الرئيسية | سرديات | صياح أخير للديك | مصطفى زكي

صياح أخير للديك | مصطفى زكي

مصطفى زكي  ( مصر):

 

هل يحلم الموتى؟

هل نأتيهم في أحلامهم، فيهبُّون فزعين، ليجدوا أنفسهم لا زالوا في لحدهم المظلم الضيق؟! يتذكرون حياتهم السابقة، ويتذكرون أشياء كانوا قد نسوها.

هل يحلمون؟

أموت ثم أعود ثانية؛ لأموت بعدها مرة أخرى..

وفي كل مرة أراهم في الحلم أمامي، أراهم وأسمع صيحات ديك بعيد تدوي فأعرف أنني لم أمت، وأنني مستيقظ أهذي..

تتفكك عظامي ويسقط كتفاي، والألم العاصف ماضٍ في ارتفاعه. الشمس تواصل وخزها لي، والعطش يلتهم عقلي، والنعيق المقترب يحوم حول رأسي.

أواصل النحيب والأنين، يتصاعد الألم فأموت، ثم أفيق لأجد نفسي لازلت معلقًا كما كنت. حلمت به مرة أخرى هذه المرة. كان يسير أمامي، وكلما حاولت الاقتراب، ابتعد أكثر دون أن أرى وجهه.

نقرة أولى فوق رأسي أعادتني للحياة. النعيق الأسود جاثم فوقي. أهزُّ رأسي فيتشبث بمنقاره الحاد المغروز فيّ، ينهار جسدي لأسفل، يواصل الموت مراوغته وابتعاده. يداي المعلقتان جانبي ترتعشان، والألم يمرُّ فيهما كالنار.

أتطلع حولي من أعلى، تواصل الحياة زحفها دون أن تتوقف. ظننت بأن هناك من سيفتقدني ويأتي ليبكي عند قدمي؛ أصوات الباعة والناس من السوق القريب تصل إلي، الهواء البارد يحمل لي كل همساتهم وأصواتهم وأحلامهم التي كنت أحمل مثلها، الهواء يشتدُّ، والناس يواصلون الابتعاد.

أخبرني بما سيحدث لي؛ لكني لم أصدقه. أخبرني بأني سأصلب وتأكل الطير من رأسي. هل لو عدت ثانية وأخبرته بما أراه الآن أثناء موتي هل سيفسره؟! هل سيفسر رؤيتي له كثيرًا في أحلامي دون أن أرى وجهه؟! هل سأراه في أحلامي عندما أموت؟! ظننتني منذ قليل قد متُّ؛ لكن صياح الديكة أيقظني.

ظلام السماء يبتعد، والشمس تزداد نورًا وتوهجًا. كانت قد أظلمت منذ قليل، وكنت قد متُّ، وانتهى كل شيء. أواصل التطلع لأجد الطيور تقترب من جديد فوقي، وتهبط لتنقر رأسي المتصدع، أنتفض لأفيق وأجد نفسي معلقًا كما كنت. حلمت بما يحدث لي الآن، حلمت – وأنا معلقٌ فوق الصليب – بأنني معلقٌ فوق الصليب. ترى بماذا ستفسر ذلك الحلم لي؟

صياح واحد للديك قبل أن أشي بك. سأفعل انتقامًا منك عما سببته لي. تفسيرك للحلم هو ما صنع بي هذا. كيف عرفت كل هذا؟ كيف استطعت التنبؤ هكذا؟ أنتفض من جديد لأجدهم يشدونني للخارج لأحمل صليبي. نظرت في كفيّ، كانوا بحالتيهما، لم يُثقبا بعد،  يسحبونني خلفهم، أتعثر فأهوى غير فاهم. هل لم أُصلب بعد وكان حلمًا بما سيحدث؟ يطرحونني أرضًا فوق الصليب، ويدقُّون مساميرهم من جديد داخل كفي المفرود، أصرخ وأبكي وأتبول ألمًا قبل أن تؤلمني رأسي فأنتفض لأجد الطيور تتجمع حول رأسي المتدلي أمامي. كنت ميتًا منذ قليل وحلمت بهم يصلبونني مرة أخرى، كنت أنشج وأهذي وأرتعش.

هل يحلم الموتى بكل ما مروا به في حياتهم؟ هل تأتيهم كوابيس بما فعلوا وبما قد فُعل بهم؟ هل سيظل حلم الصلب مستمرًا هكذا للأبد؟ أسمع من جديد صيحة خافتة للديك، أتطلع لأجده أمامي فأحاول أن أسير خلفه، يبتعد عنِّي ليذوب بعيدًا، فيأتون من كل صوب ليمسكوني ويقوموا بسحلي خلفهم. أصرخ وأبكي وأتبول وأنا أعلم ما سيحدث مرة أخرى. أحاول المقاومة والهرب؛ ضرباتهم تزداد عنفًا، والصليب يزداد قتامة وتلوثًا بالدماء. يدقُّون مساميرهم فأنتفض، وأتقيأ من فوق صليبي المرتفع. الشمس ترتفع ببطء من خلف التلال البعيدة وهواء الصباح البارد له رائحة نفّاذة.

كنت جانبي بالسجن ونحن ننظر من النافذة الضيقة ذات القضبان على الشروق البعيد والصليب المنصوب بأسفل. تخبرني بتفسير ما حكيته لك، تنظر لي من أمام النافذة فيرتطم بعيني نور الشمس ولا أرى وجهك أبدًا؛ فقط أسمع الديك وهو يصيح من الخارج فأعبُّ من الخمر الرديء حتى أنام لأستيقظ واجدًا نفسي معلقًا فوق صليب للمرة الألف في ذلك اليوم،  أغمض عيني متظاهرًا بالموت فأراك تسير أمامي متجهًا نحو ضوء عظيم. لن أسير خلفك تلك المرة. أتوقف مكاني فتستدير لي دون أن أرى وجهك ككل مرة، تشير لي، فينقضُّون عليّ قبل أن أتبعك، ويسحبونني بعيدًا عنك.

في الزنزانة الرطبة ألوذ بالصمت، أتكور حول نفسي بعيدًا عنك، مغلقًا كفي جيدًا أمام صدري. الرؤية المضببة المتقطعة تتراقص أمام عيني وآلام الصلب تذيب عقلي. أشعر بالطيور تحلِّق حول رأسي فأهزُّها مبعدًا إياها عنِّي، ما تفسير ذلك؟ هل أحكي لك من جديد؟ أنظر نحوك مرة أخيرة مجبرًا نفسي على ابتلاع رؤيتي، أستدير ببطء مولّيًا إياك ظهري ناظرًا في الحائط الرطب، أسمع من بعيد صياح الديك المتحشرج، تفسر ببطء للآخر حلمه.  أغمض عيني بقوة كي لا أسمع، محاولاً نسيان حلمي ونسيان الكلام، تخبره بما سيكون،  تصمت قبل أن تسير نحوي بهدوء، أسمع خطواتك الخافتة، تضع يدك فوق كتفيَّ وتهزُّني، لا ألتفت، أواصل تظاهري بالموت، أرتعش وأنشج، أتبوّل قبل أن تهمس لي – دون أن أحكي لك شيئًا – بكل ما لم أرد سماعه..

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.