الرئيسية | فكر ونقد | غادة السمان والرقص مع البوم، نص شعري في الحداثة و المعاصرة | فواد الكنجي

غادة السمان والرقص مع البوم، نص شعري في الحداثة و المعاصرة | فواد الكنجي

فؤاد الكنجي

 

 

توضيح:

مخطوطة الكترونية لكتاب تحت عنوان ((غادة السمان والرقص مع البوم، نص شعري في الحداثة و المعاصرة ))، والكتاب عبارة عن دراسات نقدية لديوان (الرقص مع البوم) للكاتبة والشاعرة (غادة السمان)، تأليف فواد الكنجي ..عام  2018.

 

المقدمة 

جماليات الشعر المعاصر وحداثته  

الشعر المعاصر، شعر تنطلق كلماته من خلال لغة الروح، تلك اللغة التي تنطلق التعبير من خلال احتكاكها بمعطيات الواقع أثرا .. وتأثيرا .. وفعلا .. وانفعال، فهو إذا لغة الروح تعبر عن الحياة التي يعيشها الشاعر ومحيطه ووفق نمط الواقع الذي يفرز على حياته، والذي يعطي للمفردة الشعرية طابعها الإيحائي في الشكل والصوت وفق ما يربطها بواقع الحدث ومضمونه، وفي كثير من الأحيان تأتي المفردة كصوت ليس إلا.. و بعيدا عن أي معنى لغوي لتلك المفردة، بقدر ما يكون التعبير بها مرتبطا بطبيعة الفعل المؤثر في ذات الشاعر، لأنه يواجه الفعل بالمفردة وبما يلاءم التعبير وفق تصوراته، فالمفردة الشعرية في (الشعر المعاصر) تكيف مخارجها سواء بالمعنى أو بدون معنى، و وفق كل اثر .. وتأثير ..وفعل ..وموقف، لان الشاعر يعبر بالمفردة بما يلاءم ما تمخض في أعماقه مترجما تأثيره بها، فاللغة المعاصرة في الشعر تتشكل وفق طبيعة الحياة المعاصرة تشكيلا جديدا وبما يناسبها ليكون (الشعر المعاصر) له تأثير لمتلقيه .. يتفاعلون بقراءاته .. لان نفوسهم تشعر بمفرداته كونهم معاصرين بحداثة اللغة ولان (لغة المعاصرة في الشعر المعاصر) تواكب مستويات تطور والمعاصرة، لذا فإنها تسعى للارتقاء بلغة العادية، ولهذا فإنها تأتي مكثفة ومركزة بالرمز والإيحاء ومعبرة ومفعمة بالانفعال والنبض وبالعواطف والمشاعر والأحاسيس وذات مدلول تارة يرتبط بمدلوله الذهني وتارة أخرى يرتبط مدلوله بمخرج صوتي مجرد، ولهذا فان (الشعر المعاصر) ذو لغة معاصرة يحتويه (اللفظ) و (المعنى)، لان الشعر المعاصر انطلق بهدف تجديد اللغة الشعرية التقليدية بلغة ديناميكية التطور، في التغير وتقبله، فالصورة الشعرية المعاصرة خلقت عالما شعريا جديدا بما لم يشهدها الشعر من قبل وبما أمكنته اختراق (الزمان) و (المكان) وبشكل ملفت لتشكل في ذلك أسس إبداعاته الذي رغم حداثته المعاصرة استطاع ان (يلفق) مخارجه بمعطيات جديدة، فهو حافظ على ركائز القصيدة النمطية ولكن احدث تغير في اللغة وعاصرها وفق المنظور الزمان والمكان (الزمكانية) وبملامح هوية العصر والمعاصرة والحداثة والتحديث، لان الوعي الشاعر بأهمية تطوير اللغة كان دوره كبيرا في إنتاج الشعر، فكما كانت القصيدة النمطية ترتكز على اللغة وكان تقيمهم للقصيدة قائم وفق قوة اللغة، وكثير ما كانت تلك اللغة تفوق مستوى متلقيها، لذا فان (الشعر المعاصر) اهتم كسواه النمطي بـ(اللغة) بل سعى الشعر المعاصر إلى إضافة قدرة أخرى إضافية إلى إنتاجه الشعري عبر الإشارات الرمزية وتكثيفها ودلالاتها ولكن بلغة مبسطه، وهذا ما جعل الشاعر المعاصر يبحث ويطور لغته الشعرية – وبشكل مستمر- بما يوافق تغير مواقعه (الزمكانية) بلغة مجازية تضيف له رصيدا لغويا وألفاظ جديدة والتي بجملها وألفاظها تختلف كليا عما كان رصيده اللغوي قائم في المورث النمطي لتكون له خصوصية متميزة في اللغة المعاصرة كونها أصبحت طرفا بين (الشاعر) و (المتلقي)، ولهذا سعى الشاعر إلى تطوير لغته بما يدفعها نحو التعبير لتكون أكثر أداء بمفردات جديدة غير مستهلكة وهو الأمر الذي جعل الشاعر المعاصر يبتكر أسلوبه بمفردات وتقنيات معاصره غير مألوفة، وهذا الأمر هو الذي قاد (الشعر المعاصر) إلى تركيز على مفردات (اللغة) كاختصار مبطن لمعاني يمكن تأويل رمزيتها بمختلف اتجاهات باعتبارها أهم مبتكرات الشعر المعاصر والذي تجاوز عن مفهوم اللغة بكونها خاضعة لقوانين اللغة ذاتها لا يمكن تجازوها، لذا فان (الشعر المعاصر) تجاوز ذلك وأزال الحواجز والقوالب ولم يعد يخضع لقوانينها وراح يمزج في النص الشعري فنون الرسم التشكيلي بمختلف أجناسها ويستخدم أرقام الحساب والتنقيط و تكرار الحروف و رموز أسطورية إلى آخرة من تقنيات.. فاستخدام الشاعر لرموز والدلالات، انطلق من اجل توضيح التعبير عن إرادة مسؤولة يمتلكها من اجل توضيح النص الشعري والتوغل في عمق النص، لان من سمات (النص) في الشعر المعاصر يوصف بميزة البحث والتحليل اللغة المعاصرة للشعر وهذه الميزة في النص تشكل إحدى ابرز مميزات الجمالية في (الشعر المعاصر) وإحدى أساليب اللغة المعاصرة المتطورة في النص التي تدفع المتلقي لها إلى خلق رؤى جديدة في المواقف مرتبطة بواقع القصيدة المعاصرة وبالعالم والمحيط، بكون اللغة الحديثة في القصيدة المعاصرة هي لغة غير مألوفة لغويا لأنها ذاتية المخرج وتحمل الفكر والموضوع واللغة ضمن علاقة موحدة داخل أيطار النص الشعري وتوحده، ولهذا يتحمل نص القصيدة المعاصرة قراءات متعددة، وهو الأمر الذي ينوع روى المتلقين لها عن مغزى المضمر فيها وهذه هي الميزة الجمالية في بنية القصيدة المعاصرة، بكون الشاعر المعاصر يحدث (لغة القصيدة) فيوظف مجمل عناصر الإبداع الفني فيها من الرمز والإيقاع والصور الشعرية والدراما الشعرية ويحبكها حبكا فنيا بعد إن يضيف لها ذاتيته وما يعانيه من الإحباط واليأس والتمرد والاغتراب والاغتراف والألم والقنوط والعذاب والأحلام والاحتلام بشتى إشكاله، وهذا الضغط .. وهذا التكثيف الذي يحاول الشاعر كبسه في داخل القصيدة هو الذي يجل مفرداتها تخرج بنص شعري يكتنفه شيء من (الغموض) الأمر الذي يقود المتطلع والمتلقي لها بتعمق البحث عن مفاتيح متعددة لتفسير والتحليل والتأويل مفردات القصيدة، وهذا الأمر يجعل من المتلقي للقصيدة الحديثة محركا لإحساسه وهو هدف (الشعر المعاصر) بان يجعل المتلقي يستقبل (النص) من اجل تواصل معه وتحريك إحساسه ولا لسكوته، ليصبح طرفا منها في التحليل والتأويل والبحث، لتتحول العلاقة بالانفتاح بين اللغة المعاصرة في القصيدة والمتلقي، لان اللغة الحديثة المعاصرة في القصيدة تجذب المتلقي وتغريه بلغتها، من حيث كثافة رموزها ودلالاتها وإيحاءاتها، فتدفع المتلقي إلى الاستمرار في البحث وفك الرموز من النص الشعري وإعادة قراءة الكلمات وكيفية التي تم صياغة العبارات، وهذا الأمر بحد ذاته يفتح مجالا للمتعة الجمالية ضمن الرؤية في النص الشعري، وهو ما يودي إلى توسيع في تبيان الامتداد في لغة الشعر، التي ترفع من مستوى القصيدة والشعر و تخلق نوع جديدا من العلاقات الافتراضية رفيعة المستوى بين النص الشعري وبين المقاربة نقدية من لدن المتلقي أين كان مستواه، وهكذا تبنى العلاقة الناجحة بين اللغة الشعرية للقصيدة المعاصرة والمتلقي لهذه اللغة التي تعمل على إعادة الإنتاج الحياة وطبيعة العلاقات ألقائمه بين المتلقي والقصيدة المعاصرة وتطورها، لتكون هذه (اللغة) بمثابة الحدث الأبرز في الحياة المعاصرة بما تحدثه اللغة الشعرية من ثورة معرفية، لان (النص الحداثي) في الشعر المعاصر من غير التأويل والتحليل النقدي لا يمكن فهم موضوعه أو منطقه، لان (النص) في اللغة القصيدة المعاصرة يجعل المتلقي لها يذهب لفتح البحث عن البنية اللغوية العربية ويحاول تفكيكها لمنحها فهما جديدا للحياة، وهذا ما يضيف لفكره مزيدا من الإبداع ومزيدا من المعرفة، لان (الشعر المعاصر) ضمنا يقدم الرؤية وفق الخصوصية والدلالات لمختلف المفاهيم الفكر المادية والروحية والاجتماعية والأخلاقية كقيم لرقي الحضارة وسمو الحكمة والأمانة، فهذه القيم تأتي وفق الروية الشعرية المعاصرة وهي على مستوى عالي من التعبير الفني و الجمالي، فبقدر ما تأتي القصيدة معبرة بحرية عن الكبت والعزلة والاغتراب والتمرد والخجل وتقوقع الذات فإنها تسمو فوق القيم بالجرأة وبالشفافية التعبير عن الوقائع و الحقائق وبعيدة عن التزييف أو التزويق أو النفاق، ليتم له اختراق جدران الصمت والسكوت منطلقا التعبير بحرية والبحث عن الذات في وسط قيم متخلفة ومنحطة.

