الرئيسية | سرديات | قصة الأمس | يونس حماد

قصة الأمس | يونس حماد

يونس حماد

 

روائح عطر فرنسي تفوح، و حذاء إيطالي يشع جمالا. على الأرض سيجارة نديٌّ دخانها ألقى بها بمجرد نزوله من السيارة ، لا يريد أن يعكر شيء صفو هواء لطالما اشتاق إليه . هنا كان ذات يوم صبيا رثّ الثياب ثقيل اللسان، و يعود اليوم شابا مكتمل البهاء ، وجيه الكلام سديد الرأي، مع كل حرف من حروفه رنينُ درهم من الدراهم المكدسة في محفظته ، كما يبدو للعيان، في وسط يدين قسرا باشتراكية الفقر التي تساوى في فيها الساكن و العابر … خرج من ذاك الوسط ذات زمن إلى عالم قوّم نطقه و عدّل فكره و جمّل هندامه، و كأنما لعنة المكان الأول كانت جاثمة على روح الحياة فيه…دَسَّ يمناه في جيب سرواله ، و راح يشير باليسرى إلى مواضع كان شاهدة على شقائه الذي كان…

تقدم بخطوات بطيئة نحو دكان بعينه، رجلٌ هرمٌ شحَّ بصره بالكاد يتبين ملامح الواقف أمامه، منزو خلف طاولة محله يسترق السمع من بوق مذياع بحّ صوته. رفع بصره إلى هذا الشبح الواقف أمامه دون أن يتعرف عليه…

ابتسم ابتسامة سخرية من قدر لا يؤمنُ جانبه ، أضعفَ القويَّ  و قوّى الضعيف . هذا الذي كان يحقّره و يستصغره ذات زمن، صار الآن كليلَ العين لا يتحرك دون أن يتمسّح بالجدران. هذا الذي كان يتفنن في ابتداع ألقاب الإهانة ليُضحك بها جلساءه صار الآن يمدّ بوق أذنه بعد أن تفتقت طبلة سمعه فما عادت تميز المديح من الهجاء. هذا الذي كان ينتدبه للسخرة الشاقة بملاليم معدودة يلملمُ الآن خيوط الشمس بعينين ضريرتين… أمامه الآن من رأى فيه ذات يوم أنه لا يصلح لشيء و لا ينفع في شيء، و أن بقاءه على الأرض خطأ من تسديدة قدر الموت، يطل عليه الآن بغير ميعاد كالموت نفسه، يرمقه بنظراتِ تَشَفٍّ حِدادٍ تنتزع منه بقايا روح الدّعابة…

 تذكر قساوة الجوع و بشاعة ذلّ طلب بضاعة على أجَل من صاحب الدكان . تذكر رأفته بالنساء و غِلظته عليه … تنهد ثم ابتسم ، كاسحا ببسمته أفكار الشماتة و الانتقام . رفع يده و صوته لتحيته، ثم واصل سفره عبر الذكريات، تاركا كثيرا من الفضول في عقل الشيخ…

وقف غير بعيد من بيت شرّع بابُه، في وسطه المفتوح على السماء سيدة تضع جسدها المترهل فوق مخدة ، و عيناها تحدقان في صحن القطاني ، تلتقط بيد مرتعشة حبات الحصى … ذاتُ اليد التي كانت قوية صارمة قبل زمن ، ذات الأصابع التي قرصت و شدت شحمة الأذن ، ذات القبضة التي كانت رديفة لسان متوعد جارح … هي الجارة القديمة التي استباحت حرمة بيت اليتيم دون أن ترقب في فضيلة الجوار إلّا و لا ذمة. هي التي أغمدت يدها و لسانها في قلبه و قلب والدته، هي التي صالت و جالت شاهرة لسانا أحدّ من الرمح، متأبطة كلّ شر، هي التي كانت لا تستسيغ النظر إليه، لا شيء سوى لأنه ابن تلك التي ما ارتاحت لها أبدا. هي التي حرّمت عليه الاقتراب من سورها أو ملاعبة صبيانها، أو رفع عينيه إذا ما رمته الصدفة في طريقها.

أمامها الآن ذلك الذي قبّحت شكله و تأففت من صورته و عافت أسماله، ذاك الذي كانت تمشّط بيدها شعر ولدها كلما رأته، و كأنما تخاف عليه من عدوى القدر… ها هي الآن واهنة العظم ، بالكاد تعتدل في جلستها ، تطيش أصابعها في صحن العدس ، و يطيش فمها بكلمات غير مفهومة ، من لسان مَرَدَ على السبّ و اللعن ما نقصت السنين شيئا من قسوته … من غرفة مجاورة أطل ولدها، ذاك الذي كانت تليّن خصلات شعره بحركات راحتها صار الآن أشبه بالكهل، يُسمع سعالُ تدخينه من بعيد، و تظهر من بين شفاهه المشققة أسنان مدمرة من أثر الإدمان. تحدثه بكلام غير مفهوم فيهز كتفه غير مبال ، ثم تنهال عليه بوابل من السّبّ مُلوّحَة بالصحن في أبشع نوبة غضب…

