الرئيسية | سرديات | صور متقاطعة | نورالدين قـشـــــى

صور متقاطعة | نورالدين قـشـــــى

نورالدين قـشـــــى:

 

في يوم ربيعي حالم، عاد الأطفال إلى أقسامهم بعد الاستفادة من حصة الاستراحة. في أحد الحجر الدراسية، لاحظ المدرس الشاب أن طفلا في العاشرة من عمره، يجيد رسم الوجوه البشرية بتقاسيمها المختلفة وتعابيرها وإحساساتها. مر بالقرب منه مرات عديدة، توقف عنده، أخذ منه الرسم الذي كان يجسد ثلاث صور لإحدى الشخصيات الكرتونية المشهورة في وضعيات مختلفة.

  أخذ المعلم الورقة مبتسما وأراها لبقية التلاميذ بانفعال، وطلب منهم رأيهم في الرسم. قال طفل:

– إنه “طوم ساير”(1)

في حين عقب آخر:

– إنه رسم جميل، لم نكن نعرف أن بوعزى يرسم هكذا!

أخذ المعلم الكلمة وأشاد بإنجاز تلميذه مبرزا أن الرسم يمكن أن يكون موهبة، كما يمكن أن يصقل بالمعرفة، وكلما ثم الجمع بينهما كان أفضل. وهو  ينظر إلى تلميذه بوعزى، تدخل تلميذ ثالث معقبا على كلام أستاذه:

– هل يمكن لبوعزى أن ينجز فيلما للرسوم المتحركة؟

 – ولم لا! إن تمكن من متابعة صقل هوايته بالتمرن كثيرا، سيتمكن لا محالة من إنجاز فيلم كارتوني كما ترون على الشاشة الصغيرة؛ فهو مجموعة من الرسوم تنجز من طرف رسامين بحسب تسلسل وقائع قصة الفيلم، تم تركب وتحرك.

– وهل يمكننا أن نساعده على ذلك؟

– ربما…، ولم لا…،

ولكي يشحذ همة تلامذته، ويثير فضولهم أضاف قائلا:

– حتى نستفيد جميعا من موهبة صديقكم، سنحاول إنجاز قصة من الرسوم المتقاطعة كتلك التي تباع في الأسواق، سنتصورها في خيالنا جميعا ثم نحدد شخصياتها.

رفع بوعزى أصبعه طالبا الكلمة، فسمح له المعلم بذلك:

– لدي قصة صغيرة لعصفور قتل الصيادون أبواه وعاش وحيدا معتمدا على نفسه. تعلم الطيران لوحده وبنى عشه بنفسه ولما كبر أصبح ملكا للطيور.

انبهر المعلم لتفتق خيال تلميذه، في الوقت الذي أبدى فيه أصدقاؤه إعجابهم بالقصة، ورغبوا في الاشتراك في صياغتها. لكن وقت حصة الدرس كان قد انتهى. تركهم المعلم، عنوة، ليفكروا في مشروعهم الجماعي مطالبا إياهم بإنجازه في الأسبوع المقبل.

قبل خروج بوعزى، نادى عليه المعلم وطلب منه أن يسأله:

– هل لك أحد في العائلة يرسم؟

– لا، لكن أمي تجيد نسج الزرابي، وتجيد إدخال رسوم لحيوانات ورموز كثيرة في نسجها؛ لذلك كنت أقلدها مرارا فتمكنت في النهاية من التعرف على بعض أسرار الرسم.

– وهل أنجزت رسوما أخرى في البيت؟

– نعم، لكن لا يمكنني نقلها إلى هنا، فهي مرسومة على الجدران والأبواب وجدوع الأشجار المحيطة ببيتنا. لا أتوفر على أوراق لأرسم عليها، لذلك أجسدها في أي مكان فارغ أجده.

– حسنا، سأعطيك أوراقا للرسم وأقلاما ملونة، لكن عدني بإنجاز رسوم جميلة نزين بها القسم؛ لأنك ستكون لي وسيلة لتحفيز باقي أصدقائك على ولوج عالم الفنون التشكيلي.