وبهذا السمو يرتقى الشعر المعاصر مع انفراده وصعوبة تكريس مواقفه في مجتمعاتنا الشرقية، إلا انه أنتج حركة فاعله لحجم تفاعل معه، فأصبح (الشعر المعاصر) بمثابة ثورة اجتماعية فرض وجوده رغم الحواجز واتجه نحو الإنسان ذاته ليشعره بوجود حواجز وموانع تصده عن واقعه وعن واقع الحداثة الشعرية، فطرحت أسئلته بكل حرية وجراءة و مصداقية لبناء حياة حرة من خلال لغة شعرية معاصرة قادرة لتحويل فضاء الحياة إلى فضاء مفتوحا على كل الاحتمالات والاتجاهات، لان (الشعر المعاصر) تميز بقدرته الهائلة على بناء تصوراته الفلسفية والسياسية والاجتماعية، وهو الأمر الذي أمكنه على خلق حركة ثقافية وسياسية استطاعت التمرد على كل ما كان مقدسا وممنوع وتتخطاه، فعملت القصيدة المعاصرة بطابعها (الحداثي) على التعبير بما هو في أعماق الذات، فتصور العالم من خلال هذا الواقع ومن خلال الذات وبعملية عقلية واعية لتعطي مفهوما جماليا لـ(لغموض) الذي يتصف به (الشعر المعاصر) لحجم الرموز و الإشارات والإيحاءات والتعبير الغير المباشر في القصيدة، لان الشاعر ينظر إلى (الشعر) برؤية (فنان) ويعتبر (الشعر) (فن) يسمو بالقيم (الجمالية)، ومن هنا تأتي (المتعة) في تقصي سر (الجمال) الكامن في هذا الغموض الذي يتصف به (الشعر الحديث المعاصر)، فقدرة الشاعر على استنقاء الكلمات والرموز واللعب بالمعنى وبمفهوم الكلمات واصطباغها بطابع المعاصرة والحداثة هو جزء من (التغير) الذي يلعب الشاعر على أوتاره من اجل قصيدة متميزة، الأمر الذي يتلقاها المتلقي بشيء من (الاستغراب) لأنه لم يعتاد على هذه الصور الحداثية، وهو ما يدهشه ويجعله يغوص إلى أعماقه لفهمه، وكلما تظهر صور الحداثة في الشعر من الغموض إنما هو جزء من (التغير) ينشده الشاعر، وهو أتي نتيجة الخيال والحدس الشاعر لإظهار الصور الساحرة (جماليا)، ليبهر المتلقي بتلك المفردات الغامضة والتي تستوعب معاني والمصطلحات المعاصرة، لان إبداع الشاعر تكمن هنا بكونه قادرا على استيعاب التقنيات الحديثة والمفاهيم المعاصرة والأفكار الإبداعية والتي تؤدي إلى اختصار طريق إلف خطوة بخطوة واحده، ومن ثم تكثف بالأسئلة وتطرح الأفكار بمعالم شديدة الاختصار، لان إمكانية الشاعر الإبداعية تتحقق بقدرته على البحث عن اللغة وإعجازها وتأويل مفرداتها الباطنية، ولفهم ذلك يتطلب البحث وتقصي، لان فتح لغز هذه الغموض هو بحد ذاته يولد للمتلقي حافزا ذهنيا لتطوير قدراته الذهنية بفك شفرات الرموز من القصيدة لامساك بخيوطها، وهنا تكمل (الجمالية) في تذوق القصيدة المعاصرة، لان الشاعر في عمله يستحضر خياله وأفكاره وأحاسيسه وعواطفه مبلورا ذلك بما يتفاعل به بتجليات الروح الغامضة فيبدع إخراجها مع اللغة بعيدا عن رمزيتها الاعتيادية والمتآلفة عليها اجتماعيا، ومعتمدا على إيقاعها اللفظي أكثر من إيقاعها الباطني المتعلق بالمعنى، لتكوين إيقاع داخل النص الشعري يربط النغمة الموسيقية بين الإيقاع الشكلي والداخلي للمفردة، وهذه الصورة الذي يكونها الشاعر المعاصر تأتي نيابة عن الوزن والقافية للقصيدة التقليدية وبشكل أعظم مما كانت علية الصورة القديمة، لان (التجديد) و (التغير) الذي أراده الشعراء المحدثين قد جاء ليس الخروج عن المتوارث و المألوف فحسب، بل الخروج من (اللغة) ومعنى المفردة في كثير من الأحيان متجاوزين بذلك كل الثوابت الفنية للغة وللفكر وللقيم وبذلك – كما قلنا – استطاع (الشعر المعاصر) التمرد على كل ما كان مقدسا وممنوعا وتخطاه، ليبدع إشكالا متنوعة في الكتابة والتعبير الشعري المعاصر الذي ليس له أي شكل من إشكال القواعد من (الثبات) و(الاستقرار)، لا من حيث الشكل ولا من حيث المضمون، بعد إن تم إقصاء أي قداسة في شكل القصيدة ومحتواها وامتزج (الوعي) بـ(اللاوعي) وتمرد عن الشكل والبنية التعبير ليطرح (الشعر المعاصر) أسئلته الصعبة والمستعصية فنيا عن الحل، ليكون الشعر المعاصر شكلا من إشكال (التمرد) عن الواقع، كما يعيشها الإنسان المعاصر مغتربا في هذا العصر، لان (الشعر المعاصر) بات رؤية معاصره يقاوم المألوف ويتمرد عليه ويطرح التجديد ويراعي التطور والتعبير عن متناقضات الحياة والمعاناة الخانقة من خلال عبثية الحصار الذاتي واللا معقولية الوجود. فهذا الاتجاه قد قاد (الشعر المعاصر) إلى التمرد وتجاوز كل ما هو متخلف، والتعالي عليه، من أجل الانتماء إلى عالم يتسم بالحضارة والإنسانية، لان (الشعر المعاصر) عبر طرحة رؤيته التشاؤمية والعبثية، إنما انطلق قاصدا من خلالها لتجسيد هموم الإنسان المتمزق في حضارته بالغربة والاغتراف وبالفقر الاجتماعي والألم والمعانات التي تجاوز حملها، ليأتي من خلال (الشعر المعاصر) يرمي فيه أعباء الحياة ويطرح معانات البائسين والمهمشين والجائعين والفقراء والمتشردين والمغترفين والمغتربين والهاربين من الحروب و من جرائم الإرهاب التي تدمر أوصال الحياة لمعالجتها بكل الوسائل الممكنة.

