الرئيسية | أدب وفن | الفن | سينما | شعرية السينما في أفلام إنجمار بيرجمان.. | حميد عقبي
Ingmar Bergman 1965 Regissör chef för Dramaten Stockholm

شعرية السينما في أفلام إنجمار بيرجمان.. | حميد عقبي

حميد عقبي:

 

 

إنجمار بيرجمان هو رجل الحركة الديناميكية، شاعر الضوء والظلمة، الساحر البهلوان القادر على إضحاكنا وإبكائنا تخويفنا وترغيبنا، كل فيلم هو اشبه ببساط الريح يحملنا إلى أحلام جميلة ورعبا عنيفا ومدمرا.

خلال رحلته الإبداعية التي امتدت إلى أكثر من ستين عاما في العمل بالسينما أنجز المخرج السينمائي العالمي إنجمار بيرجمان نحو 48 فيلما وعددا كبيرا من المسرحيات والأعمال التلفزيونية والكتب، تحدث كثيرا عن فنه وأرائه تجاه الفن والسينما خصوصا، وتم تأليف مئات الكتب والدراسات الأكاديمية التي تناولت أفلامه كونه مدرسة سينمائية رائدة تضج بالشعر والإنسانية.

cris-et-chuchotements-bergman

إنجمار بيرجمان لم يكن يوما مؤمنا باله – يقول في إحدى المناسبات: ” انأ لست بحاجة إلى اله ولست بحاجة إلى الملائكة أو الشياطين انا ملاك و شيطان نفسي”.

جمع في أفلامه أفكار شائكة أثارت عليه الغضب والنقمة وكراهية البعض بسبب صراحته و فلسفته ونظرته التحليلية والمتعمقة للمجتمع السويدي بشكل خاص والغربي والإنساني بشكل عام، رغم المصاعب صمد كثيرا ولم يتنازل او يجامل إلى آخر لحظة في حياته، تحول اليوم إلى أسطورة سينمائية ومدرسة فكرية وفلسفية، سنكتفي في هذا الموضوع بالحديث عن بعض العناصر الفكرية والجمالية المهمة كونها سوف تقودنا إلى فهم بعض ما حاول قوله أعظم عباقرة الفن السينمائي.

إن أكثر أفلامه هي محاولة لفهم الإنسان وعلاقاته مع الآخرين، ثم يضرب في داخل عمق الإنسان ( مخاوفه، أحلامه وكوابيسه، ألمه وتعاسته، جنونه وقلقه) وهي أمور صعبة وحساسة تستدعي أن يلمس العديد من الجوانب المهمة التي تتحكم في هذه العناصر مثل (وجود الإله، الدين، الموت، ما بعد الموت، الجنس، النظم السياسية والاجتماعية، والأساطير) وغيرها، الأهم من ذلك الانطلاق من الواقع

والتعمق فيه لكشف وفضح الأمراض التي يعاني منها المجتمع والإنسان في هذا العصر الذي توفرت فيه عوامل اقتصادية وتكنولوجيا مريحة ولكنها أحدثت خللا وشرخا عميقا في الروح فأصبحت السعادة مجرد وهم والتعاسة واقع يومي وجحيم معاش.

لكي نوضح الموضوع علينا التوقف و التأمل مع بعض أفلام بيرجمان والتحليق معها من دون ان نسهب في سرد قصص الأفلام أو عرضها .

علينا قبل البدء أن نسال لماذا سينما بيرجمان شعرية؟ و هذا السؤال يطرحه الناقد السينمائي  Joseph Marty في كتابه une poétique du désir

و يوضح بأنها شعرية: لأنها إبداع فني صوري متحرك و ديناميكي تمتلك إيقاع خاص فهي تشكيلية بالألوان والإضاءة والإشكال، هي أسلوب تجعل الكائنات والقلوب تغني، هي موسيقى صورية تتوافق مع إيقاعاتها ومواضيعها ومليئة بالصدمات والمفاجاءت والصمت.