خرج بوعزى من المدرسة، وهو يشعر بفخر وغبطة عظيمين. حاول أصدقاؤه جره للعب معهم لكنه فضل أن يسرع إلى البيت ليخبر أمه بما حدث له في القسم. في الطريق كان كل تفكيره منصبا على موضوع القصة التي اقترحها على المعلم، وعن السبل التي ستمكنه من القبض على خيوطها وأبطالها. ما كاد يصل البيت حتى سمع جلبة كبيرة وصراخا وعويلا. أدرك أن الضجة آتية من بيته، وأن الصراخ هو صراخ أبيه والعويل عويل أمه. أسر متذمرا ” إنهما يختصمان كعادتهما”. كان والده يصيح  بصوت مرتفع وهو يضرب أمه التي كانت تبكي وتستنجد:

– لا بد من أن تمنحينني النقود التي حصلت عليها من بيع المنسوجات الأخيرة!

– كلا لن أفعل.

– ستفعلين رغما عنك.

– إنها لي من عرق جبيني، لن أدعك تتصرف فيها كما تشاء. أنت لا تهدرها سوى في الخمر والقمار، وتدعنا نموت جوعا أنا وابني.

تسمر بوعزى في مكانه، وتوقفت كل أحلامه لحظتها. كان حائرا، قلقا. فجأة ارتفع صراخ أمه التي كانت تطلب النجدة. تحلقت زمرة من الجيران قرب البيت، يطلبون من جارهم أن يفتح لهم الباب. غير أنه تجاهل طلبهم. فاندفع بوعزى مسرعا. أخرج مفتاحه الخاص، وفتح الباب. هرع رفقة الجيران لنجدة أمه، فوجد والده في حالة هستيرية، بينما كانت أمه ساقطة على الأرض، فاقدة لوعيها.

أسرع نحوها، حرك رأسها، جس نبضها، تأكد أنها ما تزال على قيد الحياة. على وجه السرعة توجه نحو المطبخ وأحضر لها كوب ماء. حين رآه والده، ازداد غيضا، وطفق يكيل لابنه الشتائم. التقط هراوة وحاول ضربه بها، لكن الطفل لاذ بالفرار خارج البيت. تعقبه الأب محاولا القبض عليه إلا أن رجله التوت وسقط.

لم يتوقف بوعزى إلا عند مرتفع قريب وقد اعتراه احساس بالذنب من جراء ما وقع لأبيه؛ تخالجه أسئلة كثيرة، ورعب كبير، ممزقا  بين الرغبة في العودة إلى المنزل لنجدة أمه، أو إلى المدرسة بدون محفظته.

ثم سرعان ما انطلق عائدا غير عابئ بما سيحدث له إلى أن وصل إلى المنزل. وجد أمه تنتظره قرب الباب. بمجرد ما اقترب هرعت نحوه. ضمته إلى حضنها وسألته وهما يدخلان إلى المنزل:

– لقد أقلقتني، أين ذهبت وتركتني في حيرة من أمري؟

خائفا سألها:

– أين أبي؟

–  لقد أخذ النقود وغادر المنزل. إياك أن تتخاصم معه مرة أخرى فهو أبوك مهما حدث. ثم إياك والهرب ثانية من المنزل فقد تتسبب في حتفي.

– أنا لم أتخاصم معه، أردت فقط مساعدتك.

قاطعته وهي تمسح على رأسه:

– تناول غذاءك وخذ محفظتك كي تعود إلى المدرسة.

وهي تودعه، أمرته بالمبيت عند جدته بعد خروجه من المدرسة، وألا يخبرها بما حدث.

سرت الجدة كثيرا بقدوم حفيدها لكونه يملأ عليها وحدتها بعد رحيل ابنتها الصغيرة لمتابعة دراستها الجامعية بمدينة مكناس. أكرمت وفادته، وهيأت له غرفة خالته لينام فيها. بعد إنجاز واجباته المدرسية، لم يفتأ بوعزى أن طلب منها أن تحكي له حكاية الأميرة الجميلة، التي أراد  الغول الزواج منها. طفقت تحكي له بصوتها الشجي إلى أن نام.

رأى فيما يرى النائم أنه يقاوم الغول الجبار الذي اختطف الأميرة. هب لنجدتها لكن رجليه لم تسعفانه، فهوى كطائر صغير من فوق شجرة عالية. حرك ذراعيه. صرخ بقوة حتى سقط من فوق سريره على الأرض. استفاق مرعوبا ليدرك أنه في سرير غير سريره. أشعل الضوء وأخذ مكانه قرب الطاولة ثم شرع يخط في ورقته ما خالجه من أفكار حينها.