 

قراءة في نص الديوان

من خلال ما تقدم، فان قراءة في ديوان الشعر (الرقص مع البوم) وهو ديوان من الشعر الحديث المعاصر أصدرته (غادة السمان)، وهنا سنسلط الضوء عليه كنموذج و كنص حداثي في الشعر المعاصر، فالديوان يقع في (176) صفحة من القطع المتوسط وقد جاءت الطبعة الأولى بتاريخ (2003)، وهو من منشورات غادة السمان- بيروت- لبنان، وحينما نبحر في نصوصه الشعرية سنكتشف ما لغادة من ملكة شعرية يمد الأدب بعطائها كل ما هو حديث ومعاصر، فان أمواجه ستأخذنا إلى عالم شفاف كله جمال وسحر بما جاد وجدانها فـ(الرقص مع البوم) رغم غرابة العنوان ولكن لن يكون غريبا حينما نعمق الرؤية فيه لنرى كيف (غادة السمان) تتناغم برقصتها مع (البوم) وتحاوره ويحاورها وفق سونوتات موسيقية يتألفان معا بمخارج فنية عالية لتكتمل لوحة رقصهما بشكل مثير ومدهش  :-     

((….هل شاهدت مرة بومة في سيرك ؟

أنها مخلوق يستعصى على التدجين

و يرفض التسول العاطفي و منطق اللعبة الاستعراضية..

