الرئيسية | حوار | عبد العزيز بنار: إن القصة هي الجنس الأدبي الذي يناسب هذا التفكك والتشظي الذي يعرفه العالم الآيل إلى التمهزل

عبد العزيز بنار: إن القصة هي الجنس الأدبي الذي يناسب هذا التفكك والتشظي الذي يعرفه العالم الآيل إلى التمهزل

حاوره: عبد الواحد مفتاح

 

الحوار مع الكاتب والباحث الأكاديمي المغربي عبد العزيز بنار، يستلزم الكثير من الانتباه، فالرجل خبر المتن لأدبي كتابتا وتنظيرا وتدريسا، ما جعله يكون أحد المحسوبين المتميزين على النقدية المغربية، فبالإضافة لاشتغاله في الحقل الجمعوي، بشقيه التدبير الثقافي والتأطير التربوي يشتغل هذا الكاتب على متنه القصصي بلغة عربية حديثة، مشغولة بعناية بالغة ومركزة.

في هذا الحوار نتوقف مع صاحب (جنائن معلقة فوق خيط الاستواء) و (جمالية السرد في القصة القصيرة المعاصرة) حول محطات أساسية في مسيرته، ونختبر معه بعض الآراء والمواقف التي سبق عبر عنها في طروحاته ومقالاته التي صارت تلقى اهتماما واسعا. 

  • تشتغل في الكتابة والنقد القصصي، ولك إصدارات فارقة فيها،سؤالي لماذا القصة من بين كامل هذه الممكنات الأجناسية من استأثرت باهتمامك؟

يمتد سؤالك الجوهري إلى الأعماق وبأقصى رغبة في الإمساك بأطراق حقيقة سؤالك بدهشة أتأمل كل الأضمومات والكتب فوق مكتبي ورفوف مكتبتي المتواضعة، بأحداق واسعة أتابع هذا العالم الخاص، أفتش في مخزون هذه التجربة. وأن علاقتي بالقصة القصيرة علاقة وجودية، خصوصا وأن تفرد هذا الجنس الأدبي بفلسفة خاصة عن الرواية يجعلها أكثر قدرة على التميز بين أخاديد الكتابة السردية بكثافتها واقتصادها. لذلك أرى أن فكرة “الرواية ديوان العرب” تخلق تلقيا مدفوعا إلى التسليم بهامشية القصة القصيرة كجنس سردي. القصة هي الكبسولة التي يلقيها القاص في وجه العالم. ما أجمل القصة القصيرة كلعبة يمكن أن يخرج بها القاص إلى شارع متخيل بين جماعات مبدعة وأخرى مفسرة في مشهد لا يتوقف عن التأويلات، في مشهد تحتفظ فيه ق .ق بمحدداتها الأجناسية والقراءة بمسافتها. منذ سنوات كنت مفتونا بهذا الجنس السردي وسأظل كذلك باحثا عن حصة للكتابة و التعبير من خلاله. إن القصة هي الجنس الأدبي الذي يناسب هذا التفكك والتشظي الذي يعرفه العالم الآيل إلى التمهزل، علاوة على كونها تسهم فعلا في تحرير الافراد من لاوعي الجماعة عبر نافذة يكون فيها المبدع أكثر حرصا على حيازة عالمه من خلال هذه الزاوية كما سبق وان اشارا إلى ذلك المفكر العروي والقاص أحمد بوزفور. لذلك بدأت كتابة القصة في المرحلة الثانوية واستمر في الانشغال بها الان كتابة وقراءة دون أن أنشر كثيرا من النصوص.بإيجاز القصة تناسب ثيمات لا اعرف كيف تردد في كل قصصي مثل الموت والحب والألم، وهي نفسها الثيمات التي شدتني في عبارة جميلة  لخوان رولفو .

1

  • كناقد كيف تنظر لواقع القصة القصيرة بالمغرب، وهل فعلا تأثرت بهروب القارئ للرواية؟