كان بوعزى يحكي حكايته بالصور، في لقطات تشد الأنفاس. بعد تعرض عصفورين للقتل من طرف صياد محتال، تركا خلفهما صغيرهما الذي كادت أفعى كبيرة أن تنال منه لولا تدخل نسر صغير بشجاعة كبيرة، أبعده عنها وأعاده إلى العش.”

سر بوعزى بما فعل وأحس أنه ألقى بحمل كان يعذبه. عاد لفراشه وغط في نوم عميق، لم يستفق منه إلا في صباح اليوم الموالي. توجه بوعزى مسرورا إلى المدرسة وكله لهفة للقاء معلمه. عند مدخل المؤسسة التقى أصدقاءه، واتجه رأسا نحو الفصل. بمجرد ما التحق المعلم رفقة التلاميذ، هب نحوه مسرعا ووضع  رسوماته فوق مكتبه، ثم عاد صامتا إلى مكانه تغمره فرحة عارمة.

انبهر الأستاذ بإنجاز تلميذه. هب واقفا وهو يحمل الورقة بين يديه تم صاح في فرح:

– إنها قصة كاملة لا ينقصها إلا التلوين وبعض الإضافات.

– عفوا يا أستاذ، القصة لم تكتمل، لكون العصفور الصغير لم يعد بعد ملكا للطيور.

– فعلا، ولكن هذه بداية جميلة بشخصيات واضحة، وعقدة قصصية، وحل للعقدة…من أين تعلمت هذا الحكي الجميل؟

– من جدتي، إنها تجيد الحكي.

– لكَ أُم تَرسُم، وجدة تحكي، لا ينقصك سوى بعض الإمكانيات البسيطة. أنت تستحق أن تكون في والت ديسني.

أخذ المعلم الورقة وأراها لأطفال القسم وقال:

– انظروا ماذا قدم لنا بوعزى. لقد رسم صورا متقاطعة تحكي قصة جميلة لطائر صغير. هذا عمل جيد ينبئ بميلاد مبدع صغير في هذه القرية…، لنصفق له جميعا. قاطع المعلم تلاميذه، وطلب منهم مساعدة صديقهم في إكمال تلوين قصته المصورة ليتم تعليقها على سبورة قرب مكتب المدير ليطلع الجميع على انجازه الباهر.

انتشل رنين جرس المدرسة فرحة بوعزى، الذي أدرك أنه بعودته إلى البيت، سينال عقابا شديدا من قبل والده لكونه قضى ليلة أمس بمنزل جدته دون إذنه.

وهو أمام بوابة البيت، هرع راكضا إلى غرفته. وضع محفظته، ثم عاد ليحيي والديه. ضمته أمه نحو صدرها وهي تسأله عن أحوال جدته، في حين قصفه والده بسؤال مفاجئ بمجرد ما انحنى على يده ليقبلها:

– كيف تجرأت على أن تتحداني وتبيت خارج البيت دون إذني بعدما تسببت في سقوطي، ألا زلت مصرا على أسقاطي من مرتبتي في أعين الجيران؛ سيتهامسون حتما أنني لم أعرف كيف أربي ابني؟

سحبته الأم من بين يديه، ثم صاحت في وجهه متحدية:

– أنا التي أمرته بأن يبيت عندها حتى لا تؤديه.

– وما شأنك أنت؟ هل  تمنعينني من تأديب ابني ؟

– كلا، أنا فقط أريدك ألا تلحق به أي أدى.

–  لن أؤذيه، كل ما في الأمر هو أنني سأرسله إلى المدينة لمساعدة عمه في تجارته.

– لن أوافق على هذا الأمر؟ ثم ما مصير دراسته؟

– ” التجارة خير له من الإجارة “، ماذا فعل بالدراسة من سبقوه من أبناء الدوار؟

– لن أفرط في تعليم ابني، ولا أريده أن يقضي حياته جاهلا مثلك.

–  لقد اتفقت مع أخي، وسنسافر يوم الأحد المقبل إلى خنيفرة. سيكون في استقبالنا.

 ثم غادر المنزل غير مكترث برد زوجته.

شعرت الزوجة بنوع من الحيرة فقررت الالتحاق ببيت والدتها لمواساتها في محنتها. بمجرد ما حكت لأمها تفاصيل الواقعة حتى بادرت هذه الأخيرة إلى تعنيفها بقوة على تصرفها الطائش.