هل شاهدت بومة تحاول إضحاك احد

او جره إلى مداعبتها ككلب زينة يهز ذيله ؟

هل شاهدت مرة بومة مستقرة في قفص تغرد لذلها ..؟

هل عرض عليك احد شراء بومة من سوبر ماركت المخلوقات الداجنة 

البومة لا تباع

لكنها تحلق إلى ما تحب و من تحب، أفلا تحبها ..؟

…..))

حينا يبدأ النص الشعري بهذه الإطلالة الرائعة عبر أسئلة أرادت (غادة) إثارتها لتسليط الضوء على الطائر(البوم) بهذا الشكل المثير، فان السؤال يثير فينا فيطرح تساءلنا لماذا اختارت (غادة السمان) هذا الطائر ولماذا تسلط الضوء عليه…..؟

أنها – يقينا – إرادة إن تثير فينا هذا التساؤل لكي نستقصي عن سر هذا الطائر(البوم) وفي عرفنا كشرقيين إننا نقارن وجوده بالتشاؤم فهل عند (غادة السمان) هو كذلك …؟

في مقالة سبق لـ(غادة السمان) نشرها قبل أكثر من ثلاثة عقود وتحديد في 24- 11 -1984 و إعادة نشرها في مقدمة هذا الكتاب (الرقص مع البوم) تحت فقرة ( لماذا تشاؤم البوم منا …؟)، حيث تقول:-

(( …..في عطلة كل أسبوع اهرب من باريس و بعض الأصدقاء اللبنانيين إلى بيت ريفي جميل، المزرعة تملكه أسرة عربية صديقة
و ما نكاد نصل إلى ذلك المكان الخلاب حتى تغادره عشرات البوم إلى الغابة المجاورة و لا تعود إلا بعد ذهابنا إلى إعمالنا و بيوتنا فجر الاثنين..! ظاهرة غريبة لاحظتها الأسرة العربية و لم تجد لها تفسيرا فهي كمعظم جيرانها من المزارعين الأوربيين تحرص على إقامة البوم عندها في أقفاص خاصة مفتوحة لفوائده في مكافحة الأفاعي و الجرذان و الحشرات الضارة بالنبات و الإنسان..

 قلت لأصدقائي اللبنانيين لعل البوم صار يتشاءم منا و لا يطيق رؤية وجوهنا المشئومة، نحن اللذين احرقنا بلدنا و دمرناه و خلفناه خرابا أين منه الخراب المنسوب إلى البوم زورا و ظلما ؟

لا أذيع سرا إذ قلت إنني لا اكره البوم لا أتشاءم منه و لا أتفاءل به، و أجده طائرا جذابا بعينيه الواسعتين اللامتزلفتين و أحبه كما أحب بقية مخلوقات الله . و صحيح إن بعض الناس تعارف عليه بغضه لأسباب غبية غامضة، لكن ذلك زادني حبا له و شفقة عليه من كرهنا و تحاملنا الغيبي السلفي المتوارث المتجسد في مظاهر كثيرة ابسطها البوم.

و يوم تزوجت حملت معي إلى بيت زوجي أربعين بومة على الأقل كنت قد اشتريتها أيام الدراسة و التشرد في أوربا، لوحات و تماثيل صغيرة و متوسطة من العاج و الرخام و الخشب و السيراميك و حرصا على مشاعر أسرة زوجي سجنتها في غرفة نومي بعدما استشرت زوجي بخصوص عواطفه نحوها و قبوله بها و صمت فاعتبرت الصمت علامة الرضا ..!

و استراحت بوماتي من التشرد بعد زواجي و عشنا في سلام زوجي و انا و البوم و رغم إخفائي لها في غرفة نومي كالعشاق في السينما شاع و ذاع و ملأ إسماع العائلة خبر وجودها و لم يفاتحني احد بأمرها بعدما أنجبت صبيا بالرغم من وجود ( النحس ) في مخدع الزوجية..!

و في الحرب زارنا صاروخ احرق الجناح الأيمن من البيت و أتى عليه و جاء أعمام زوجي يتفقدوننا و قال لي احدهم بلهجة نصف مازحة : بومك احرق القصر ! و كم كانت دهشتهم كبيرة حين فوجئوا بان النار توقفت عند حدود غرفتي المسكونة بالبوم رغم الستائر السريعة الالتهاب ( و الخيمة و الديكور ) التي نصبتها في السقف العالي للغرفة لأنني لم أكن قد الفت الاستقرار في البيوت بعد، فوجدت في الخيمة ما يشبه الحل الوسط..
و مما زاد في دهشتهم إن دخان الحريق الذي لمس بأصابعه الرمادية كل ما في البيت من سجاد و تحف لم يترك حتى بصماته على بياض الستائر والخيمة و بعض البوم لقد احترقت مكتبتي و غرفة المطبخ و جناح العاملات المنزليات و تحجر الدخان و النار عند عتبتي و قلت للعم الحبيب : لو كنت أتفاءل بالبوم لقلت لك أنها هي التي حمت بقية البيت من الحريق..!!!!