هذا السؤال مشدود كحلقة إلى السؤال الأول ، دعني أشق التفاتة في واقعنا الذي تعتمل تحت عباءته عدة أسئلة مقلقة و لها علاقة بالواقع ككل أملا في الاقتراب المشهد اليوم مثقل بعزوف على أشكال وضروب الخطاب المختلفة ،بل الإقبال على الحياة عموما أضحى أمرا ينقصه الإغراء. اليوم في غمرة أسئلتك تنهض بين أسئلة القاص وأسئلة الناقد محطات مفصلية تجعلني شخصيا اتجنب أن أنحاز إلى معسكر المشيعين لجنس أدبي وتفضيله عن آخر علما أن لكل عصر قيمته المهيمنة والفن الذي يستحوذ فيه على اهتمام القراء ويتوجه إليه المبدعون .بل داخل الجنس الأدبي نفسه تهيمن تقنية ومشكْلات فنية على أخرى في كل حقبة أدبية وهي فكرة ناقشها جاكوبسون أحد رواد الحركة الشكلية .النظر إلى واقع القصة اليوم هو نظر لها من زاوية تطورها وجدة منجزات كتابها وكاتباتها،هذه المنجزات التي اغنت حقا المشهد القصصي المغربي والعربي . القصة القصيرة وإن تناولت قطاعا أفقيا من الحياة فهي فعلا استطاعت أن تضغط على الوجود من فوهة ناي ونجحت في دفع العديد من القضايا إلى منطقة الضوء ،ومن خلال هذه الحركة كشفت أصغت لأعطاب المجتمع و هموم أفراده. القصة القصيرة لم تقف عند الأفق الذي رسمته قصة البدايات والنماذج الكلاسيكية ، وتأمل العلبة السوداء للنصوص القصصية المغربية يؤكد ذلك ،بحيث ان الخطاب القصصي قد عرف تحولا كبيرا ،لامن حيث الخطاب وطرائق التعبير ولا من حيث الموضوعات أيضا. لقد تم الانتقال من الكتابة الواقعية إلى تجريب الأشكال ، عبر التنصل من الأشكال القديمة ومحمولات الواقع والايديولوجيا، ورفض القصة الامتداد، بل دفع التجديد بكتاب القصة إلى اعتماد دليل شخصي في الكتابة و تنامت في المشهد القصصي عدة مجموعات الكوليزيوم والغاضبون الجدد …وانتشرت تسميات كثيرة كشفت عن المضي في التجريب والبحث عن أفق اخر ممكن ،اذكر فقط القصة التجريبية ،القصة المينمالية ،القصة الميكرسكوبية …وإذا هذا التجريب أدى إلى ظهور فنون جديدة فأعتقد عموما أن القصة القصيرة تحديدا لها مكانتها و محبيها ،وهي بيت مصنوع بدقة متناهية ،ينبغي أن تسير فيه مشدود الحطام مصغيا لعناصر الوجود وإلا انهار عليك البناء . وربما إذا نجوت من الموت قد تجرب كتابة الرواية.

  • هناك زخم إنتاجي على مستوى الكتابات القصصية اليوم وعدد لابأس به من هواة وغواة هذا الجنس الحكائي اللذيذ، هل ترى وجود حركة نقدية مواكبة وقوية؟

آمل دائما أن أكون محظوظا لأحصل على أضمومة جميلة ،او أصادف نصا قصصيا باذخا ، يكون الحظ حليفي أحيانا ،أقرأ للرواد و الجيل الجديد ، وتستوقفني الكثير من التجارب من خلال قدرتها المائزة على حيازة العالم حيازة جمالية تليق به بطرق تشخيص مختلفة ، تحضر فيها السخرية واشكال الهزء من العلائق والقيم والأبطال المتهالكة في دورة الحياة ، والمفارقة وتكسير خطية السرد و تنويع أشكال الزمن وتيار الوعي واستلهام العجيب وتذويت الأحداث  …كل هذه التقنيات التي استخلصها النقاد من تراكم قصصي امتد بعد سنوات السبعينيات تحت موجة التجريب أو الحسياسية الجديدة تكشف عن الحركة التي طبعت هذا الفن والتفاتة النقد إليها مواكبة ودراسة ، لكن دعني أقول لك هل كل التجارب قد أخذت حقها من الاهتمام ، وهل هناك فعلا مؤسسة نقدية مستقلة تتابع كل الانتاجات ؟ الجواب واضح إذا نظرنا إلى المجموعات القصصية التي تصدر خلال السنة وعدد الدراسات التي تواكبها ،رغم المهرجانات والجوائز المخصصة لهذا الفن في كل المدن المغربية والتي تنظمهما مؤسسات ثقافية معروفة ورغم البحوث الجامعية التي اختارت الاشتغال على هذا الفن  فالقصة تحتاج فعلا الى مزيد من العناية لأن ذلك سيقوي حضور التجارب المهمة المساهمة في رسم أفاق هذا الجنس ، وربما هذا ما دفع أحمد بوزفور إلى كتابة بيانه عن التخريب القصصي.وهنا أذكر بالدور الهام الذي قامت به مجموعو البحث في القصة القصيرة بابن امسيك بالبيضاء في عنايتها بهذا الجنس الادبي من خلال مجلتها قاف صاد..