   لما أظلم الليل، بادر بوعزة لانجاز فروضه المدرسية وتفرغ لإكمال قصته المصورة؛ مضيفا إليها حدثا عجيبا: بعدما حمل النسرُ العصفورَ الصغير إلى عشه، تعلقت أنثى النسر به وأشفقت عليه وحضنته مع نسريها الصغيرين.

في اليوم الموالي، استفاقت العائلة في بيت الجدة على قرع عنيف للباب. هب بوعزة مسرعا. ارتدى ملابسه، وحمل محفظته في حذر شديد استعدادا لمواجهة غير محسومة. بمجرد ما دخل والده وبدأ يعنف حماته وزوجته، اقترب من بوعزى في محاولة لتعنيفه هو الآخر. انطلق هذا الأخير مسرعا نحو الخارج. تعقبه والده وهو يتوعده بأشد العقاب. رأى والده يركض بسرعة، فتخونه ركبته ويسقط في منحدر. ما كاد بوعزى يصل إلى المدرسة حتى انقطع صوت الراكض خلفه. فكر في العودة لكنه خاف من أن يكون والده قد نصب له مقلبا. ولج المدرسة مسرعا، وأخبر الحارس بالأمر، واتجه نحو القسم مباشرة. وضع فوق مكتب معلمه ما رسمه بالأمس مع رسالة قصيرة كتبها بيد مرتعشة ” لم أقتل أبي ولا أريد أن أغادر المدرسة، ساعدني”. وهم مسرعا خارج المدرسة. لم تبد أمامه سوى الحافلة المتوجهة إلى خنيفرة واقفة بجانب الطريق. امتطاها دون شعور. توسل من أحد الركاب أن يؤدي له ثمن التذكرة، لكن هذا الأخير امتنع. أسرعت امرأة كانت تجلس بالقرب منه، فمدت النقود للجابي وأخرجت من حقيبتها اليدوية كوب ياوورت وتفاحة وورقة نقدية وقدمت الكل له.

شكر بوعزى المرأة وتذكر الطائر الصغير الذي احتضنته زوجة النسر. لكن صورة أبيه الملقى على الأرض بقيت عالقة في ذاكرته فرثي لحاله ولحال أمه التي سوف تكوى برحيل ابنها وموت زوجها. فانهمرت على خذه دموع دافئة رمقتها المرأة المحسنة فرق قلبها لذلك. جلبته إليها وضمته إلى صدرها. لكنه ما فتيء أن شعر ببرودة تغمر ذاته وضيق في صدره يكاد يخنق تنفسه. حاول تناسي الأمر، لكن الأمر تضاعف ليلفه صداع كبير لم يستطع معه مسك زمام أمره، فسقط مغمى عليه. حاولت المرأة وضعه فوق المقعد، لكن دون جدوى. أخبرت السائق بالأمر، ليتم نقله إلى المستعجلات على وجه السرعة.

لم تغادر المرأة المكان إلا بعد إجراء الفحوصات اللازمة للطفل وتم نقله إلى قسم الأمراض النفسية بعد أن تأكدت إصابته  بحالة نفسية مستعصية.

عثر حارس المدرسة على والد بوعزة  فاقدا للوعي وقد أصيب بكسر في إحدى رجليه. أخبر شيخ القبيلة على الفور، ليتم نقله إلى المستشفى بعد إخبار زوجته. اجتمع الأطفال أمام المدرسة يروون قصته لمعلمهم. حين دخل هذا الأخير رفقة تلامذته إلى القسم ذهل الجميع بوجود محفظة  بوعزى فوق طاولته. أسرع نحو مكتبه وألقى نظرة على الورقة. جلس يحلل مجرى الأحداث فأدرك أن بوعزى ظن بأنه قتل أباه، لذلك فر إلى مكان غير مجهول. فهم المعلم أيضا أن بوعزى أنجز الجزء الثاني من قصة “الطائر الصغير الذي أصبح ملك الطيور”. لكنه لم يستوعب عبارة “أنا لا أريد مغادرة المدرسة”. توجه إلى التلاميذ يسألهم عن ذلك، فأخبر بالنازلة من طرف أحد الأطفال الذي سمع أم بوعزى تبكي وتقول بأن ابنها لم يرد الانصياع لأبيه فيغادر المدرسة لممارسة التجارة بالمدينة مع عمه. لحظتها توجه إلى الأطفال قائلا:

– إن صديقكم بوعزى اضطر للفرار من بيته لكونه لم يرد مغادرة المدرسة، كما أنه أنجز لنا الجزء الثاني من حكاية الطائر الصغير، الشيء الذي يدل على أنه يفي بوعده ويحب التعلم بدل ممارسة أنشطة غير مخصصة للأطفال. بمجرد خروجنا من القسم سنبدأ البحث عنه في كل مكان ونساعده في محنته.