إن بيرجمان يمس أولا الأحاسيس ثم العقل هو يتحدث عن الأحاسيس على أسس جمالية مدهشة باهتمامه بالوجه الإنساني و الجسد، هي جمالية لأنها تلاعب مع الضوء و الظل، هو فنان حالم يقدم حلمه في أشكال صورية حية وناطقة، هو موسيقي ونحات مادته الأولى هي الضوء.

monika-b

اكتشف بيرجمان الموت مبكرا، تعامل معه في اغلب افلامه كواقع لا يمكن الفرار منه

بيرجمان يرى أن السينما والأدب لا علاقة بينهما، لذلك هو يخلق صوره بأسلوب شعري أشبه بالحلم، يهتم بقداسة المعنى وليس المعنى بحد ذاته كون الفيلم من وجهة نظره حالة روحانية وليست قصة، لكنه يثري الأفكار مع الصور ويتلاعب بها، يمزجها مع أحلامه وذكرياته الشخصية خصوصا ذكريات طفولته، بذلك تنساب الصور فتلامس أحاسيسنا بشكل اتوماتيكي إذ نجد انفسنا ضحية كابوس مرعب او سعداء بحلم جميل.

لنتوقف قليلا مع فيلمه “الختم السابع” كونه قصيدة مرعبة يقوم المخرج فيها باشعال التحقيق و الجدل مع العالم الميتافيزيقي باسلوب رمزي حيث وجه الموت وهيئته حاضرة و مسيطرة على الحياة، بل تخنقها ولا مفر من الموت كونه ليس مجرد وهم أو اسم نسمعه بل حقيقة تزلزل الشخصيات وتقهرها، لا تنفع منادة الإله لان الموت أصبح مغرورا وكأنه اكبر من الإله نفسه، في ظل هذه الأجواء فان الفارس العائد من الحروب الصليبية لقريته يتعرف على الموت ويلاعبه الشطرنج، لا يخاف منه لكنه في نفس الوقت ضحية شكه في وجود الله، لا يريد أن يسمع مواعظ أو يعرف ما تقوله النصوص، يريد ان يرى الحقائق الميتافيزيقية ويحس بها كي يتخلص من قلقه واضطرابه، نعيش مع الم هذه الشخصية في الوقت الذي نتعرف على ذلك المهرج ( جوف) وزوجته ( مياء) ـــ هذا المهرج الذي يعمل على إضحاك الناس لا يستطيع الخروج من أحلام اليقظة حيث يرى السيدة العذراء والسيد المسيح وهو طفل صغير ثم يتبادل معهما الابتسامات ويغني بكل فرح، هنا صورة المؤمن والكافر وجها لوجه.

إنجمار بيرجمان لم يكن يوما مؤمنا باله – يقول في إحدى المناسبات: ” انأ لست بحاجة إلى اله ولست بحاجة إلى الملائكة أو الشياطين انا ملاك و شيطان نفسي”.

رغم هذه الرؤية الا انه هنا يعكس حالة انسانية ليتاملها من بعيد ثم من قريب، يذهب متغلغلا في نفوس شخصياته محاولا ملاسة ارواحهم ليظهر لنا قوة اللذة والالم عبر هذه الصراعات يذهب ابعد من ذلك ليعيد صياغة بعض الرؤى والقصص الدينية من منظوره الخاص، يجعلنا نتقلب في عالم ميتافيزيقي لا حدود له عبر اسلوب سينمائي فريد وجذاب وصعب، فهذا الفيلم من اصعب افلامه واكثرها سوداويه وقتامه، كل صورة كفيلة بهزك وزلزلتك، تظل متعلقة بروحك وفكرك واحاسيسك تعيش معك ايام بعد مشاهدة الفيلم فلا تحس انك بحاجة لمشاهدة فيلم سينمائي اخر لعدة ايام وليالي لان صور الفيلم تظل حية تسير معك اينما تسير.

نحن هنا لسنا امام مزج بين الرومانسي والرعب، لسنا امام عرض فلسفي او قراءة لفترة تاريخية او اسطورية، نحن امام واقعنا او لنقل بشكل دقيق نحن امام انفسنا، الفيلم هنا بمثابة منبه يحاول لفت انتباهنا لما يحدث في دواخلنا ليكشف المخفي منها ثم يضعنا امام حقيقة انفسنا وحقيقة الواقع والكون من خلال هذا الصراع بين الحياة والموت، بين الحلم والكابوس، بين الخوف والرجاء، بين اللذة و الالم.

