الرئيسية | سرديات | صيّاد المهشمات | زينة حموي

صيّاد المهشمات | زينة حموي

زينة حموي  (سوريا):

 

   ينهضُ قنّاصُ اللقطة من نومه الذئبي المُؤرَّق. يخرجُ إلى العالم خفيفاً مجرّداً إلا من حواسه ونظارته المجهرية. لا يفضّل عادة الطرق الالتفافية الطويلة، وفي نفس الوقت يتجنّبُ الدروب المفتوحة السهلة. يشقُّ لهدفه المباشر طريقاً يعبّدُها بالحفر والتجريب.

   يمشي في الظلّ وبين التخوم، في الأماكن القصيّة عن المركز حيث لا أبطال ولا بطولات. يقفُ عند المهمّشين والعاديين، ويقتربُ أكثر من المشوّهين والمعطوبين واللامرئيين. هو مثلهم أيضاً في نظر الكثيرين، غالباً ما يُصَنَّفُ في المرتبة الثانية بعد الشعراء والروائيين. ومهما اجتهد فلن ينال من ميدان الأدب سوى الميدالية الفضّية.

   قد يؤنسن الأشياء من حوله ويمنحُها حيوات أولى وثانية وثالثة. وقد يخترعُ للأحياء سِيَراً موازية تفترقُ عن الحقيقة دون أن تخونها.

يدخلُ إلى مناجم النفس البشرية لينقّبَ عن الكامن والسحيق والمخفي. ثم يخرجُ بالهواجس والأفكار والنوازع والأحاسيس ليفردها تحت الشمس، أو ليقلّبها في ساحات الكتابة والقراءة.

يقفُ خلف كاميرا الأدب، ويتخذ لرؤية الواقع أكثر الوضعيات انحرافاً وغرائبية. يختار زوايا التصوير الضيقة وغير المألوفة. وقبلَ أن يلقي نظرةً على الصور التي التقطها يمزّقها محتفظاً بالأصل، ليستخرج منه نسختَه المُطابِقة أو المُحَرَّفة.

يقصدُ بحرَ السّرد، فيركبه بسرعةٍ وحذر. يرمي شباكه للعابر من الأحداث. هو صيّاد المهمشات والثانويات. عينه على العمق حيث الالتقاطات الغارقة والتفاصيل الصغيرة. يتعلّمُ من الماء حديث الوضوح والغزارة. يتبادل معه الكلام عن متعة الوصف والكشف والإخفاء والحكي.

ُيخلّص صنارة لغته من شوائب الاستطراد، فلا مكان هنا للحشو أو الشطط. يعتني بسلامة صنارته ويحرص على سلاسة خيوطها وبكراتها في المفردات والتراكيب. يلمّعها بالتجديد والتجويد. يغنيها ويطوّرها بالبحث والتصويب. لا يملُّ من اختبارها ويدرّبُ نفسه باستمرار على حسن إمساكها بمقبضٍ مَرِنٍ وعنيد. فهي إما أن تكون مشنقة له أو طوق نجاة. فتراه يكثّفُ ويحلّلُ، يفكّكُ ويركّبُ، يرمّزُ، يختزلُ، يكرّرُ، يدورُ، يعدو ويزحفُ ويتسلّقُ.

يبتكرُ للوقت ساعةً فريدةً تعملُ وفقَ إيقاع النص. فيسرّعُ الزمن أو يبطّئه. يقفزُ فوق الحدث المتلكئ البليد، ويستمهلُ اللحظات الراكضة السريعة ويستوقفها. يستجوبُ العاديّات عن أسبابها. يغري المصائر بتغيير مآلاتها. يقترحُ للمألوف أشكالاً مغايرة. يستنطقُ الواقع ويحصي تفسيراته واحتمالاته الكثيرة.

يلهو برسمِ بورتريهات لوجوه الحياة بملامح مختلفة ومخاتلة. يتفنّن بالخطوط ويُمزجُ الألوان طِبقاً لوصفاته السّرية.

وفي مطبخ الكتابة، يجمع حصيلته من الصيد والتنقيب والرسم والقنص والتصوير، فيرمي بعضها في سلة المكرّر المهمل. ثم يشرع بتشكيل عجينته الخاصة. يمدّها في عقله، يروح ويجيء فوقها بمِدلاك المنطق أو اللامنطق، ويضيفُ لها توابل الغاية والمعنى. يخمّرها بالخيال. ثم يعزّز النكهة بالصدق أو الجدّة أو الإدهاش.

   يهملُ القوالب الجاهزة كلّها وأحياناً يكسرها، ثم يصبُّ عجينته في قالب جديد. لا يتأبّى عن الاستعانة بفنون الأدب الأخرى، بل يستعير منها ما قد يلزم نصَّه من مُحَلّياتٍ أو مُدَعِّمات أو موضِّحات. يجترحُ أشكالاً للنصّ تخدمُ فكرته ووحدته. وعندما يحين أوان الخَبْز لا يجدُ الفرن الأمثل إلا في داخله. فالقصة القصيرة لا تنضج إلا بروح كاتبها.

عفواً.. ماذا كان السؤال؟ “ما معنى أن تكون قاصّاً اليوم؟” أن تكون قاصّاً اليوم يعني، بالنسبة لي وحسب تجربتي، كلّ ما سبق. أن تكون قاصّاً اليوم يعني أن تكون دائم السؤال وأن تجيب على كل أسئلة هذا العالم بقصّة قصيرة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.