بعد مرور يومين على الحادث، خرج بوعزى من غيبوبته واطمأن الطاقم الطبي على سلامة جسمه. لكن الطبيبة المعالجة لم تتمكن من إخراج مريضها من حالته الانطوائية.

احتارت هذه الأخيرة في أمر مريضها الطفل واستشارت عددا من زملائها، فأخبروها بأن العلاج هو مسألة وقت أو لربما ساعد فاعل خارجي على ذلك.

وفي اليوم الخامس، وعند عودة الطبيبة إلى بيتها حكت لزوجها قصة بوعزى عله يساعدها في حل لغزه باعتباره مربيا متمرسا. ابتسم وقد علت وجهه دهشة كبيرة:

– لقد كنت، بدوري، أتحين الفرصة كي أستشيرك في أمر تلميذ لي، غادر بيته والمدرسة خوفا من أن يتهم بقتل أبيه.

نظر كل منمها إلى الآخر باستغراب. لحظة سألها متلهفا:

– قلت أنك استقبلته في بداية الأسبوع… وكم يبلغ من العمر؟

– نعم لقد أدخل إلى المستشفى يوم الثلاثاء الماضي صباحا وهو في سن العاشرة من عمره.

– وهل تتذكرين اسمه؟

– كلا، لقد أدخل باسم مجهول، إذ لم يكن يتوفر على ما يثبت هويته.

– وهل له خال في خده الأيسر؟

– أجل، ويرتدي سروالا بنيا، ومعطفا أزرق.

– إذن هو الطفل الذي أبحث عنه، إنه تلميذي بوعزى، يا لحرقتي عليه وحرقة أمه وأصدقائه!

عقبت الزوجة مستبشرة:

– إذن ستساعدني على علاجه؟

– بكل تأكيد أريدك أن تأخذيني إليه.

– هيا بنا إذن،  ليس لنا وقت نضيعه.

أسرع الزوجان بالتوجه نحو المستشفى. بمجرد ما ولجا غرفة بوعزى، حتى انبسطت أسارير المعلم فرحا. في حين ظل بوعزى  متسمرا  في ركنه. تقدمت  نحوه الطبيبة وبادرته بالكلام:

-أخيرا  تعرفت على اسمك، إنك بوعزى وهذا معلمك، جاء ليساعدك كي لا تغادر المدرسة. لقد أحضر لك أقلاما ملونة وأوراقا لتكمل  قصة “الطائر الذي أصبح ملكا للطيور”  هل ترغب في أن تحكي لنا ماذا وقع لك مع أبيك؟

بمجرد ما تناهى إلى سمع بوعزى “اسم أبيه” حتى دخل في حالة هستيرية، وأخذ يخبط رأسه مع الحائط. استدعت الطبيبة، على وجه السرعة، أحد أعوانها وحقنه بمهدئ كي يستعيد بعضا من هدوئه. غادرت وزوجها المستشفى باتجاه المنزل. في الطريق كان تفكير المعلم منصبا على حالة تلميذه مقررا إخبار والدته.

تفاجأت هذه الأخيرة بكون ابنها، الذي تبحث عنه، كان قاب قوسين بقربها في نفس المستشفى، الذي يرقد فيه والده، دون أن تستطيع الوصول إليه، فطلبت منه أن يأخذها إليه.

في صباح اليوم الموالي، دخلت الطبيبة غرفة بوعزى ففوجئت بوجود ورقتين رسم عليهما بوعزة رسما جميلا.  تضمنت الأولى خمس خانات. جسد في الأولى صيادا يريد قتل النسرين الصغيرين. في الثانية بين تدخل الطائر لإنقادهما من القتل بأن فقأ عين الصياد الذي كان يصوب بندقيته نحوهما. في الخانة الثالثة يجسد عناق النسور للطائر، في حين رسم في الرابعة نسرا كبيرا يضع على رأس الطائر الصغير تاجا وهاجا وهو يتوجه ملكا. و في الخانة الأخيرة مبايعة أسراب مختلفة من الطيور ملكهم الجديد.

