الرئيسية | سرديات | فصلٌ من رواية “بيت القشلة” لـ سكينة حبيب الله

فصلٌ من رواية “بيت القشلة” لـ سكينة حبيب الله

بدأت هاجر تدوّن كل كلمةٍ تصلها عبر السماعة، كما يفعل صحفيّ أمام رئيس دولة يدلي بتصريحاتٍ مهمة. لم تفكر في السبب الذي جعله يترك لها المفتاح بهذه الطريقة، ولا ما ستقول له. كانت منتشية بتلك القصاصة، رفعت الهاتف، لتخبر أمها بالأمر، لكنها تراجعت. أخيراً سيكون بوسعها أن تسأل والدها “لماذا؟” . كان أمامها يوم كامِل، كي تفكر في كل الاحتمالات، كل الأسئلة، كل الأجوبة، كل الغفران الذي قد يجرهما في ما بعد إلى ضحكات، وكل ما يمكن أن يحصل بين أب وابنته يلتقيان للمرة الأولى بعد كل هذه السنين.

وضعتها سيارة الأجرة أمام العمارة مباشرة، أشار السائق إلى بناية من الطراز النابوليوني ليؤكد لها العنوان. وقفت أمامها، مرتجفة، وهي تتذكر المرة الأولى التي وقفَت فيها أمامَ بناية “ابن بطّوطة” برفقة أمّها. أشارَت بأصبعها إلى أعلى وأخبرتها أنَّ الشقة في الطابق الرابع صارت ملكهَم. رفعت هاجَر عينيها إلى أعلى، ولم تر غير غيوم رماديّة تركت في نفسها الكآبة.

اقتربَت من أصيص الصَّبار، وسألت نفسها لماذا يترك لها والدها المفتاح هنا. رفعت بيدٍ الأصيص الصَّغير وهي تلتفت يميناً ويساراً كأنها تسرق، وباليد الأخرى تلمَّست الفجوة بين القاع والأرضية.  كي تؤخر وصولها، اختارت السلالم دون المصعد، كانت قدمها تطأ الرخام فتشعر ببرودته في كل جسدها، الدرابزين المصنوع من حديدٍ أسود قديم  يوصلُ البرودة ليدها اليسرى، والمفتاح الحديدي الذي أحكمت قبضتها عليه يتكفل باليد اليمنى. حاولت إبعاد تفكيرها عمّا هي مُقبلة عليه، لكن ذاكرتها بدت حبّة تينٍ مُجفف بلا قطرةِ ماءٍ واحدة تُشفي الغليل، وجدت نفسها مجدداً تسأل عن سبب تركه المفتاح.  “ربما يكونُ مُقعَداً”. تخيلته على كرسي متحرك وعجوز، تشق عليه الحركة، فشعرت بالشفقة تجاهه. ربما يكونُ أصمّ لا يسمع! لكن كيف ستتواصل معه في هذه الحالة، كيف تخبره أنها ابنته؟ لا تعرف، ربما بالعناق. ستعانقه إذن، وتلومه فيما بعد. لم تكن لتعرف أنها صعدت السلالم مسرعةً لولا حبّات العرق التي غطت وجهها فور أن توقفت عندَ الرقم 10.  رفعت يدها لتطرق ثم أنزلتها، بسطت قبضَتها فبدا لها المفتاح الذي تركَ علاماتٍ حمراء على كفّها أثقلَ من سِندان. استعصى عليها فتح باب منزلٍ لا تعرفُ صاحبه وتدخل ثم تقدِّم نفسها. أيّ اختبار هذا الذي وُضِعت فيه؟ لمعت عيناها وهي تفترض أنّ والدها ربما ترك لها هذا المفتاح، ليخبرها أنه بيتها، ليحقق لها ذلك الحلم القديم الذي عرِفه بطريقةٍ سرية، أجل الكتاب يعرفون كل شيء، ولا بد أنه عرف بأنَّ ابنته كانت تحلم في وقتٍ ما، ببيتٍ تدخله لتجده داخله.