  • كتابكم جمالية السرد في القصة القصيرة المعاصرة، والإهتمام الواسع الذي حضي به، من مهتمي هذا الجنس الجمالي المتوحش، الموسوم بالقصة القصيرة ، كيف تقدمونه له اليوم؟ بعدما صار في خدمة الجمال العمومي ،وهل من جزء ثاني له؟

أولا النقد ممارسة واعية وزاوية من زوايا تلقي النص الأدبي ، ينطلق من أسئلة جادة ،في هذا المساق يندرج كتابي النقدي جمالية السرد في القصة القصيرة الذي قدم له القاص والناقد المتميز الدكتور مصطفى يعلى واستفدت في إنجازه منه ومن الأكاديمية والروائية الدكتورة زهور كرام ،لهما الشكر بالمناسبة. هذا المؤلف النقدي الذي تطلب إنجازه سنوات حرصت على أن يكون متماسكا تنظيرا وممارسة ، من خلال الاستناد إلى مقاربة جوارية تبحث في جمالية النص السردي عبر دراسة أشكال المونولوجية والحوارية في النص القصصي ومساهمة هذين المكونين في إنتاجية المعنى وتحقيق جمالية السرد. ولعل التركيز على مجموعات عربية بعينها لا يعني الاجتزاء او الانتقاء و إنما بهدف رصد الظواهر المدروسة كما تقدمها تلك التجارب بقوة. يتضمن الكتاب النقدي بابين كبيرين ،الأول توقفت فيه عند تطور الحوارية والمنولوجية في النظرية النقدية الغربية واستقبالها في النقد العربي  والباب الثاني خصص لدراسة نماذج قصصية عربية .الكتاب صادر عن دار الوراق الأردنية واكيد سيصادفه القارئ بالمغرض الدولي للكتاب ، وافكر الأن بجد في توسيع قضايا اثرتها فيه. لأن أسئلة الأدب والقصة والنقد ليست بعيدة عن أسئلة الوجود والإنسان التي تتحول حياته باستمرار بشكل يصعب مراقبتها وضبطها.

  • سؤالي هذا حول عملك في تحديث اللغة في قصصك، ما وضيفة القاص اليوم؟ وما يقف وراء إشتغاله على اللغة أكثر من السياسي أو الأيديولوجي؟

الأدب عموما ينتزع المتلقي من طمأنينة زائفة ، وهو يسحبه إلى عوالمه التخييلية ليفتح عينيه على حيوات مدهشة تسوقها أساليب كتابة خاصة . الكاتب دائما عبر “تغريب مادته الحكائية ” أو الايهام بالواقعية ينزع القبح عن العالم ،لذلك يقدم محكيات تتلفع أحيانا الفضح عبر السخرية الموقفية أو السخرية اللفظية من أجل إبراز علاقة الذات بالعالم ، الذات الكاتبة بعالمها، الأبطال وشخصيات مجتمع القصة بعالمها المتخيل. أعتقد أن كل هذه العوالم لا يمكن أن تتخذ وجودا ماديا وتتحول إلى خطاب بصري إلا عن طريق اللغة، أي أن القصة القصيرة والحكاية لا تتحقق نصيا إلا بوجود اللغة . من هذا المنظور تأتي عنايتي بلغة القصة ،افضل أن آتي إلى القصة بلغة الشعر ونسائمه ، لذلك ستجد الكثير من المقاطع الشعرية تخلل نصوصي القصصية وهذا الحرص ليس سليل زمننا هذا بل يأتي الاهتمام باللغة الشعرية أو اقتراب لغة السرد من لغة الشعر في سياق التحول الذي عرفته القصة واستجابت له اللغة ، وهو أمر دشنته الرواية الجديدة في فرنسا منذ زمن وتميزت به كتابات الحساسية الجديدة في مصر وغيرها. أميل دائما إلى لغة موحية ورمزية في الكتابة القصصية. اللغة هي القصة والقاص ،هي أداته التي يرعى بواسطتها الكون القصصي بكثافة ودقة وأناقة ، اللغة التي بوسعها أن تمنحك العالم دون أن تجعله في متناولك. تلك اللغة التي بدأت الحديث بها في الكُتاب وتطورت عبر قراءة الشعر والأدب والكتابة لتتحول إلى لغة للاستبطان الأحداث الخبيئة في الذات والأحياز والحياة المعقدة بكثافة.عموما بواسطة اللغة قد ينحج الكاتب في تحقيق الانسجام بين شكل ومحتوى قصصه.