هذا الفيلم قدم رحلة سفر من وجهين، بالنسبة للفارس رؤية الموت والتحدث اليه وملاعبته الشطرنج كانت بمثابة معرفة فكرية محسوسة، اما بالنسبة للمهرج او الفنان كان بمثابة غناء للحياة والحب نقلت لنا صعوبة الحياة والواقع اليومي بطريقة شعرية وتقديم حلمه الا وهو رؤيته للعالم الروحي الميتافيزيقي الذي يجلب السعادة رؤيته للسيدة العذراء والسيد المسيح طفلا يحاول المشي، نجد صورة المسيح و امه حاضرة متمثلة في زوجه جوف و ابنه الصغير و فراره بهم من الموت في نهاية الفيلم ونجاحة في انقاذهم رغم العواصف ووحشة الغابة ووباء الطاعون كان استعارة مدهشة لانقاذ حلم المهرج، انقاذ المسيح و امه كونهما حلم انساني للبسطاء والمقهورين والبؤساء، تعامل بيرجمان مع هذه الرموز الدينية بصورة انسانية وبقاء وجودهم يثير جدلا اعمق، كونه يعتبر ان الاساطير والاديان احلام طفولية للانسانية البدائية، التقديس هنا ليس تقديسا للدين و انما للحلم، ليس من منظور ورؤية مؤمن او كافر وانما من رؤية شاعر وفنان لذلك احتفظ بحلم شخصيته وجعل الموت يرقص مع الاخرين في رقصة شعبية نهاية الفيلم.

اكتشف بيرجمان الموت مبكرا، تعامل معه في اغلب افلامه كواقع لا يمكن الفرار منه، بل لابد من التحاور معه واكتشاف معنى الحياة والحب من خلاله وعناصر اخرى لا مرئية سبق ان اسرفت الكثير من الاساطير والحكايات في التطرق الى الموت والبحث عن السعادة والخلود حيث تكاد تتتفق معظم الاديان بانه لا مفر من الموت وحتى نشعر باللذة والنعيم الخالد مابعد الموت فمن الضروري محبة الاله ومحبة الاخرين وتغليب الروحي على المادي والخير على الشر كطريق للسعادة الدنيوية والاخروية.

لكن رجال الدين قاموا باستغلال العنصر الروحي احيانا من اجل جني مصالح شخصية لذلك فمن وجهة نظر هذا المخرج بضرورة مراجعة هذه الاديان ولعل انقاذه للسيد المسيح والسيدة العذراء في فيلم “الختم السابع” دليل على هذه الرؤية، ففي احدى المشاهد نجد الفارس يدخل للكنيسة ويتامل الرسوم لكن الاضاءة خافته وضعيفة والمكان موحش هذه دلالة على قسوة الدين بمفاهيمه الحالية ويتكرر مثل هذا الاسلوب في الكثير من افلام بيرجمان، من وجهة نظره الدين لا يملك كل الحلول لجلب السعادة والسعادة التي يشعر بها المومن ناتجة من الحلم والخيال، نجد ذلك في فيلم “صرخات وهمسات” حيث الخادمة تصلي بكل خشوع وتشعل الشموع للسيدة العذراء ـــ تتمنى السعادة رغم ان الموت حرمها من طفلتها الصغيرة نفهم من ذلك ان المؤمن متسامح مع الله، فرغم ان الاله ياخذ منه مايحبه ويحرمه منه الا ان المؤمن يظل متعبدا، شاكرا وحامدا.

في فيلمه “كما في المراه” كارين تعاني من مرض نفسي وتتخيل انها على علاقة بالاله الذي يظهر لها في شكل عنكبوت في غرفة علوية مهجورة من المنزل بجزيرة معزولة، الاله هنا هو الحب والحب هو الاله وكلاهما مجرد وهم وخيالات او احلام من الممكن ان تجلب لنا السعادة او التعاسة، في هذا الفيلم الاله ينزل من السماء لياخذ كارين الى عالم اخر، هنا يحقق المخرج امنية شخصيته في نهاية الفيلم من خلال لقطة نزول طائرة هيلكوبتر صغير في شكل عنكبوت نجدها تنزل بهدوء و نشاهدها من خلال اطار النافذة، شعرية بيرجمان في قوة صورة التي تاتي من خلال هذه الاستعارات الغير مباشرة وذات المعاني اللامحدودة وهي تنقلنا من عالم واقعي محدود وضيق الى عالم فسيح ميتافيزيقي بلا حدود..

