الرئيسية | سرديات | عين التأمل وصوت القص | إستبرق أحمد

عين التأمل وصوت القص | إستبرق أحمد

إستبرق أحمد (الكويت):

 

يحكى أن كائنا وقف يوما على قمة جبل فاره الطول وغامض. لا أحد يعرف كنه الواقف من بعيد، البعض رآه بهيئة رجل نحيل، البعض الآخر وجده امرأة طويلة. السؤال الذي ظل يقرع لامبالاتهم، و ينفذ بفضوليته وفوضاه تحت جلدهم، لم يكن ماهية ذلك الكائن بقدر ما كانوا يودون معرفة ماذا بعد هذا الوقوف.

   ذهب وفد من سكان البلدة إليه. حين عادوا لم يرجعوا كما ذهبوا، ففي فم كل منهم حدائق ثرية وفي عين كل منهم التماعة نهر. عادوا يحملون الفنون، كان الواقف هو نبع للمعرفة الذي لا تخمد غزارته ولا تسكن له حكاية. في يوم عودتهم، عرف الجميع أنهم سينجبون الليلة أطفالا مختلفين، سيجعلون بلدتهم جوهرة بخصوبة أجيالها، لتمتد كمدينة شاسعة و تتسع بعوالمها الممتدة وتتنوع تقاطعاتها.

القص هو أحد تلك التنويعات، أحد الأطفال الذين ما أن يشيخوا حتى يستذكروا الوقوف الغامض للنبع الحكيم، فيتناسلوا بالتغيرات، ويعاد الخلق، وتنهمر التقاطعات والالتماعات المدهشة، تسكنه عين التأمل في الوقوف على حيوات الناس، عين تهدي للعالم ألوانه. أن أكون من سلالة من اهتدوا للفنون وغامروا بالإمساك بها، أن أتشبث بمنحى الساعين للاهتداء لطريقة الفن، ليكون شريعتي كما كان شريعتهم ويجعلهم مؤمنين خالصين ومخلصين له، ذلك ما أريده. ذلك ما أتعلق به وما زلت فيه غريقة، بأن أمضي لفتنة القص، لا أتهاون تجاه احتمالاتها ولا طغيان مغامراتها، فهل تظهر رهاناتي في نصي؟ هل تستبيح محاولات التجديد صوتي الكتابي؟ أتقارب مكاسبي ما تنازلت عنه أو خسرته في مسيري؟ حقا لا أعرف إلاّ أن لا صوت لي إلاّ في القص، ولا عنوان لي إلاّ عبر تجارب لا أريد لها أن تهدأ، وأن لا تغادرني شظايا الجنون التي تهب النص بهجته وصرخته. هكذا تتسلقني الأسئلة أحيانا، تطفو أحيانا أخرى وتعاود الغرق ما أن أنتبه من اكتئابات تأتي غالبا وأنا أتهيأ لكتابة جديدةـ في القص الحبيب لا مجال لأن أتركني أنبش في غيره، لذا غالبا لا أجد في طغيان ضوء الرواية ما يسحبني إليها أكثر منه، لا يعني ذلك أنني لن أجربها كما جربت كتابات أخرى مسرحية كنص”حديث عابر” الذي شاركت به في كتاب” امنحني 9 كلمات” والنصوص المفتوحة الشهية التي احتضنها كتابي”الأشياء الواقفة في غرفة 9″، لكن يبقى القص العزيز والأغلى والأكثر مرونه في استيعاب ما أريد، مناطحاً القارئ الكسول، أو مشاكساً القارئ الفطن، يبقى ما أكتبه يحاول أن يجد حريته في التفاعل مع ما يختزله من قراءات ورؤى وما يتقبله من مساحات تجريب، نتج عن ذلك أنه تحصل على قارئ مناضل، يقبل التعثر بعيدا عن انسيابية المباشرة، قارئ لا يقبل أن يقدم له النص كوجبة جاهزة دون أن يقدم هو اقتراحاته المشعّة وبهاراته المميزة. وكما أن للقارئ حق الدخول لنصي الملغم بالمحاولات، له أن يجد كاتبا لا يخشى الأسئلة ولا يتنصل منها، وإن كان بعضها خاص وحميمي لكنها أيضا في صلب نصه وزواياه، يبث جزءا من شخصيته أو همومه وحتى أوهامه في خلطة تؤكد رؤيته وحرصه وشغفة بالكتابة وركونه لشهوة العزلة التي لولاها ما تولدت النصوص.

القص الحبيب كان قريبا جدا مني وكريما مذ أصدرت مجموعتي الأولى “عتمة الضوء” عام 2003 و القص الغالي كان صابرا وصادقا في إصداري الثاني “تلقي بالشتاء عاليا” عام 2011. توقف أقر بأنه طال نسبيا مؤديا ربما إلى انحيازي أكثر ناحية التجريب الذي رآه البعض مبالغا فيه. إلاّ أنه بعث عناصر جديدة كانت رهاني في نبذ التشابه والتكرار والقبض على التنوع وهو ما أزعم الإمساك به عبر / في مجموعتي القصصية القادمة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.