُّ له الآذان حتى ظنوه ذئباً. كل ليلة كانت تترك لهُ صحناً مليئاً من الذكريات والحسرة يتغذى عليها في حضورها المعتم ويعقبه بكأس من ندم معتّق.. وينام.

أحبَّ (أنبو) القطط، رغم أنه لم يرد في سِفر الكلاب السلوقية أنهم توددوا إلى القطط يوماً. صار يستمتع بمداعبة رقبتهن بمخالبه المقلّمة في غفلة من (ليشيا)، فلم تكن (ليشيا) لتترك مخالبهُ القروية المعفّرة بتراب بربري تنمو في حضرتها. لم يفرّق يوماً بين الأنواع، فكلهن سواء تحت وطأة قبضتهِ. بدأت (ليشيا) بإعطائه ملعقتين من خل التفاح كل يوم بعدما نصحها بهِ صاحبه الأول كي لا يتعب من اللهاث وهي تجرجره وراءَها من عمر إلى عمر، ومن حلم إلى حلم، حتى أصبح أكثر تسامحاً مع جوعهِ لرائحة الدم بين الأفخاذ. ظلَّ يرقب من نافذته التي تطلُّ على أنواع القطط كلها عابرات السبيل:

الأنجورا الفارسية والتركية والسيامية والبالينيزى والبورمية والحبشية وحتى قطط الغابة النرويجية. حتى تعثّرت نبضاته ذات يوم بطرف ذيل قطة سوداء بعيون مفتوحة على شغف الحياة وعبق خليج غريب. عينان منكسرتان تلوذان فراراً من تكشيرة أنياب لكلاب استوائية وغير استوائية، وذيل بندوب كثيرة من أثر عضّات غدّارة. تمسّح (أنبو)بطرف ذيلها كما تعوّد التمسح بكل نوع جديد من القطط الطارئة في أحلامه القلقة، وكأنه طرف عباءة مباركة في مَزار.كانت تفوح من عباءتها رائحة بترول ولألئ ولحم مقدّد. تبعها وتبعتهُ بعدما لوّحت له بقطعة عظم اصطناعي وماءَت: هيتَ لك.

سمّاها (مريم)، خُلقت من أجله، ولأجله ستُصْلب، وإليه تصعد. حلمت هي أن تنجب من روحهِ قلقاً جديداً بعيون عسلية ولكنه ظلَّ مخلصاً للون البحر والسحاب. تعوّدت (مريم) ذات العباءة السوداء أن تملأ حقيبة احتمالاتها شرائحَ من اللحم المجفّف ودفتر شيكات محرر بموائها المُنهك، لأنها وبحكم عملها كحارسة أحلام ليلية، تصادفُ الكثير من السلوقيين الجياع في طريقها، وحتى تؤمّن لها طريق العودة إلى وسادتها الحريرية آخر الليل، كانت تلقم كل فكّ ينبح باسمها شريحةً من لحمها المقدّد: يا مريم!.. فيسكن فيهم الجوع وتمتلئ حدقات أعينهم بالرضا ويبسطون أذرعهم بوصيد أمنياتها، فتنام.

لم تفكّر (ليشيا) يوماً في أن تغلق النافذة وتعيدهُ إلى سيرتهِ الأولى أمام صحن الحسرة والذكريات، برغم تكالب القطط عليه في غيابها، لأنها كانت على يقين أنها الوحيدة التي تملك حق تسميتهِ وإعطائه عنواناً ثابتاً يؤمّن له حق اللجوء إلى الحياة. الحياة التي لم تخلق له خارج هذه النافذة يوماً،أو حقها في انجاب قلق جديد بعيون زرق متى ما تشاء. وهذا لم يكن يعتمد على لون مزاجه بالضرورة.

شاعَ في البلدة أن ثمّة نافذة ظلّت مقفلة على نباح يشبه نحيب ناي حزين، تفوح منه رائحة جوع إلى دمٍ بين الفخذين، وتنبعثُ من خصاصها ظلال كثيرة لقطط الأنجورا الفارسية والتركية والسيامية والبالينيزى والبورمية والحبشية وحتى قطط الغابة النرويجية.. فيما ظلّت (ليشيا) تردُّ على الإشاعات بإنجاب طفلٍ جديد بعينين زرقاوين، ترميه في حجر أنبو المهجور، نهاية كل خريف.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.