في فيلم “مونيكا” و هو من اجمل افلام بيرجمان، هذه المراهقة التي تعيش في اطار ضيق مع اب كحولي وام ضعيفة ومهزومة تطمح للتخلص من هذا الواقع فتجد في (هاري) الشاب البسيط احد الحلول تسارع بربط علاقة معه واغرائه فيكون الحل ترك هذا العالم للعيش في محيط اللذة في جزيزة صغيرة لممارسة كل انواع اللذات والعيش في جنة الخلد، لكن هذه الجنة تتحول الى سجن تعيس بعد نفاذ الغذاء والشراب وبعد ان تكون مونيكا حامل، هنا يعود الواقع بقبحه وقسوته وتتحول اللذة الى الم يطال جميع الشخصيات، رغم ذلك تحاول مونيكا مرة اخرى الهروب من هذه الدائرة الضيقة الى عالم اخر برجوعها لصديقها الاول وخيانة زوجها ثم تركه وترك طفلتها، هذه الشخصية رغم قسوتها وتمردها على زوجها الا انها تظل حلما جميلا، ففي نهاية الفيلم يعود هاري الى المقهى حيث كان اللقاء مع مونيكا لاول مرة، ينظر من خلال المرآة ليستعيد مشاهد من جنة الخلد المفقودة.

في فيلمه “العلاقة” يتناول بيرجمان اسرة برجوازية زوج وزوجة وابناء لكن العلاقة بين الزوج والزوجة باردة خصوصا العلاقة الجنسية، ياتي دافيد باحث الاثار اليهودي ويتعرف على الاسرة، سرعان ما يربط علاقة مع كارين تتوثق العلاثة بسرعة وتستمتع كارين بحلم جميل ولذة رائعة فتخون زوجها الطبيب الذي يمضي معظم وقته بالعيادة ونظرا لان هذه الاسرة تعيش في قرية صغيرة يعلم الزوج بالعلاقة بين زوجته و دافيد ـــ هنا المخرج لا يعيد التحدث عن مشكلة اجتماعية كثيرا ما تطرق لها و هي صعوبات العلاقات الزوجية، لكنه يبحر في دواخل هذه المراة التي تبحث عن اللذة؛ لكن هذه اللذة تتحول الى الم قاسي كون العاشق شخصا غير متزن يتصف بالعنف و مصاب بمرض نفسي،هنا كارين هي بين رجلين (الاول بارد والثاني عنيف ومضطرب) و لكن في الاخير تقرر ان تكون لنفسها وليس لاي رجل، ورغم ان العاشق يكتشف في النهاية انه يحبها الا ان هذا الرد جاء متاخرا، في نهاية الفيلم يلتقي العاشقان في مكان مغلق هو حقل زهور، هنا المكان له دلالاته الميتافيزيقية فكثيرا ما يصور لنا بيرجمان الجنة بشكل مادي ملموس ولكنها دائما محدودة وضيقة فلا يمكنها ان تعطي الكثير من اللذة والنعيم.

واخيرا يخرج العاشقان وتترك كارين العشيق في حالة الم وحزن لتعود لمنزلها واسرتها او لنقل لتحتفظ بنفسها لنفسها، فالحب وهم و الزواج هو رابط اجتماعي واهي وضعيف لا يحقق السعادة، في الكثير من افلام بيرجمان المراة هي من يقرر فك الارتباط وتظهر قوتها و عجز الرجل وخوائه الروحي و النفسي او انقلابه الى وحش كاسر وعنيف كما في فيلم ” العار” حيث الزوج الضعيف بفعل الحرب يتحول لوحش يقتل شخصا ويضرب زوجته، بيرجمان في هذا الفيلم تعرض لكارثة الحرب و ما تحمله من كوارث للانسان كونها عنصر هام في المه وتعاسته وقد تطرق لهذا الموضوع في الكثير من افلامه فهو يخلط احيانا الماضي بالحاضر والاسطوري بالواقعي والمرئي باللامرئي والحلم بالكابوس، هو اسلوب الشاعر و الفيلسوف اكثر منه مجرد سينمائي يعتمد على مجرد نقل او توثيق حدث او حكاية، نجد ان شعرية السينما لا تاتي بقوة الصراع والحبكة ولكنها جسر وممر الى دواخل الانسان لاكتشافه فكل فيلم للمخرج إنجمار بيرجمان هو اكتشافات روحية كما ان الفنان في اعماله حاول ايضا اكتشاف ذاته و هواجسه وجنونه وقلقه.

 

سينمائي وكاتب يمني مقيم في فرنسا

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.