  • مجموعتك “جنائن معلقة فوق خط استواء”، لا أريد أن أتكلم عن التلقي النقدي المريح الذي لاقته، بقدر ما يهمني أن تطلعنا على شيء من مطبخك الداخلي للكتابة،هل لديك طقوس خاصة؟

عالم نصوص الجنائن مرفوع عن آخره أكاد لا أصله أحيانا ، كل الأخلام فيه مؤجلة ، وكل محاولة في استعادة فردوس مفقود تؤول بحك القلب والتحسر ، لاشيء غير الموت والحنين والحب المحشو بخيبة متناهية ، أذكر اني حذفت قصصا كثيرة من ذلك المنجز ،لأنها تحتفظ بذاكرة مشروخة وفاة الجد ، ابنة الخالة الأخت من الرضاعة في مرحلة كنت فيها اكثر التحاما بهما ، في زمن ما وجدنا جميعا انفسنا فوق أرض لسيت لنا ، فقط ارض نحب الوجود فوقها ووضعنا مصائرنا عليها . كان الأثر في الوجدان مختلفا مثلما ظلت الأرض جرحا ومستقبلا هاربا معلقا ،كانت الأرض مثل جنينة خضراء وارفة ، بفعل فاعل صار كل شيء مجرد ذاكرة للحنين والحسرة ،بقيت الموت والأرض فضاء مغريا ليقظة حراج وجدت طريقها نحو تشكيل مادة حكائية لقصصي. وهذا لا يعني أن قصصي شاهدة على طفولتي وشبابي ،بل تلتفت الى هاتين المرحلتين وتستعيد وهجهما في حوار مع المستقبل والحاضر. المكان الذي يغريني بالكتابة طبعا هو البحر ، فهو مكان للخلق حقا ، أتصور كلما تأملته اني ألهو فوق موجه ،من خلاله اكتب واكتب وافضل مدينة الجديدة وأتمنى ان اقضي عمري كله هنا لانها حقا ملهمة بفضاءاتها وبحرها وكتابها .ليلا ونهارا ،فلا احد يقرع أجراس معابدها كي نغادرها. لذلك بوسعي أن اكتب فيها بقية الحكايات. وأن أخرج منها وأعود إليها بنفس العطر وبإحداثيات إنسانية أكثر ابتهاجا

  • ماهي الكتابة عند عبد العزيز بنار؟

كتب الشاعر الفلسطيني محمود درويش إلى صديقه سميج القاسم قائلا:اكتب إلي..اكتب من أجلي..لأقرأ نفسي بطريقي سليمة.وصدق الحبر المصنوع من غيمة .لقد جربت وتغربت واغتربت ،فلم أجد أصفى من تلك المرآة …اكتب إلي ..اكتب من أجلي لترشد جهات الأفق إلى الجذور…انطلاقا من هذا الانتخاب السياقي بدأت بالكتابة لي ولولا الكتابة ما جمعتني بعالم الكتابة ولا العمل ولا الأصدقاء علاقة كهذه ، الكتابة كانت الصديقة ،والحبيبة في ظروف لم يكن اطلاقا نافذة انجو من خلالها من قسوة واقع وشباب لا يلفت إلا جهة التيه. الكتابة ذاكرة ضد النسيان ، نقش وحفر وتعبير بالكلمات، وممارسة يجب ان نتمرد بواسطتها على المعبد والساكن ، الكتابة سفر آخر واطلالة خارج الأقواس، الكتابة طقس خاص وجنون يجعلك اكثر تعقلا واكثر دقة، علمنا الابداع و الأساتذة أن الكتابة جسر ينقل اللغة من خاصيتها المشتركة والعامة إلى فضاء خاص هو الأسلوب .أسلوب يميز صاحبه.

  • في كلمات

  • الأدب

اشتغال على اللغة مع قياس المسافة بين حواف الأجناس الأدبية

  • محمد زفزاف

..اديب وفيلسوف نادر خرج عدد من  الكتاب من معطفه

  • القصة القصيرة

كبسولة يلقيها المبدع في وجه عالم متصدع ومشتت

  • عبد العزيز بنار

الأنا الذي يؤرقني ويفرحني كلما أمسكت بعالمه

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.