وتصفحت الورقة الثانية فوجدتها مقسمة لسبع خانات تحكي ما وقع  للطفل مع والده، قبيل هروبه من المنزل، بتفاصيل دقيقة. ختمها بندائه الذي كتبه لمعلمه:” لم أقتل أبي، لم أقتل أبي

عجبت الطبيبة من قدرة الطفل على الحكي بالرسم. هاتفت زوجها وطلبت  منه الحضور الى المستشفى، لتقدم له إبداعات تلميذه. سر المعلم بها كثيرا  ثم خرج مهرولا كالمجنون، ليعود بعد لحظة رفقة والدة بوعزة، وهي تدفع زوجها فوق كرسي متحرك. بمجرد ما رأى هذا الأخير ابنه صاح فيه:

– ابني بوعزى، أنا أبوك…، اسمح لي يابني…، لقد أسأت إليك.

 تحركت أسارير المريض، وصاح في فرح:

– أبي، حي! أبي هل أنت حي ؟

رد الأب:

– نعم يا ابني لقد كان كسرا في الرجل اليسرى وقد أجريت لي عليه عملية جراحية بالمستشفى. لا تخف يابني لقد عودتَ جسمي على مثل هذه الكسور.

فجأة دخل الغرفة عدد غفير من أصدقاء بوعزى،  يرافقهم المدير وهم يحملون باقة ورد، فرحين بشفاء صديقهم ومتمنين له عودة سريعة إلى المدرسة. استغل أحد أصدقائه الفرصة، وتوجه إلى والد صديقهم بوعزى وسأله :

– هل لاتزال مصرا على مغادرة ابنك المدرسة ليلتحق بالعمل في التجارة؟

 أجاب مطرقا رأسه نحو الأرض في سهو:

– لا يا بني، وجودكم هنا يؤكد لي أن مكان بوعزى الحقيقي، بجانبكم وسط مدرسته، وليس في أي  مكان آخر.

عقب طفل آخر:

– هل تعلم يا عمي أن بوعزى رسام ماهر؟

– أعلم ذلك من كثرة رسوماته على الجدران وأبواب المنزل…، لم يترك مساحة  فارغة إلا ورسم عليها…، لقد تعلم الرسم من أمه النساجة، كما تمرس على حكي القصص.

 تدخلت زوجته غاضبة:

– جدته هي التي علمته ذلك، لكنه ورث عن أبيه سرعة الغضب الذي أفضى لاكتئابه، وهو ما أوصله إلى هنا اليوم.

تدخل المعلم لتحويل دفة الحديث مخاطبا إياها:

– ذاك ليس بغضب يا سيدتي، وإنما هو رقة الإحساس الذي يطغى على مزاج الفنان. أتنبأ لابنك مستقبلا واعدا.

وكي يرد الإعتبار للزوج أردف قائلا:

–  لمست في زوجك رهافة الاحساس والنبل. ظروفه المادية القاسية، والوسط الذي يعيش فيه هما اللذان جعلاه كذلك. علينا نسيان الماضي، ومواصلة مسار حياتنا دون كدر. في الغد  سنفرح بشفاء بوعزى، ووالده.

التفت الأب إليهم، وقد انهمرت دموع من عينيه:

– سيعود بوعزى إلى المدرسة، لا بد أن يعود.

عقب أحد الأطفال وهو يعانق أستاذه الذي طمأنه أن مشروع معرضهم الجماعي، الخاص بقسمهم لا يزال ساري المفعول:

– وسننشر يا أستاذ قصة الطائر الصغير؟

خرجوا جميعا من الغرفة كي يفسحوا المكان للطبيبة، التي  كانت رفقة امرأة غريبة. حين اقتربت هذه الأخيرة من بوعزى سألته:

– هل تتذكر هذه المرأة ؟

نظر إليها، ثم فجأة هب واقفا يحاول تقبيل يدها. امتنعت المرأة  بلطف، فأردف بوعزة قائلا:

– إنها المرأة التي ساندتني في محنتي.

 ثم خاطبها ممتنا:

– سيدتي، أنت امرأة عظيمة.

بدت له لحظتها كأنثى النسر التي احتضنت العصفور الصغير في عشها، فتساءل:

– هل تحققت نبوءة قصتي المصورة؟

Tom Sawyer (1)

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.