الرئيسية | بالواضح | عن رواد الفن المغربي | عزالدين بوركة
عزالدين بوركة

عن رواد الفن المغربي | عزالدين بوركة

عز الدين بوركة

منذ مدة ليست بالقصيرة حاولت الكتابة حول موضوع، لما يعتريه من خصوصية تاريخية. انطلقت الحداثة الفنية في تاريخ الفن المغربي كما يخبرنا ثلة من الكتاب والنقاد مع مجموعة 65، !! أو ما نسميها بمجموعة الدار البيضاء، التي كان في طليعتها فريد بلكاهية ومحمد شبعة والمليحي وغيرهم، ومن التحق بهم ودرَّس معه بمدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء أو من صاحبهم داخل تكتل هذه المدينة المطلة على المحيط. كان ولا يزال، يراودني سؤال ملحاح، هل فعلا عرف الفن التشكيلي المغربي حداثته مع هذه الأسماء وهذه المدينة وهؤلاء “الرواد”؟ أليس هذا الطرح تقزيما وأسرا للفن المغربي في كف أسماء معينة؟ وهل لا بد للفن المغربي الحديث من أباء فعليين؟ وألا يقودنا هذا الطرح الأبوي إلى “الوراثة” فيكون كل من لم يسر على منوال هؤلاء “الحداثيون” ليس بحداثي؟

إن وحسب الأبحاث الحفرية والأنتروبولوجية بالمغرب، تؤكد على أن الفن بهذه الأرض القصية يتجاوز عمره آلاف السنين، مع رسومات الكهوف الباردة جدرانها، وبصمات الإنسان الأول، وتوثيقه ليومه وأفعله صيده و”خلوده”. فإنْ مجموعة تحاول أن تتغاضى النظر عن هذا الطرح الأساسي وتحاول أن تبدأ التأريخ للفن بالمغرب مع أولى حركات الاستشراق، وإن نميل إلى موافقة الطرح من حيث تأييدنا أن فعل الممارسة الفنية بشكل “شبه واع” انطلق تقريبا مع تلك البعثات الاستكشافية، لكن لا نحبذ تحبيس التاريخ عن تلك النقط والبدء عنده لما تحميله من نوايا مبيتة من التبعية للغرب بشكل مطلق خالية من أي استقلالية، وإن مازال الفنان المغربي في صراع داخلي بين ثنائية الاستقلال والتبعية. أما الطرح الثاني فيذهب أصحابه إلى حصر تاريخ الفن المغربي الفعلي مع مجموعة قليلة من الفنانين المغربة الذين عادوا مع أواسط القرن الماضي إلى المغرب، وأخذوا بتدريس الفن التشكيلي بمدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء، قادمين من دول غربية (فرنسا، اسبانيا، إيطاليا وغريها…)، متشبعين باتجاهاتها الفنية.

هذا الطرح الثاني هو الذي يهمنا هنا فيما نحن في الصدد الكتابة عنه. كان العالم في تلك الفترة، بُعيد الخروج من الحرب العالمية الثانية، منقسما إلى قسمين، القسم الغربي والقسم الشرقي… الأمريكي والسوفيتي. أما الفن التشكيلي فبدوره دخل خانة التقسيم هذه، قسم ثائر على الواقعية والتشخصية في الفن وآخر يؤيد العودة إليها وتقويتها وجعلها في صالحه وتاريخه. فكان هجوم القسم الغربي على التشخصية بكونها صارت “بوقا” للإيديولوجية ولم تعد ذات بعد فني مادامت حبيسة الرؤية السياسية. في تلك الفترة سيبزغ فجر اتجاهات فنية جديدة وطلائعية، الفن التجريد أحدها، وإن كان قد ظهر على جدران القاعات بشكل أكثر انتشارات مع العقد الثاني من قرن ال20. فبعدما رسم كاندانسكي أولى لوحاته التجريدية (1910)، ستظهر إلى السطح أطاريح فنية تحاول الابتعاد عن أية كلاسيكية، إلا أنها كانت فنية خالصة غير مرتبطة بأية أوهام وصراعات سياسية، في بادئ إنشائها.

سيدخل العالم بعد عقدين ونيف من أولى اللوحات التجريدية حربا عالمية ثانية، ستأتي على أزيد من 60 مليون ضحية في العالم وستعرف أوروبا خسائرَ معمارية مهولة، مما سيدخل العالم في تشاؤم كبير سيترتب عنه فلسفات تشاؤمية وأخرى عبثية سيخرج من جلدها مدارس فنية أو ستتأثر بها مدارس  أخرى (السريالية، المستقبلية، التكعيبية، التجريدية…). في تلك الفترة عرف العالم بزوغ فجر قطبين عالميين سيطرا على الأطروحات الإيديولوجية، وكان كل من لا ينتمي إلى أحداهما منبوذا (عدوا)، فأنت إما ليبرالي (رأسمالي) أو شيوعي (اشتراكي)، أو المعنى السياسي آنذاك يميني /يساري. هذه الازدواجية ستسود حتى عالم الفنان فمن أيّد الاتجاه الذي سلكته امبراطورية السوفيات ومن والاها فقد انتصر لاتجاه التشخيصي، ومن وأولى وجهه شطر الغرب فصار يرى في التشخصية انتكاسية ورجعية، فكان لابد التخلي عنها لصالح المدارس الطلائعية (المستقبلية !) الجديدة، يأتي الفن التجريدي أحدها وأبرزها، آنذاك.