 أعلنوا الحرب فأعلنت الحب و قلت لناشري السابق : أريد إن أضع على غلاف كتابي ( أعلنت عليك الحب ) صورة بومة قال ” ستنحسين ” الكتاب و القراء و الحب قلت له : الحب لا ينقصه النحس إما القراء فلا تتدخل بيني و بينهم، وهكذا كان ..و طارت الطبعة الأولى في أشهر مثل بومة ليلية و طارت الطبعة الثانية رغم غلاف البوم الذي تابعت إصراري عليه و طرت إنا من ناشري و أسست دارا للنشر و جعلت شعارها البوم فتكاثرت كتبي و طبعاتها و تناسلت و كانت سبعة كتب فصارت عشرين كتابا باستثناء – ليلة المليار – و أربع مخطوطات في خزانة بنك تنتظر دورها للنشر و عشرة كتب داخل راسي و ( نوطاتي )، ولو كنت أتفاءل بالبوم لقلت إن وجهها خير، لكنني لن اسقط في فخ التفاؤل و التشاؤم بل التحدي للأفكار البالية المتوارثة و بعدما حملت منشوراتي البومة كشعار انهال البوم علي من كل حدب و صوب كل صديق يرحل إلى أوروبا و يرى بومة يتذكرني و يهديني إياها كل صديقة تطالعها لوحة بومة لا تبخل بها علي و لحسن الحظ إن أحدا لم يفكر بان يحمل إلي بومة حية و إلا لكان على إن أعيل جيشا من البوم (باستثناء صديق أتى بها من البقاع حية و توسلت إليه ان يعيدها إلى أهلها و يجنبها شؤم الغربة !) و صديق أخر أهداني ثلاث بومات محنطات بصورة متقنة حتى ليخيل إلي إنهن يطرن بعد إن أنام ليتابعن حياتهن السرية الليلية مع كائنات أشعة القمر.. و صرت اقطن بيتا مع حوالي 275 بومة أخرها من الكريستال الشفاف حملتها من روما ابنة عم زوجي كرمز لعدم اضطهاد ( الأسرة ) لمزاجي لكنني واجهت مشكلة جديدة : الأطفال يرثون على الكبار مخاوفهم و نزعاتهم التشاؤمية و رفاق ابني يخافون من البوم و يحدقون فيه بعيونهم الطفلة بذعر و أعلنت حالة الطوارئ و تم ( تهجير ) البوم كله الى غرفة المكتبة بعد منع التجول فيها…مع الصغار لا نقاش و إنما أوامر تنفذ ( هم بالطبع يصدرون الأوامر) و في مرحلة الحصار الإسرائيلي لبيروت و القصف البحري دمرت المنطقة المحيطة ببيتي تقريبا لأنها تشرف على البحر و أصابت الصواريخ كل مبنى محيط بي باستثناء بيتي و تحطم الزجاج في غرفي كلها باستثناء غرفة المكتبة التي يقطنها بومي المهجر المشرد و رغم ذلك لم اسقط هذه المرة أيضا في فخ التفاؤل بالبوم الذي يرادف التشاؤم به و إنما حمدت الله الذي حماني من ألسنة بعض الأصحاب فيما لو أصابت البيت قذيفة ..هل كان ثمة ( متهم ) غير البوم ؟
هل كان احد سينحي باللائمة على سواه كإسرائيل مثلا ؟ صحيح إن أحدا لم يرى بومة تقف على حاجز و تمتشق السلاح و تختطف الأبرياء و تذبحهم على الهوية لكن الناس ما زالوا يتشاءمون بالبوم بدلا من التشاؤم ببعض زعمائهم الذين قادوهم إلى الخراب صحيح إن أحدا لم يرى بومة تحمل بندقية “ام16 ” و تقنص الناس من على السطوح و لا بومة تدلي ببيان و تدلي بعكسه و تنهي عن خلقه و تأتي مثله و لكن الأكثرية ما تزال تتشاءم من البوم بدلا من التشاؤم من الطائفية و حب السيطرة و شهية الافتراس و العنف و التدمير العبثي، و أذا كان البوم رمزا للخراب فقد سرقنا اللقب منه بجدارة فخرية  ..

هذه السطور أخطها لكم في البيت الريفي إياه، الليلة أيضا ما كدت أصل إلى المزرعة و أصحابي اللبنانيين الأحباء حتى غادرها البوم هاربا لا يلوي على شيء ترى هل انقلبت الآية و صار حتى البوم يتشاءم منا ؟ و هل نلومه…..؟     انفلور 24- 11 – 1984)).

 وبعد إن مضى عن هذه المقدمة فترة زمنية ليست بقصيرة تعود (غادة السمان) لتنيرنا مجددا بتحفة جديدة من تحفها التي ظلت تقتني منها ولكن هذه المرة بشي نادر تضيقه إلى المكتبة العربية لتسلط الضوء عن (البوم) الذي يبدوا ما يفارق تفكيرها وهذا دليل لعودتها إلية من خلال إصدار ديوان شعري يحمل اسمه، ولهذا فن (غادة السمان) كتبت في مقدمة الديوان (الرقص مع البوم ) هذا الإهداء :

        

((….إلى الذين يتحدون الأقاويل المتوارثة عن الشؤم والخير والشر والحب

إلى الذين لا يخلطون بين المحنط والتراثي وبين الخرافة والمقدس .

إلى الذين يرفضون أن يكون عقلهم من ضحايا العبودية للأفكار السائدة ويصرون على إعادة النظر في كل شيء كما لو كان الكون جديدًا

إلى المبدعين العرب النادرين الذين يرون البوم طائرا آخر من مخلوقات الله ويرفضون التطير.

و إلى المبدعين الغربيين الكثر الذين يرون استوحوا جماليات البوم إليهم جميعا و إلى العينين الجميلتين الواسعتين لذلك المخلوق البريء الذي أسيء فهمه و كثر التحامل عليه ..

إلى محبوبي البوم … )) .

ومن خلال هذا الإهداء فان (غادة السمان) فكت الشفرة التي طوت رموزها في نصوص الكتاب الشعري، فالتحسس والشعور بالغربة والوحدة والضياع وفقدانها للأحبة والأصدقاء يجعلها إن تقارن نفسها بهذا الطائر الذي يختبئ بعيدا عن الأنظار كحالها فتقول :

 

               ***

هل شاهدت مرة بومة في سيرك ؟

أنها مخلوق يستعصى على التدجين

و يرفض التسول العاطفي و منطق اللعبة الاستعراضية..

هل شاهدت بومة تحاول إضحاك احد

او جره إلى مداعبتها ككلب زينة يهز ذيله ؟

هل شاهدت مرة بومة مستقرة في قفص تغرد لذلها ..؟

هل عرض عليك احد شراء بومة من سوبر ماركت المخلوقات الداجنة 

البومة لا تباع

لكنها تحلق إلى ما تحب و من تحب، أفلا تحبها ..؟

 

          ***

صليت كي تبزغ الشمس و حين بزغت أحرقتني 

رعيت سنبلة و حين كبرت أكلتها و سممتني

هتفت باسم الحرية 

و حين أطلت عربات تحمل ألويتها دهستني

أنا بومة الخيبة 

غدر بي كل من أحببته

وظف نفسه ناطقا باسمي بعدما كممني

و ها أنا في العراء بلا عزاء

انشد طوال الليل إحزاني 

و فوق ذلك يتشاءمون مني !