مضى في سفر ذكرياته دون أن تمضي صورة تلك المرأة المتجَبّرة ، يحمدُ للقدر صنيعه إذ رفعه من هذا المكان  و من ذاك الجوار ، و إلا كيف كان سيتحمل قصف الشتائم من سيدة ضاق بها ضرعا ذووا القربى، فكيف بالبعيد ؟ بل حتى الزمن لم يقدر على كسر شوكة لسانها حاد …

مرت أمامه سيدة ذات ملامحَ ليستْ تخفى، ندبتْ خدّيها برودة الجبل، و تكشّفت شقوق قدميها من بين ثقوب حذائها البلاستيكي البسيط… سروال رياضيّ ضيّق فوقه تنورة طويلة تسترُ بها ما انفضح من معالم جسدها المتآكل، و ألوان متنافرة بعيدة كل البعد عن صيحات الموضة . رفعت عينيها ثم نكست رأسها كلَّهُ دون أن تلتفتَ إليه مرة أخرى. سرّعت خطاها كالهاربة و هي تشد رضيعا إلى ظهرها بعمامة قديمة  ، و تجرّ بيدها طفلة أخرى … هذه التي كانت كوجه القمر على صفحة ماء في ليلة عفراء ، هذه الهيفاءُ اللمياءُ الفلجاءُ الغرّاءُ، هذه الغضة الطرية التي تفتحت أنوثتها كما يتفتحُ الورد على بُرعمه ، هذه التي كانت تنثرُ عبيرَ حُسنها و دلالها بين شباب الأمس و هو منهم، أو حسِبَ نفسَه منهم حين فاض لسانُه بما يُخفيهِ قلبُه … هذه الأبيّة الشّمّاءُ التي لم تكلفْ نفسها عناءَ الرّدّ بـ ” لا” نافية أو ناهية، و فضّلتْ مَدَّ شفتيها ناسفة مشاعرَهُ…

قد خبا الآن وهَجها  و ذابت أنوثها في كأس حياة شاقة تتقاسمها مع من توسمت فيه السعادة أول الأمر ، بل و حملت عنه أكثر شقائه مادامت تشتغلُ داخل البيت و خارجه . أمامها الذي رأت نفسها أكبر من أن تنصت إليه يوم باح بما في قلبه، و رأته أصغر من أن يحتضن أحلامها الأرجوانية الكبيرة… تهرب بقلبها و عقلها و كبريائها من آخر رجل يحفظ صورتها المشرقة من زمن البهاء الذي ولّى. تهرب من ماض أبيضَ سوّده غرورُها ، تهربُ من لعنة اختيار خاطئ أخذتها فيه العزة بالجمال، حين ظنت أن الجمال عملة لا تبلى ، تهرب من بهرجة مال زائفة سرعان ما انطفأت مغانمها و ورثت عنها مغارمَ كبرى …

شلّت الدهشة حركته، لا يكاد يصدق أنها هي أيضا دارت عليها دوائر الزمن، فكر في مناداتها باسمها قبل أن تتوارى عن نظره، و لكنه رآها عازمة على الهرب منه دون أن تترفق بقدميْ طفلتها الصغيرة و هي تدهسُ بنعلها الكثير من الحصى… كان دوما يحسبها في رغد و هناء بعد أن اختارت درب المهاجرين المتنعمين بالمال و السيارات، كان يظنها في بلاد أوروبا وسط أفخم المنازل و أغلى الأثواب و أحلى الطعام و أبهى العطور … لم يحقد عليها أبدا رغم أنها كسرت قلبه بذلك الرفض الجارح، ملتمسا لها العذر في فقره و في رغبتها القوية في حياة تتناسب مع جمالها مادامت قد كانت مخيرة بين الكثير من طلبات الزواج… الآن يحمدُ لها ذلك الرفض الذي كان سببا في هجرته ، و إلا لكان معها في بؤس و شقاء، و هي التي كانت تؤمنُ بأنه ليس بالحب وحده تحيا الأسَرُ ، و ما كان زواجها الحالي إلا بمشورة عقلها الذي فكر و قدر و حسب الحساب لكل لشيء إلا لأزمة أوروبا …

عاد إلى سيارته مبتسما، منتشيا بما لم يجدْ في قلبه من شوائب التشفي.هو نفسُه يستغرب من نفسِه، من ردة فعله أمام من بصموا قصة الأمس، قد صارت الأمور على غير الخط الذي رسمه قبل مجيئه، كان يتوقع على الأقل حديثا مع أهل الماضي أو احتكاكا بهم، كان قدّ ادخر في قلبه كلاما كثيرا مدججا بخيبات و صدمات و حسرات و نكسات الأمس … سرعان ما تبخر كل شيء أمام عين الشيخ الكليلة ، و جسد العجوز المترهل ، و شقوق قدمي الحبيبة … خرج قويا بصمته، قويا أمام رغبته في انتقام رمزي ممن تطيروا به ذاتَ زمن، و ها هو ذاتُ الزمن قد اقتص منهم له، دون أن يرفع يده أو يغمد لسانه.

ركب سيارته مودعا مكان الأمس و أهل الأمس ، و قصة الأمس …

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.