الرئيسية | فكر ونقد | عندما يقضّ الفيلسوف مضجع السياسي | عبد القادر ملوك

عندما يقضّ الفيلسوف مضجع السياسي | عبد القادر ملوك

عبد القادر ملوك

 

  حازت رواية “مشكلة سبينوزا” للطبيب النفسي والروائي الأمريكي إرفين يالوم على جائزة القراء لعام 2014، كما لقيت إشادة كبيرة من قبل النقاد الذين عدّوها عملا إبداعيا متفردا استطاع أن يؤسس لنمط غير مألوف في الكتابة الروائية. وبالفعل ما إن يبدأ القارئ في تقليب الصفحات الأولى من الرواية حتى يجد نفسه مشدودا إليها بقوة، مأخوذا بأسلوبها السردي الخلاب وبمضمونها الشيق الذي انطوى في الحقيقة على روايتين تتناوبان على فصول الكتاب بشكل مسترسل، تحكي كل منهما عن شيء مختلف؛ تستعيد إحداهما شريط الحياة الاجتماعية والنفسية والفكرية للفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا خلال القرن السابع عشر، وتقلب الثانية صفحات الحقبة النازية مسلطة الضوء على أحد مُنظريها وقادتها البارزين، يتعلق الأمر بألفريد روزنبورغ الذي قضى نحبه خمس سنوات قبل متم النصف الأول من القرن العشرين. وهذه التوليفة الغريبة تجعل القارئ يتساءل:

كيف استقام للكاتب أن يجمع داخل رواية واحدة بين شخصيتين لا قواسم مشتركة بينهما، لا من حيث المكان (هولندا/ألمانيا)، ولا من حيث الزمان (القرن 17/القرن 20)، ولا من ناحية التوجه الفكري (فيلسوف/سياسي)، ولا من حيث الانتماء الايديولوجي (الأول لم يثبت أن كان له انتماء إيديولوجي معين/ الثاني هو أحد دعامات الحزب النازي الألماني)؟

وإلى جانب الحيرة التي يضعنا فيها هذا السؤال، تتولد لدينا حيرة أخرى تنتابنا حين نبتغي تصنيف هذه الرواية ومعرفة ما إذا كانت رواية تاريخية، أم رواية “فلسفية”، أم سيرة ذاتية، أم أنها شكل جديد تندغم فيه هذه الأشكال جميعها؟

أما الحيرة الأولى فسنرفعها بعد حين، وأما الحيرة الثانية فتتبدد تلقائيا ما أن ننتهي من قراءة هذا العمل الإبداعي، حيث نجد أنفسنا نميل إلى ترجيح كفة الاحتمال القاضي باشتمال الرواية على الأبعاد الثلاثة: التاريخي والفلسفي والسيرذاتي؛ فهي نص فلسفي تخرج منه بزاد فلسفي غير يسير، وهي سيرة ذاتية تغوص في أعماق ذاتين تستنطقهما كما لو أن صاحبها جايَلهما وعاش معهما الأحداث بتفاصيلها، وهي أيضا نص تاريخي يتأرجح بين فترتين متباعدتين مكانيا وزمانيا عبر لعبة من التوازي بين الحقبتين اتسمت بالدينامية والإتقان.