 

فهذا المقطع من القصيدة ، تركز (غادة السمان) على مفردات النص لتركيز انتباه اليها بأنها كائن مغترب بلا عزاء وبين تأويل وعدمه، فان هناك إحساس بالعزلة تم صياغتها في هذا النص للمقاربة بكيان (البوم) وعيشه على هامش العالم ليرتفع النص إلى مستوى العزلة ومن ثم إلى مستوى التشاؤم، فـ(البوم) هنا أداة تشبيه بالأساس ولكن تطرحه (غادة) باعتبار يمكن فعلها إن يغير مصير الطائر باعتباره طائرا رمزيا، في وقت الذي يحتمل عند البعض بكونه رمز للحكمة، وطائر (البوم) ردفين كما هو حال عند (غادة السمان ) ولكن رمزه عند غالبية العرب ما هو إلا رمزا للخراب ونذيرا بالشؤم وطائر شرير و رمز للموت، وهو منحى استغلته كل الأساطير الشعبية القديمة فأشير إليه على أنه مخلوق شرير، يحوم الليل بحثا عن ضحاياه من البشر، وعزز هذا المفهوم  نعيبه وصياحه الحاد، كما واتخذ (البوم) كرمز للعناد، ولهذا استخدم لدى بعض المنظمات والشركات والفِرق الرياضية شعارا تعبيرا في بعض الأحيان عن القوة لكونه من الطيور الجارحة سريعة الانقضاض، أو تعبيرا عن الحكمة ورمزا للمعرفة، وان منحى اهتمام الأساطير القديمة بالطائر (البوم) وما تم تناقله قد جاء تأكيد من خلال مجسمات الآثار التي وجدة في منحوتات (الأشوريين)  التي اكتشفت في بلاد الرافدين (العراق) أو في اثأر (الإغريق) مما يعطي الانطباع عن مدى اهتمام الفنان قبل حوالي سبعة آلاف عام أو أكثر في بلاد ( أشور) في تصميم (البوم) في منحوتاتهم لما له من رمز يفسر وفق رؤية تلك الأقوام .

ولهذا ضل هذا الطائر مدار اهتمام الأدباء والفنانين على مر التاريخ وقد استخدم الطائر(البوم) رمز في كثير من إعمالهم الأدبية والفنية حيث استخدم كل من الأدباء (جون غاي) و( وملتن) و(بريان) و(ولر بروكتر) و(إدوارد ليرن) و (أ.أ. مايلن) و(جيمس ثيربر) و(ج. ك. روالنج ) طائر (البوم) في كثير من حكاياتهم وقصصهم وقصائدهم الشعرية من أمثال الشاعر الفرنسي (لافونتين) .

كما وقد استخدم (البوم) كعنصر فني في العديد من لوحات فنية لكبار الفنانين التشكيلين من أمثال الفنان (هيرونيمس بوس) و) ألبريخت دورير) و)مايكل أنجلو( و( فرانسيسكو غويا) و(بابلو بيكاسو) و( إدوارد لير) و(باول كلي) و(ماكس إرنست) و(سلفادور دالي) .

فلا غرابه لنا إن نرى بان هذا الطائر يثير مشاعر الأديبة (غادة السمان) في عالمنا العربي لتكتب عنه متخذة منه على غير ما راحت الأسطورة العربية بالتشاؤم منه، بل كما قالت((إنني لا اكره البوم لا أتشاءم منه و لا أتفاءل به، و أجده طائرا جذابا بعينيه الواسعتين اللامتزلفتين و أحبه كما أحب بقية مخلوقات الله..)) وهذا ما أكدته في مقالتها التي ذكرناها سابقا في هذا المقام .

ومن هنا سنحاول في عملها (الرقص مع البوم) كعمل أدبي رائع موازي لكل الإعمال الإبداعية التي طرحوه الأدباء والفنانين الذين اتخذوا من (البوم) كرمز استخدموه في إعمالهم الإبداعية، فمقاربات الجمالية لقصيدتها النثرية في هذا العمل وما استخدمته (غادة) من ظواهر وعلاقات نفسه وشعورية وفهمها للعالم على أساس وعيها كشاعره يتجلى بوضوح في النص الشعري المقدم هنا، هو بالذات افتراض ضمني بأسلوبها الواعي وبجماليات النص الشعري، ولهذا فان أي نقد لا يمكن إن يتم ما لم نأخذ الصورة الشعرية لـ(غادة السمان) باتجاه الأخر أو العالم الخارجي أو من العالم الداخلي (الذاتي) إلى النص الشعري المرتبط بذاتها،  بمعنى إن نأخذ الكل بحالة واحدة،  لان التحليل النص الشعري في (الرقص مع البوم) لابد  من الوقف في التكوينات الجمل المصورة التي تعبر عن الفكر المطروح وخاصة في صور التراكيب المتناقضة للصورة وحيز التأويل فيها لان (غادة السمان) وان كانت تعبيرية المنطلق ولكن الرمزية تشمل أيطار لافت في قصائدها لحجم حالات التراكيب الفكرية والشعورية التي تلجئ إليها باتجاه الظواهر ووفق إحساسها الذي يحملها بشفافية وبراحة التعبير في سياق مفرداتها وطريقة اختيارها الايجابي:

 

        ***
اتسخ إصبعي بالحبر فصار اسود 

غمست إصبعي الثاني في البحر فصار ازرق 

لامست القمر بالثالث فصار فضيا 

هدهدت خد الغابة بالإصبع الرابع فصار اخضر

وضعت الخامس على شفتيك كي تصمت و لا تقول لي انك تحبني 

فصار إصبعا من ضوء

غمسته في العسل و كتبت لك به على المرآة:

حبك عيدي و عيناك قدري إلى ابدي

عند الفجر شاهدت المرآة و قد كتبت لي بالهباب الأسود:

يا لك من كاذبة صادقة ككل الحمقى العشاق

 