غرزت المفتاح في القفل وأدرات الأكرة قبل أن يأتي خاطر يفسد عليها احتمالَها الأخير. تقدَّمت وهي خائفة وسعيدة. وجدت نفسها داخل بيت بأرضية وأسقفٍ خشبية، ومكتبةٍ ضخمة وتُحَفٍ صغيرة تفوقُ جمالاً تلك التي رأتها في منزل بوعزّة قبل أكثر من عشرين سنة. آلة كاتبة، غرامافون وكرسي هزاز، هذا ما التقطَته عيناها من بين عشرات الأشياء الصغيرة التي تملأ المكان.  سمعت صوتاً قادماً من إحدى الغرف، هو تماماً صوت ذلك الرجل في مقطع يوتيوب. صوت والدها. ها هي تسمع صوت والدها حقيقياً، لا قادماً من الخيال.

تتبعت مصدر الصوت دون أن تستطيعَ تمييز ما يقول، إلى أن أصبح واضحاً. كان صوت إيف مونتان وهو يلقي أوّل أبيات من قصيدة جاك بريفير : Les feuilles mortes.  كانت مستعدة لتقتنع بأن صوت مغنٍّ هو صوت والدها، بأن هذا البيت بيتها، وبأن أباها لم يهرب فورَ أن رآها كما أقنعتها أمها، بل فقط خرج ذات يومٍ، وأضاع الطريق ولم يفلح في العودة. توقفت مصدومةً وهي ترى والدها عند طرف غرفة المعيشة.لم يكن مُقعداً ولا أصمّ كما توقعت، أو كما تمنّت ربما. كان رجلاً ستينياً يقفُ عندَ النافذة، يدخن غليوناً وينظر إلى الشارع وهو ينصت لموسيقى الأغنية التي بدأَتْ. قالَ دون أن يستدير نحوها:

– في الخرائط، يلونون البحار بالأزرق واليابسة بالأخضر، يجب أن يلونوها بالأسود، بلون هذا الإسفلت الذي ملأ المدن.

ثم التفت ليسمح لها برؤية وجهه كاملاً، الذي من دمٍ ولحم، دون أن يدع العينين تلتقيان:

–  أين ذهبَ الأخضر؟

شعرت بارتباكٍ، لم تحدّد إن كان يمزح أم يتكلم جاداً، لم تعرف كيفَ تجيب. الطريف هو أنها ينبغي أن تخاطبه بلغةٍ فرنسية. كيف يكون والدها وهو لا يتكلم لغتها؟ صفعتها كلمة “البحار”. تجاوزت الثلاثين، وعاشت عمرها كُله في مدينةٍ ساحلية، ولم ترَ البحر أبداً؟ كل الأطفال ذهبوا إلى البحر بصحبة آبائهم. كم يا ترى من شيءٍ فاتها بسببه؟ لا بأس، فكَّرت. لا يزال البحر في مكانه، وسنزوره معاً. تقدّمت نحوه، هل يتصافح الأب وابنته في أوّل لقاء لهما؟ مدت يدها لتصافحه وهي تقنع نفسها أنه تقليد في مكانٍ ما من العالم.  مدّ بدوره يدَه، لكن ليشير إلى كرسيّ خشبي مجاور.

-اجلسي قليلاً كي تستجمعي أنفاسك.

نظرت هاجر إلى يدها المعلقة في الهواء وهي تكتم ضحكتها، لا بدّ أنها طريقته في المزاح، سيباغتها من خلف الكرسي، ليخبرها أنه يشاكسها فقط.

– قبل أن أنسى، اتركي المفاتيح قبل أن تغادري.

فكّرت في ترك كلامه يمضي، ألّا تسأل، ألاّ تعرف. لكن الوقت كان متأخراً على قرار الصَّمت. تركتِ الجملة الأولى تندفع من فمِها إلى أذنها، فأشعرتها أنَّها تسمعُ صوتَها لأول مرة:

–  لماذا تركتَ لي المفاتيح؟

– كي تتذكري عندَ نهاية اللقاء أني لم أفتح لكِ الباب. أنكِ أنتِ من أراد كل هذا.

ما فعله والدها طيلة السنوات السابقة، لم يساو عندها ما قاله للتوّ. كرهته من صميم قلبها، تمنت لو بإمكانها أن تدفعه من تلك النافذة ليهوي ويختفي من الوجود. شعرت بضآلة نفسها، بسخُفِها، وهي تفكر بعاطفةٍ غريبة في كل ما خطر لها قبل أن تفتح الباب وتدخل. شعرت أنها تتعرض لاختبارٍ مُهين من رجل لم يعد بوسعها أن تسمّيه والدها. كانت غاضبةً، ولوهلةٍ، تأكدت من أن كل ما مرّ بحياتها من أذى، كان بسبب هذا الرجل.

