الرئيسية | سرديات | لا ذئب في الحديقة يا أمي | فريدة العاطفي

لا ذئب في الحديقة يا أمي | فريدة العاطفي

فريدة العاطفي  (المغرب):

 

الحافلة تنتظرنا في الباحة الرئيسية قبالة مكتبة زجاجية جميلة،تقع في الجانب الأيمن لبلدية المدينة ،وقد كسر زجاجها ليلا بعض الشباب الأفارقة وذهبوا خفية في الظلام دون أن يتعرف عليهم أحد رغم الكاميرات المركبة في كل مكان.

 أما نحن فسنذهب تحت أشعة شمس قوية إلى حديقة الرأس الذهبي بمدينة ليون…سنشاهد حيوانات كثيرة ونحكي قصصا جميلة تنتهي دائما بنهايات سعيدة. لابد أن تكون النهاية سعيدة ليتخيل الأطفال نهايات سعيدة لأحلامهم. الأطفال يضعون الخطوط العريضة لحياتهم من خلال ما يعيشونه في الطفولة وما يحكى لهم.

حضر الجميع،الأطفال مع أسرهم، المنشطون وأنا… ثم انطلقت الحافلة مع برنار صديقنا الفرنسي الذي نختاره دوما رفيقا،لأنه يسوق بهدوء، ولا يبخل علينا بأفكار جديدة غالبا ما تغير برنامجنا ومسار رحلاتنا.

بعد رحلة دامت أكثر من خمس ساعات وصلنا إلى  الرأس الذهبي وهو يمتد على شكل حديقة انجليزية على مساحة ست هكتارات سنعبرها في قطار صغير خاص بالنزهات… ما أجمل قطارات النزهة … تبدأ ألين حكاياتها بالحديث عن سيدة الثلج … تحكي بصوت جميل وعذب ،فيتفاعل الأطفال معها وهي تنتقل من حكاية لحكاية…تتوقف أحيانا لتشرح للأطفال أنواع الزهور و الأعشاب … ثم تعود لحكاياتها.

 تملك ألين قدرة خاصة على الانتقال من الحكاية إلى الواقع، ومن الواقع للحكاية كأن لا مسافة بينهما.أما أنا فأمتلك سلاسة لا تصدق في الانتقال من حكايات العالم الخارجي إلى حكايات تنام بداخلي منذ الطفولة ،خصوصا منها حكايات أمي التي لم تكن تمل من تكراراها …

كانت أمي تغطينا جيدا ،تتأكد من وضع الرأس على الوسادة ثم تبدأ في الحكي…

“كان يا ما كان في زمان جاء الذئب الماكر إلى المعزة ،طرق باب بيتها بعد ما غير صوته،وثقت به  اعتقدته ضيفا، فتحت  له الباب ، فانقض عليها  وبدأ يأكل أبنائها واحدا واحدا وهم يصرخون دون أن يأتي لنجدتهم أحد… إلى أن وصل إلى الحمل الصغير الذي أراد أن يهرب إلى أمه ، لكن الذئب انقض عليه وافترسه قبل أن يصل إلى الأم التي كانت في قمة رعبها”. لست أدري لماذا كنت أتماهى كثيرا مع الحمل الصغير الذي يرى إخوته يأكلون وهو يرتعد من الرعب؟ أي خوف جبار هذا يمكن أن يملأ قلب حمل صغير وهو يرى إخوته يأكلون في انتظار دوره ؟ كنت وأنا نائمة في فراشي… أحس بخوفه وضعفه يقترب مني حتى تتلاشى المسافة بيني وبينه،فأصبح  أنا هو، وهو أنا . كيف كنت أتماهى بشعوره بذلك الشكل ؟ لا أعرف…أعرف فقط أنني صدقت حكاية أمي ولم أفتح أبواب قلبي لأحد لزمن طويل.

 أما الأطفال هنا فأبوابهم مفتوحة لجميع الحيوانات… انتهت حكايات ألين لنبدأ الجولة في عالم الحيوانات.

حيوانات … حيوانات … حيوانات تكلم الأطفال بعيونها وأصواتها، وأطفال يفتحون قلوبهم لكل الحيوانات. للزرافة التي يتعلمون من طولها التطلع إلى السماء … رقيقة هي الزرافة حتى في أكلها تحب الورود والفواكه، ومعها أسد آسيا وهو صغير الحجم ولديه طية زائدة من الجلد تحت بطنه وشعر على أذياله ومفاصله أطول،مكتوب على اللوحة التعريفية بهذا الأسد أنه متعود على معاشرة الإنسان… يا إلهي حتى الأسد هنا متعود على الإنسان. هنا أيضا أنواع متعددة من القرود، القرد ذو الصدر الأبيض. فصاحب الصدر الأصفر وهذا الأخير يبدو جاؤوا به من البرازيل، كان منشغلا  بتكسير جوزة بحجرة صغيرة كما ينشغل الطفل بلعبة جديدة . ثم قرود متنوعة منها القرود البيضاء، و الرمادية الكثيرة الشعر ، فتلك التي ذكورها سوداء، بينما إناثها وأطفالها لونهم قريب من البيج.

يوجد هنا أيضا الخنازير والحمار الملون، ثم القطط، والتماسيح ، والنمور… لا أريد أن أنسى السلحفاة… ظريفة هي السلحفاة تمشي ببطء شديد غير مبالية بسرعة الزمن، ولا شدة الريح في العواصف.

أبحث عن الذئاب. هل هناك ذئاب؟  يبدو أنهم لم يأتوا بالذئب، هل نسوه؟ أم خافوا منه؟ أم لا يحبونه مثلي؟ كان سيدخل علينا،ويأكل كل الأطفال كما كان ذئب أمي يأكل أطفال المعزة أمام عينيها قبل أن يأكلها، ثم ربما كان سيأكلني أنا لو وصل إلى بيتنا ،لو فتحت له أمي الباب… هكذا تقول قصة أمي وهذا ما فهمته منها ،فظل محفورا بداخلي حتى تحول مع الزمن إلى كتلة سوداء تحبس عني التنفس.

 لا ذئب هنا يا أمي. فقط طيور كثيرة… طيور تسبح، طيور تطير…طيور ملونة الريش… طيور …طيور… والقلب تحمله الطيور إلى جنات بعيدة عن الذئاب والافتراس.

نزلنا في المساء بمأوى الشباب لنستعد للرحيل في الغد،كلمت أمي في التليفون،حدثتها عن رحلتي وعن الحديقة: “تصوري يا أمي فيها حيوانات من كل الأنواع و البلدان.”

ضحكت أمي و بدا صوتها صافيا في التليفون وهي تحكي:” نحن كانت الغابة القريبة من قريتنا مليئة بالذئاب. أتذكر قصة حدثت قبل خمسين عاما…” لم أتركها تكمل… بمجرد ما نتحدث عن الذئب تنشط ذاكرة أمي بشكل لا يصدق.

“أعتذر، هنا ضجيج كثير، لا أسمعك يا أمي”… وهربت من غابتها البعيدة… وأنا ألتفت ورائي خشية ألا يلحق بي ذئب من ذئابه.

……………………………………

الحمد لله أنني كبرت… أستطيع الآن أن أهرب من القصص المخيفة، وأختار ما أسمعه، وما يناسبني من كلام.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.