     ***

ثمة مصاص دماء لطيف نتغزل به جميعا و ندين له بالولاء اسمه الحب

أصيب بالهياج في طفولته 

و أصيب بالجنون في مراهقته و بالفتور في كهولته 

أصيب بفقدان الذاكرة في شيخوخته

لكنه ما زال يحكمنا


فهنا (غادة السمان) تذكر الظواهر وتحدده وفق صورة بسيطة و شفافة ومريحة لتحمل دلالاتها خلف تنوع الصور لتجمع المتناقضات في آن واحد ولغاية المقاربة لكي تتحرك ثقافتنا باتجاه مدلولات الصور والاستدلال الفكري لنتائجها لأنها تطرح مقدمات لنتائج تأتي كحاصل تحصيل من هذه المقدمات بلغة المنطق لتتدخل أفكارنا كقُراء للنص في صياغة خبراتنا المباشرة لها، و (غادة) تفعل ذلك لإرباك الاستقرار من خلال طرح المتناقضات وهذه هي رؤية إبداعية لان في هذا الطرح الشعري ما هو إلا تأكيد بعدم وجود ثقافة مغلقة وهذا يفسر بأننا نتجه لفهم نصوصها بعمق ثقافتنا في إدراك علاقة الظواهر وإبعادها المختلفة تأويلا وبدلالات رموزها وفك شفراتها، فان كانت (غادة السمان ) تراوغ في استخدام مفردات لأنها تريد استفزاز القارئ للمتابعة النص رغم إن القصيدة النثرية تستخدم المفردة العادية ولكن من يجيد حرفيتها يستخدمها لاستفزازنا كما تفعل (غادة السمان) مبتعدة عن المفردة الشائعة والمبتذلة:

 

     ***

لماذا احبك ؟

لان كل الأسماك المجلدة الممدة في برادات السوبر ماركت تعود إلى الحياة حين تراك و تطير عبر النوافذ إلى الفضاء

لتسبح من جديد و لكن في برك الغيوم

فهل يدهشك ان اشتعل حياة بحضورك في حياتي ؟

   ***

قلت لي : الحب خط مستقيم هكذا

و رسمت خطا فوق البحر

و لحظتها ولد الأفق !

للظلام فضل على حبنا

فلولاه لما عشقت ضوء حضورك في عتمتي

 

     ***

حين حطت الذبابة على صورة ” الرقم 1 ” الهائلة الضخامة في الساحة العامة ارتجف الحارس غضبا منها و أطلق عليها النار و شنقوه قبل إن يشرح لهم حقيقة ما حدث

 

هكذا تتصاعد طرح لمفردات عند (غادة السمان) بتدريج لتعميق طرح المباشر العميق في المفرد ليكون إثبات الفكر والوصول إلى المغزى المفردة عبر التأويل لنكون مباشرة أمام المغاير من المعنى السائد،  وهذا ما نسميه (الوعي المركب) يجمع ما بين المفردات ونقيضها لتحافظ القصيدة النثرية بروح النص الذي يستفزنا بقيمة المعنى الذي يطرح لنا  ليهز ضميرنا الإنساني .

 

        ***

الصعب كان التهام التفاحة الأولى

و بعدها التهمنا التفاح كله حتى الضجر 

ثم التهمنا شجرة التفاح بإدمان من لا يدري لماذا ثم هرولنا إلى السوبر ماركت و اشترينا “تنكات” التفاح المعلب و بتاريخ صلاحية واضح!

 

      ***

أتذكر دائما تفاحة البراءة الأولى في بيتي الحجري في دمشق

 بيتي بأحجاره الحية التي تتنفس ليلا في الظلام و تتنهد سرا و لا يسمعها غير ساكنيها 

فللجدران قلب و أذن !

أتذكر إن حجارة البيت انتحبت طويلا ليلة رحيلي عن دمشق
وحدها كانت تعرف إنني لن أعود و كان صوتها نواح قبيلة من البوم

     ***

 حين أكون وحيدة في البيت اسمع أصوات تخاطبني و أتحاور معها و صوتها يشبه كثيرا صوتي 

بل يخيل إلى أحيانا إن صوتها هو صوتي لكنني لست متأكدة من ذلك لا لست مجنونة

فانا اعرف كيف أغلق عليها الباب جيدا بالمفتاح حين أغادر بيتي !!

 

هنا نلاحظ كيف (غادة السمان) تعيش أقصى حالات الهذيان وفي نفس الوقت وهي في أوج الوعي وهذا التناقض المنسجم لا يكون غريب حين يشتد بها حالة الاغتراب والحنين إلى عشها الأولى في دمشق ألذي غادرته دون العودة وهي في لحظة مغادرتها تيقن بأنها لن ترجع، فالظلام وسماعها لتنفس حجارة المنزل وتنهيدة الذي لا يسمعه إلا (غادة السمان) فهي تيقن يقينا لماذا كان ينحب …؟

فإحساسها رغم الظلام يضيء بما يدور أو سيدور لاحقا،  فهذا الإجماع المتناقض او المتناقص المتجانس تدرك (غادة) حين تكون في قلب الظلام لأنها تحب هذا الظلام وتتجانس معه لأنها تعسس بالغيبيات وهو ما يكشف لها الكثير من الإسرار كما تكتشفه (البومة) ولهذا فهي تحبها لأنها تشبه المشاعر وحبها للظلام .

 

      ***
لاسليك، تعلمت كيف أقف على راسي في السيرك

 و كيف اركض في الحلبة بثياب مهرجة 

من أجلك تعلمت كيف اتارجح في الفضاء بلا شبكة تقيني السقطة القاتلة

 و كيف أروض السباع و النمور و امشي على يدي

 من أجلك تعلمت كيف أقود صاروخا إلى القمر

 و كيف أتحدث بلغات الأرض كلها و اهتف :

 “حبك عيدي و رغباتك إرادتي”

  و حين اكتشفت إنني لم أكن أكثر من مضيفة أخرى في سيركك الكبير

 تعلمت من أجلك لغة الصمت كي لا أعاتبك .. و أقول بمرارة انك خذلتني .