ربما لسنا في حاجة إلى الحديث عن فلسفة سبينوزا، فهي معروفة، ولو على وجه الإجمال، لدى كل مهتم بالفلسفة وبالفكر عامة، وكتبه اليوم هي ملك مشاع ومتاح للجميع، إلا أن ما يحسب لإرفين يالوم أنه أعاد كتابة هذه الفلسفة بصورة غير معهودة، تجعلك تعيش مع الفيلسوف تفاصيل حياته، وتنغمس معه في لجة الأحداث التي رافقت تبلور فلسفته، بلغة سلسة طيعة بعيدة كل البعد عن الأسلوب الرياضي الذي دبّج به سبينوزا كتبه. يسرد الكاتب فكر سبينوزا ويدقق في تصوراته حول الكتب الدينية ويقف عند تفاصيل شكوكه في قدسيتها، ونسبته إياها إلى الفعل البشري، ويستعرض جرأته في عرض أفكاره دون خوف أو وجل في فترة عصيبة من تاريخ أوروبا كان المرء خلالها يدير لسانه في فمه مرات عدة قبل أن يجرأ على الهمس، كما يستعرض ما ترتب عن هذه الجرأة، التي عز مثيلها بين أترابه، من مقت وغضب رجال الدين آنذاك ومعهم المجتمع بأسره بمن فيهم أصدقاؤه وأفراد أسرته. وقد ضمّن يالوم روايته حُكم النبذ والطرد الذي أنزله الحاخامات بسبينوزا، والذي جاء فيه: “لقد قررنا إقصاء وطرد ولعن واحتقار المسمى “باروخ سبينوزا”، فلتنزل عليه اللعنة في نومه وصحوه، وأثناء دخوله وخروجه، وليحرمه الله من عفوه إلى الأبد، وليصب عليه جام غضبه ويسومه ألوان العذاب المذكورة في الكتاب؛ وليمحى اسمه من العالم”. ولكي يكتمل الحكم، أردفوا العقاب الإلهي بعقاب إنساني مقتضاه: “لا أحد يقدم له المساعدة، ولا أحد يقترب منه بأقل من أربعة أدرع، ولا أحد يقتسم معه نفس السقف، ولا أحد يقرأ له كتاباته”.

 وبقدر ما كان الحُكم الذي أنزله الحاخامات بسبينوزا قاسيا، بقدر ما كان ابن الرابعة والعشرين حينها متجلدا صبورا، متقبلا لمصيره برحابة صدر وطيبة خاطر. وقد برع الكاتب في تصوير تبعات هذا الحكم على سبينوزا نفسيا واجتماعيا حتى لكأن القارئ يقف على مرمى حجر من سبينوزا ويرصد أحواله وردود فعله إزاء تقلبات حياته. وما مكن يالوم من الغوص في دقائق الأحداث ولطائف المعاني هو ذائقته التخييلية، من جهة، وتجربته الطويلة كطبيب نفسي خبر أحوال الناس النفسية وعايش تقلباتهم الداخلية، من جهة ثانية، يقول عن ذلك: “أردت كتابة رواية تقترب ما أمكن مما قد يكون وقع بالفعل، وقد وظفت تجربتي المهنية كطبيب نفسي في تخيل العالم الداخلي لشخوص الرواية، بينتو سبينوزا وألفريد روزنبورغ، كما أسعفتني في النفاذ إلى أرواحهم ومعاينة مكنوناتهم وما انطوت عليه سرائرهم”.

وما فعله يالوم مع سبينوزا البعيد زمنيا كرره مع روزنبورغ القريب زمنيا، فاستهل عرضه لشريط حياته بتسليط الضوء على الظروف التي حفت به منذ ولادته بمدينة ريفال بإيستونيا التابعة آنذاك للإمبراطورية الروسية، وفقده لأمه عند الولادة، إلى أن رُزئ في والده بعدها بسنوات، وانخراطه في الدراسة وما نجم عنها من شد وجذب نتيجة قراءته لأعمال هوستون ستيوارت شامبرلن لاسيما كتابه “تَكَوّن القرن 19” الذي تضمن آراء تمجد العرق الألماني الخالص وترى فيه أنقى وأرقى عرق على الإطلاق، وقد وجدت هذه الآراء هوى في نفس روزنبورغ الذي سرعان ما تشكل لديه تصور يقضي بأنه الأفضل بين الجميع، وأن الكل يرفضه ويزدريه حسدا له على أفضليته هذه، وامتزجت هذه الفكرة بمقته الشديد لليهود الذين عدّهم سبب الانحطاط الذي اعترى الدولة الألمانية على أيامه، وشاء القدر أن يجلب في طريقه أدولف هتلر، فوجد فيه الأب والأخ والصديق، ووجد في الفكر النازي ضالته المنشودة، فتحقق الحلم الذي قاد العالم إلى شفير الهاوية وقاده هو إلى الإعدام سنة 1945.