تركَ الغليونَ، تحرّك بخطواتٍ مرتاحة صوب كرسيّ مقابلٍ وجلس، ثم مدّ يده يتناول فوق طاولةٍ صغيرة، فنجان قهوةٍ بدا بارداً لا يسرّب أي بخار. الموسيقى تحفر أخدوداً في رأس هاجر، وتشعل ناراً تجعله يغلي. تمّنت لو يخفض صوتَ الأغنية أو يطفئها حتى تستطيع التركيز، لكنه لم يفعل، بل ارتشفَ الرشفة الصغيرة المتبقية في قعر الفنجان ووضعه جانبا قبل أن يقول بأعصابٍ باردة:

– جئتِ لتناقشيني في روايتي؟ هل تعدّين أطروحةً جامعية حولها؟ إن كنتِ كذلك، للأسف، لم يعد هناك كلام آخر أضيفه حولها. أستطيع مدَّكِ بحوارات وقراءات وأطروحات قديمة قد تنفعك أكثر.

راحت هاجر تضحك، تقدمت نحو الكرسي وجلست بعد أن عجزت قدماها عن حملها أكثر. أية لعبةٍ يلعبها هذا الرجل؟ فكرت أن تنهضَ وتغادر، لكنها سمحت له  بفرصة أخيرة. قالت، ووجهها استعادَ شيئاً من الدَّم:

-جئت كي أراك في الحقيقة. كي أسمع منك.  أذكرك بنفسي: هـــا…

 هاجر الشّهب، أعرف. Et alors؟

قاطعها صون نام، ومدّ يده بحركة آلية إلى الفنجان الفارغ، وبارتجافةٍ صغيرة تُحَسّ ولا تُرى. كأنّ اسم “هاجر الشَّهب”رمى حجراً في بئرٍ عميقة ومنسية، وأحدَث ضجّة.

 سادَ صمتٌ قصيرٌ، ملأه مقطع إيف مونتان :

إنَّها أغنية تُشبهنا
أنتِ أحببتِني، وأنا أحببتُك
وقد عشنا سويّة
أنتِ يا من تُحبّينني.. أنا من أحبّك.

نهضَت هاجر بقوّة من كرسيها وفي نيتها التوجه نحو باب الشَّقة. وقف صان نام وعاد إلى النافذة وهو يقول بصوتٍ أراده أن يصلها:

– ما الذي ذكّرَك بي الآن؟ لِمَ الآن تحديداً؟

 لم تكن هاجر المرأة من يبكي في أعماقها وهي تسمع ذاك كله من والدها، بل كانت الطِّفلة.  قررت أن تدافع للمرة الأولى عن تلك الطِّفلة التي لم يسترد حقها أحد طوال الحياة، أن تنتصر لها، فكان ردّها كذبة لفَّقتها بخيال الطِّفلة. رفعت سبابتها أمام الرجل الذي كانت قبل نصف ساعةٍ تتخيل عناقه، رمت في وجهه المفتاح، وغادَرت فيما أغنية “الأوراق الميتة” تشارف على نهايتها:

الأوراق الميتة تُجمع بالمجرفة،
ومعها النَّدم والذكريات.
لكن حبّي الصامت والوفي
سيبتسم دائماً و يشكر الحياة.
أحببتك كثيراً، كُنتِ حلوةً
فكيفَ تريدينني الآن أن أنسى؟

 

حين عادَت ليلتها من لقائها بوالدها، بدَت حبيباتُ الطلاء في جدران شقّتها مثل جلدٍ مقشعّر، والقمر المطلّ من خلف الضباب في ذلك الليل، مثل عينِ كلثوم بعدَ أن أصيبَتْ بالغلالة. كل شيءٍ في تلك الليلة كان يجعلها تبدو أمامَ نفسها مثل بقعةِ عرق تحت الإبط، واضحةً وباعثة على التقزز في آن.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعرة وروائية مغربية، والرواية صادرة مؤخرًا عن الدار العربية للعلوم بدعم من مشروع آفاق ومحترف نجوى بركات للرواية.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.