 

في هذا المقطع تأخذنا (غادة السمان) إلى كل ما لا نراه في وقت الذي تجانس إجماع المتناقض، فهنا الخيال يحلق إلى ألأفق، تصور المشاهد وفق تناقضات الصور تعبيرا عن حالته الهذيان والبؤس والمرارة والوحدة في أكثر التراكيب قسوة باتجاه الأخر الذي تريد إن توصل رسالتها كما تشعر بها لحظة كتابتها لان في داخلها تتعايش متناقضات الواقع بقسوة لا تطيقها فتقول في واحة من أقسى ما تقوله (غادة السمان):

 

    ***

تسكعت في الغابة شاهدت ضفدعا

قبلت الضفدع فصار أميرا …

و حين فتح عينيه قال لي باحتقار:

من أنت أيتها الضفدعة ؟

هذا هو الإحساس المر والإحباط القاسي بهذا الحضور فالمشهد بتركيبه المنطقي يثير انتباهنا بأكثر صورا تعبير ووضوح لما تعانيه الكاتبة وتعيش في حالة الصراع  صراع قائم  كأسلوب تفكير وكحالة وعي .

 

        ***

سامحني يا بطل قصتي

حملتك سر حبي و أسقطته عليه و أنت لا تريد الحب بل الحرية 

أثقلتك بإحزاني الشخصية و أنت بلا ذاكرة كورقة بيضاء 

حملتك قضاياي و أطلقتك في التظاهرة و جلست في مقعدي الوثير إمام التلفزيون أراقبك تحت رصاص جلاديك

لا تقلق سأبعثك حيا في روايتي القادمة !

 

       ***

ما زلت احبك رغم كل شيء

ففي شواطئك تعلمت

كيف أشرب ضوء القمر في صدفة بحرية

 

تصف (غادة ) سر حبها وقلقها وحيرتها عبر إسقاط ذات متأملة مناجية الحرية بعد أن اختلى التوازن بين الحب والحرية بين الحبيب الذي يختار الحب وبين وجدانها الذي يختار الحرية فتخيلت شخصية بطلها وهو وسط عالم مليء بالمظاهر السلبية لينتهي أمره تحت سيف الجلادين وهو يدافع عن أناس اليوم يجلسون براحة البال يراقبون مشهد إعدامه دون إن يثاروا ضد الطغاة ولكن تناشد ضميرها بان تحي بطلها خالد في كتاباتها القادمة ليكون بطلا حقيقيا أفنى حياته من اجل الحرية، لأنها مازلت تحبه  فهي لطالما تتوجه إلى شواطئه حيث الحياة والضوء القمر والهدوء والسكون، تتوحد معه وتذوب في غمرته لأنها تعلمت منه كيف تخفف معاناتها .

 

     ***

قرع الفراق بابي

و حين فتحت له

إعطاني وردة الحب الآتي!

 

     ***

في كوكب رفع ورقة الألف دولار علما

أستحضرك بأكثر من المحبة و الإجلال 

يا من غسل إقدام الفقراء بالحنان ..

و اخترع حضارة الوداعة…

حين توصد الأصوات أبوابها

و تمضي لتختبئ في الغرف المظلمة للروح

أظل اسمع صوتك فاتبعك

أنا المتعبة ثقيلة الأحمال ..

و حين يستيقظ الليل أزين شجرة ميلادك 

بورد ابيض مقطوف من حقول قلبي واهمس:

ميلادك مجيد يا سيد المحبة .

 

هنا تناجي المخلص (المسيح) لتخفيف من معاناتها، فهي تجسد ذلك في ألفاظ كثيرة استخدمتها للإشارة إليه منها: المحبة، الإجلال، غسل أقدام الفقراء بالحنان، حضارة والوادعة، شجرة ميلادك، ميلا مجيد يا سيد المحبة، فهي تحتفل بميلاد المخلص بورود بيضاء للذي أتى وطرق بابها ومنحها وردة بيضاء، فهي أيضا بالورد الأبيض المقطوف من حقول قلبها تزين شجرة الميلاد فـ(الأبيض) رمز السلام والمحبة والصفاء التي تؤمن به وتريد منحه لكل العالم، ومن خلال هذه المعاني التي جسدتها (غادة) هما بالأساس حقلين مرتبطين أساسا الأول بالذات الكاتبة والثاني مرتبط بالمحيط، في وقت الذي يسود بصورة عامه مناخ واحد في عموم القصيدة (الرقص مع البوم) هو الحب والحرية رغم انطواء القصيدة على جمل من المعاني الجزئية والأحاسيس وجلها تتضافر لخدمة الموضوع العام (الحرية والحب) والتعبير عنهما بطريقة ذاتية بحته، ليتم كلا الحقلين (الحب والحرية) وفق تعبير الذات حد الذوبان كما هو واضح في مضمون ، لتكون لغة القصيدة (الرقص مع البوم)، لغة سلسة سهله مستخلصة من تجربة حية عاشتها الكاتبة في ظرف نفسي ظاهرة احتجاج وسخط وتمرد وباطنه  العذاب والأسى والألم والمرارة، فـ(الرقص مع البوم) كتاب روح معذبة تتحدث عن روح المطلقة، وصراخ مخنوق مكتوم يتدفق من أعماق السحيقة لقلب الكاتبة، قلب متأجج حبا وشوقا إلى الحبيب، التي لم تعد سوى لغة التعبير الشعرية لتتنفس عن أعماقها وحالتها النفسية، و(غادة السمان)  لا تكتم ولا تخشى إن تفضحها عواطفها فلا تحترس في إفشاء أوجاعها وحسراتها وصبابتها، فهي تنطق وتعبر بوضوح دون تردد ولا تورية وهو تعبير صادق دون انتحال لمبررات ولأعذار ومع أي أسلوب يعبر عن كل ما في أعماقها إفصاحا بالخط العريض أو بالتلميح أو بالإيجاز أو الرمز أو استخدام الأسطورة .

 

   ***

أتأمل زرقة عينيك من بعيد من المقعد المواجه لك في المقهى متكئة على أنقاض وطني في المسافة بين الجعة و الشمعة

و ذكريات البارود و الدم

عينان زرقاوان تمطران أفراحا و فم ينفث دخان غليونه عطرا

و أنا امرأة محاصرة داخل غليون العطر و اللهب اللا مرئي و إيقاع الطبول تحت قدمي العاريتين فوق الجمر

ها هي حكاياتنا تبدأ ممن النهاية

و المنشد الأعمى يغني : الشرق شرق و الغرب غرب

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.