الرئيسية | ترجمة | شارل بودلير : حياته، مزاجه، صراعاته | أندريه غيو – ترجمة: سعيد بوخليط

شارل بودلير : حياته، مزاجه، صراعاته | أندريه غيو – ترجمة: سعيد بوخليط

أندريه غيو

ترجمة: سعيد بوخليط

أندريه غيو مؤرخ وصاحب دراسة حول ”أزهار الشر”، يرسم صورة شخص ”متفرد” مثلما يقول الشاعر عن نفسه. بودلير الذي بقي مدة طويلة غير مفهوم، يثير الاستنكار، جراء واقعيته التي اعتبرت “سلوكا داعرا”، أحب ”مخاتلة وصدم محاوره”. بودلير وريث التقليد الكلاسيكي الكبير، سيضع لبنات عهد جديد بحداثته الشعرية.    

س- ماهي الأحداث المهمة في حياة بودلير؟

ج- أرى ثلاثة. أولا، الزواج الثاني لأمه. كان بودلير طفلا لحظة وفاة أبيه شهر فبراير1827، في سن السادسة. لم يكن مأتما حقيقيا بالنسبة إليه. أما اللحظة التالية فتميزت بكونها خاصة سعيدة: استمر كيان أمه حاضرا له وحده. بيد أن الأرملة الشابة ستتزوج شهر نوفمبر سنة 1828، مع الضابط جاك أوبيك Aupick. تلتها حالة من الرضى، بحيث بدا أن الفتى اليتيم الأب وافق على زواج أمه، ونظر إليه كأب جديد. بعد فترة، تجلى التنافر بينهما مطلقا. تجلت مشاهد عنيفة ثم مختلف المؤاخذات التي وجهها بودلير إلى أمه انطلاقا من ذلك اختزلت في تظلم وحيد: لقد خانته حينما تزوجت ثانية، ومن نتائج ذلك القرار الذي استلهمه زوج أمه أوبيك بشكل مبالغ فيه، لما قرر أن يفرض على الشاب الراشد وصاية مالية. فابتداء من 21 شتنبر1844، لم يعد لبودلير حق التصرف في إرث والده، بحيث كُلف موثق عقود اسمه نرسيس أنسيل، كي يدفع له مبلغا كل ثلاثة أشهر، تستخلص من ثروته.

الواقعة الثانية المهمة: تمثلت في الدعوى القضائية على عمله ”أزهار الشر”، جراء حمولته الرمزية الثقيلة. لم يتوقع بودلير شيئا من هذا القبيل. استند اطمئنانه على ما نشره في المجلات دون أن تبدى وزارة الداخلية أي ردة فعل تذكر. لم يكن حريصا: مزاج بودلير ليس من هذا الصنف. إنه شخص يتكلم بحرية، في الفضاءات العمومية، والمقاهي، وجلسات الجعة، حيث للجدران آذان. نسمع إليه، نصغي إليه، ثم نسرع إلى الوشاية عن أحاديثه. هو موهوب بخصوص إزعاج بعض الصحفيين الشباب لجريدة لوفيغارو، مما دفعهم إلى التكتل ضده: غوستاف بوردين، لوي غودال، جان هابانس، جان روسو. هاجموه من خلال الجريدة ثم رتبوا مقالاتهم الإخبارية ضمن نطاق وجهة معينة للتشهير به. حافزهم واضح: أرادوا أن يقيموا مع السلطة تحالفا موضوعيا حماية لأنفسهم. إذن سياسيا وخاصة إيديولوجيا، يقف هؤلاء في الضفة الأخرى.لقد أرادوا مواصلة الدفاع عن قضية التقدم. ذلك أن نموذجهم الشعري، تمحور على مؤلف ماكسيم دو كومب: أغاني حديثة. الذي يمثل أطروحة تتناقض مع نصوص أزهار الشر. إبلاغهم عن بودلير، جسَّد إشارة تنم عن إرضاء وتودد للسلطة، حتى يتجنبوا إزعاجها لهم.مع ذلك، اتسم موقفهم أيضا بنوع من الصواب. لقد طور بودلير ثقافة للشر أثارت لديهم صيغة من التقزز. فٌهم تأنُّقه تصنعا. بالتالي، صار وحيدا بين مطرقة التحالف الموضوعي لهؤلاء الشباب الجمهوريين العاملين في صحيفة لوفيغارو، ثم سندان السلطة الامبريالية. لم تسرع إلى نجدته أي شخصية تحظى بتأثير. هكذا خسر أمام القضاء.