كان المغرب قد خرج لتوه أواسط العقد الخامس من القرن العشرين من سلطة المستعمر، في ظل ذلك كانت الساحة شبه خالية، إلا من أسماء نكاد نحصيها إحصاء الأنامل. خرج المستعمر الفرنسي والاسباني من المغرب وترك مجموعة من المؤسسات دونما أية إدارة. تلك الفترة ستتزامن مع عودة شباب متحمس لفرض اسمه، فتم تهميش الفنانين السابقين باسم الفولكلورية أو التبعية أو حتى الرمي ب”الفطرية” (=السذاجة). فصدر عن بعضهم بيان يدعون فيه إلى التخلي عن كل الأساليب الفنية المتبعة بدعوى كونها من “أعمال المستعمر” الذي أراد أن يُصوّر الفنان المغربي على كونه أقل درجة من الفنان الغربي، جاعلا إياه تحت طائلة التبعية والانقياد. فهوجم “الفنان الفطري !” وتم محاولة طمس آخرين، ليلقى حتفه الغرباوي جالسا على أحد مقاعد الحدائق الغربية بعدما تم تهميشه في وطنه.كانت نية القادمين من المدارس الغربية، والثائرين على “مخلفات المستعمر”! السيطرة على الساحة وفرض توجههم.

سيجد المغرب نفسه أمام تقسيمين للفن تحت اسم مدرستين لا غير، ما سيولد صراعا خفيا، مازالت مخلفاته ليومنا هذا، فبعد أن حل أعضاء جماعة 65 ضيوفا على مدرسة الدار البيضاء، بتنا نتحدث عن مدرسة بهذه المدينة وأخرى بتطوان، واتجاهين الأول تجريدي (كما تبنته فرنسا دوغول) والآخر تشخيصي (نسبة إلى اسبانيا فرانكو)، فنجد أنفسنا اليوم ونحن نقوم بالبحث والتقصي، أليس هذا الأمر نوع من “التبعية”؟ وأين هي معالم مدرسة إن كنا نتحدث عن تسمية “مدرسة الدار البيضاء؟ وأي رؤى فنية وتنظيرية توحد أعضاءها؟ وما هي تأثيراتها على الأجيال القادمة؟

فإن كان الفعل السياسي في العالم بعد الحرب العالمية الثانية قد لعب الدور في بروز مدارس معينة إعلاميا مقابل محاربة أخرى، فإن عامل فراغ الساحة وعدم وجود اتجاه نقدي في تلك الفترة، وسيطرة البعض على مدارس تخريج “الفنانين”، لعب الدور الأبرز في سطوع نور بعض الفنانين وتهميش الآخرين. وإن كنا نعترف بدورنا أن الاتجاه التجريدي الذي انتصر له فنانون الدار البيضاء كان له تأثير كبير على تحديد ملامح مجموعة كبيرة من الخريجين وجعلهم مجبرين على خوض غمار الحداثة والمعاصرة، إلا أنها تبقى حداثة ومعاصرة غربية محضة، إلا من رحمَ الفن وحاول استدراج التراث والبحث فيه واستكناه جوهره. وفي اتجاه آخر كان لفنانين تطوان أن صقلوا مواهبهم وتعامل مع الطبيعة في خامها مما جعل الفنان الخريج من تلك المدرسة يتمتع بموهبة ودقة عالية في اللعب مع الأبعاد. إلا أنه ظل الفنان خريجي هاتين المدرستين حبيسهما وتنظيرهما للفن، إلا القلة التي تمردت وإن عانت وتعاني كما حدث مع مجموعة من الفنانين الذين جاؤوا من البعيد البعيد عن هذه المدارس.

إننا نكتب في مجموعة كتابات حول أسماء من “الرواد” نزيل الغبار عن أعمالها وأهميتها، إلا أننا وعمدا نهمشّ أصولها وعما استدنت ملامحها، حجة منا على أننا نكتب عن ما “يُعجبنا” والعجب أي الرضا في معنى من معانيه، أي ما يرضينا في العمل، وهذا لا ينقص من أهمية النقد في شيء، إذ دوره ينبني على ثلاث: إظهار القبيح أو الحديث عن العجيب والجميل، أو الجمع بينهما. على الثاني استند نقدنا لتلك الأعمال، وإن كان لزاما منا أن نظهر العيب أو من أين استمد “الرواد” أشكال ورموز وصابغات أعماله وحتى رؤاها. والأمر ينطبق حتى على الجيل المعاصر، وهذا في نظرنا ما جعل الفن المغربي يبقى حبيس الفن الغربي، وإن حاول الابتعاد عنه بالعودة إلى التراث، إلا إنها عودة محتشمة فقط.

فالفن لا يقوم إلا بالثورة على الأجداد والخروج من جلابيبهم، وقتل الأب قتلا رحيما، والبحث عن ألبسة جديدة وثورية، وهذا ما على الفنان المغربي أن يعيه ويستوعبه غاية في إحداث تطور وبناء مدرسة فنية مغربية خاصة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.