أما الخيط الرابط بين الحكايتين (الروايتين) والذي يُسوغ تواجدهما معا داخل رواية واحدة، فقد وجده صاحب الرواية بذكاء كبير في شخص غوته (Goethe) الكاتب والشاعر ورجل الدولة الألماني الكبير؛ وبيانه، أن روزنبورغ كان مفتتنا بغوته إلى درجة كبيرة، عادًّا إياه أحد أرقى العقول التي أنجبها العرق الجرماني الأصيل، لكن مكر التاريخ أبى إلا أن يفتتن غوته من جهته بسبينوزا، حيث لم يفتأ يعبر، في كتاباته، عن إعجابه الكبير بعبقرية وألمعية فكر سبينوزا التي جسدها في كتبه (علم الأخلاق، رسالة في اللاهوت والسياسة، الرسالة السياسية…)، الأمر الذي دفع روزنبورغ إلى الوقوع في حبائل الحيرة والارتباك، بل والاستغراب الشديد؛ إذ كيف أمكن لعقل يهودي، يتسم بالدونية والانحطاط المتأصلين، أن يلفت اهتمام مفكر كغوته، يعد مفخرة ألمانيا ومبعث اعتزازها؟ لابد أن في الأمر التباسا أو سوء فهم، سرعان ما تحول إلى مشكلة قضّت مضجع روزنبورغ وقلبت كيانه، إنها “مشكلة سبينوزا” التي لن يتأتى أبدا لروزنبورغ فك طلاسمها حتى بعد أن وضع يده سنة 1941، كقائد للرايخ، على مكتبة سبينوزا من بين ممتلكات اليهود التي تمت مصادرتها داخل الأراضي الهولندية المحتلة، ولو أنه أدرك متأخرا أن التفوق ليس مسألة متأصلة في الأعراق، ولا هو مغروز في الطبائع، وإنما هو مسألة جد واجتهاد، وإعمال للعقل، ونقد مستمر للذات، وفحص متواصل للأمور وتمحيص لجوانبها، وابتعاد عن الفكر المتعصب والوثوقية العمياء، وهو فوق هذا وذاك إدراك لأبعاد الأشياء وتنبؤ بمآلاتها، وهذا ما فات روزنبورغ في البداية وأدركه بعد فوات الأوان، وعلِمه سبينوزا مبكرا وتقبله راضيا مرضيا.

إجمالا، يمكننا القول إنه لما كانت مداخل قراءة الرواية بشكل عام عديدة ومتنوعة، تختلف من قارئ إلى آخر، باختلاف زوايا النظر، وتباين أنماط التكوين الفكري والثقافي؛ فإنه بات في حكم البديهي أن تتعدد وتتنوع القراءات التي تقبلها هذه الرواية؛ فقد يرى فيها قارئ معين صورة أخرى من صور التذكير بمأساة اليهود إبان الحكم النازي، وتزكية لأطروحة “الهولوكوست”؛ كما يمكن لغيره أن يرى فيها تجسيدا لصورة من صور التوتر الذي طبع علاقة رجال الدين برجالات الفكر عموما، وبإمكان قارئ آخر أن ينظر إليها كتجلِّ لصراع العقل ضد اللاعقل، صراع بين فكر ينشد التحرر ويرفض الفكر الدوغمائي المتسلط أيًّا كانت أشكاله، واضعا ثقته في العقل النقدي الذي يفحص الأشياء ويمحصها ويقلبها على مختلف أوجهها، وبين فكر لا يرى من الآراء إلا رأيه ولا يسمع من الأصوات إلى صوته، فكر منغلق على ذاته إذا ما حاز السلطة واستشعر قوته، تحول إلى قنبلة موقوتة حين تنفجر لا تبقي ولا تذر.

ولعمري إن قبول الرواية لهذه التوليفة المتعددة من التأويلات، وانفتاحها على تفسيرات متباينة، تتعايش دون أن يلغي بعضها بعضا، هو ما يعلي من شأن هذه الرواية  ويضمن لها قيمتها كعمل إبداعي يستحق الإشادة والتنويه.

تعليق واحد

  1. مقال ممتع للدكتور عبد القادر ملوك . من المؤكد أن الرواية تستحق هذه القراءة النقدية التيغاصت بنا في خلجات نفوس أشخاصها المتوترة والمختلفة منابع افكارها وايديولوجياتها. مقال رصين رصانة صاحبه الذي عهدناه في كل كتاباته النقدية والفلسفية دائما . هنيئا دكتورنا..

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.