س- ما هو الحدث الثالث؟

ج- هو أمر تبدى مع الزمان :أقصد مرضه. بحيث تعايش معه، مراقبا ومروضا التقرير الصحي عن أعراض مرضه ببصيرة مدهشة. نعلم ذلك، لأنه هو نفسه كشف الأمر، لاسيما إلى أمه وكذا ناشره أوغست بولي-مالاسيز، موضحا إصابته بمرض الزهري-تنفط جلدي مثلما كان يسمى خلال تلك الحقبة – حين مغادرته المدرسة، بحيث كان يافعا جدا، خلال فترة سماها ”حياته الحرة” في باريس: حرية أدى ثمنها! ولم يتوفر وقتها علاج حقيقي. إبان أولى تجليات مرضه، فكان يحصل على عقاقير من صيدلي، مقترضا النقود من أخيه غير الشقيق ألفونس بودلير. توارى المرض، ثم عاد فيما بعد، لكن هذه المرة وفق علامات مختلفة، لحظة تواجده بمدينة ديجون، بعد شتاء 1848-1849. ثم مع نهاية سنوات 1850، بحيث انكشفت لديه أعراض أكثر إزعاجا. ذات مرة سقط في الشارع مغميا عليه. وقد روى الواقعة لأمه، متحدثا عن التهاب دماغي. الحادث المتعلق بالأوعية في مدينة نامور البلجيكية شهر مارس 1866، ومثيلاتها في بروكسيل شكلت تأثيرات آخر مرحلة من مراحل المرض؟ يمكننا التفكير في ذلك، لكن لم يتم الإقرار حقا بأي تشخيص.

س- ماذا عن طبيعة تكوينه؟ وماهي أولى قراءاته؟    

ج- كان بودلير تلميذا عاديا، لكنه تلقى تكوينا متينا في الكوليج الملكي بمدينة ليون، ثم كوليج لويس-لوغران الباريسي. تعلم اليونانية واللاتينية ثم الانجليزية. خلال تلك الحقبة، من اللازم قراءة كتّاب القرنين السابع عشرة والثامن عشرة، أساسا بيرناندين دي سان بيير وبوفون، بدل فولتير أو لاكلوLaclos. في مؤسسة لويس-لوغران، صادف أستاذ ممتازا اسمه جاكوب ويلهيم رين، الذي اهتم به وشجع استعداداته لنظم الشعر اللاتيني. لأن الشاعر المستقبلي الذي أضمره عبر عن نفسه أولا باللاتينية، مثلما فعل رامبو بعد ذلك. لقد عشق بكل بداهة التأليف وفق البيت الشعري اللاتيني. بالموازاة، قرأ المؤلفين الرومانسيين مثل فيكتور هيغو. خاصة سانت بوف، حيث أثرت فيه بعمق روايته المعنونة ب: volupté.

س- ماذا يمكننا القول عن علاقاته النسائية؟

ج- غامضة جدا. بعد الثانوية، تردد على عاهرة شابة اسمها سارة .حين عودته من سفره إلى الجزر سنة 1842، التقى جين ليمر، التي عاش معها فيما بعد. ثم جاءت علاقته مع ممثلة تدعى ماري دوبرون. ومع السيدة ساباتيي، في جريدة لوموند، التي كان يبعث له بقصائد دون الكشف عن اسمه لكن يظهر بأنها لم تكن غافلة عن ذلك. ”شأنه” مع التي كانت أيضا مؤثرة في تيوفيل غوتيي، وآخرين كثيرين تعتبر دالة عن سلوكه الشبقي. كان يغازلها مثل عاشق شديد التجمد، نحو إلهة يتعذر الحصول عليها، على طريقة الشاعر بيترارك. ثم انكشف، خلال لحظة المحاكمة، بحيث لا يمكنه أن يفعل على نحو آخر. يقضي ليلة معها، ثم انتهى كل شيء. لقد كتب إليها دون تحفظ: “منذ أيام، كنت إلهة، وهو وضع مريح جدا، وجميل جدا، وحصين جدا. ثم ها أنت حاليا صرت مجرد امرأة “. لقد تحدث بودلير عن الحب كثيرا. قناعته بهذا الخصوص، تكمن في تلازم المعاناة واللذة. لكن هل اختزل كل شيء بإشارته تلك؟ صديقه نادارNadar، الذي يظن نفسه بأنه جد مطلع وصف بودلير في دراسته عنه صدرت عام 1911ب ”الشاعر الطاهر’‘. فكيف بشخص أصيب بداء السفلس في سن العشرين أن يكون طاهرا؟ليس معقولا.إذن لماذا غاب هذا الأمر عن تقييم نادار؟.

س- ماهي سمات مزاجه؟ هل كان منعزلا؟ شرسا؟

ج- الصفة الأكثر دقة هي التي وظفها بودلير، حينما وصف نفسه بالرجل “الغريب”. صفة عكسها أيضا على الذين يشعر بقربه منهم، كإدغاربو وبلزاك وفرانسيسكو جوزي دو غويا Goya أو قسطنطين غيس. لقد كان شرسا في نطاق اعتقاده بأن الإنسان موسوم بالخطيئة. في ذات الوقت، يميل إلى أفراد الطبقات الاجتماعية الدنيا، والمهمشة مثل العواجز، والبوهيميين، وضحايا القدر. أما هل كان ساخرا؟ أيضا، هو تحديد غير دقيق، لكنه نزع إلى مخادعة محاوره واستفزازه. أساسا، ومنذ حقبة المدرسة، كان يذيع شتى أنواع الحكايات الساخرة فتظهره بصدد السخرية من محاوره. لقد خلق بنفسه هذا القناع المخادع، متهكما مثلا بموضوعات جنائزية، متلاعبا بدلالتها الأصلية. لقد أُخذ بعين الاعتبار كثيرا هذا التنكر فيما يتعلق بسمعته السيئة. أحيانا، الحكايات التي يرويها تتسم بإدراك للحقيقة على نحو خاص جدا. كما الوضع مع حالة حلم، عاشه، جعله يستيقظ مفزوعا، ثم ورواه إلى أسيلينو يوم 13 مارس :1856كان على متن سيارة إلى جانب أصدقائه، يحمل نموذجا من إصدار حديث لترجمته عمل إدغار بو: حكايات مدهشة. لقد أراد – أثناء حلمه-تقديمها إلى مكلفة بماخور. فعلا، أودع عمله أمام الماخور، لحظتها اكتشف صورا غريبة: رسوما هندسية وأشكالا مصرية، وتصاميم فاحشة. ثم في مكان أبعد، تجلت له رسوم أخرى: عصافير ذات ريش ”يلمع” و ”العين نابضة بالحياة”. على امتداد تسكعه، تنتظره رموز أخرى، تجسد أجنة، مع أسطورة تخلد ولادتها المخفِقة:”فتاة ما ولدت هذا الجنين في سنة ما”. أحدها، لازال على قيد الحياة، لأنه هرب من اليمبوس. يجلس مقرفصا حاملا ثعبانا طويلا وضخما يمسك برأسه يمينا. ثم شرع الشاعر والجنين يتحاوران.

س- تكلم سانت بوف عن ”جنون بودلير” كيف تفهم هذه الصياغة؟

ج- إجمالا، مناسبة تماما. تدوي بطريقة صائبة. إنها كيفية مزخرفة قصد تحديد قراءة بودلير. ينبغي فهم، كلمة جنون وفق ثلاثة معاني: الجنون الحقيقي، فقدان المعنى المشترك، لكن أيضا حسب الإقرار الأكثر شعبية الذي يبين “ممارسة مجنونة”، ثم حسب المعنى المعماري المحيل على مبنى صغير منزويا بعيدا، وسط منتزه ريفي. استعمل سانت بوف هذه العبارة شهر فبراير1862، ضمن مقالة يعلق في إطارها على مرشحي الأكاديمية الفرنسية، ومنهم بودلير. خاطب جمهورا واسعا، لكن أيضا زملاءه، مثيرا انتباههم صوب شخصية غريبة تستحق تسامحهم، تستبعد نفسها من المؤسسة الأكاديمية وكذا كل اعتراف.

س- كيف يتصرف أثناء النزاعات،وخلال الشدة؟

ج- لقد نظَّر لسوء التفاهم، الذي هو نفسه مفتاح علاقة الحب. لقد شرح محاكمته بسوء الفهم. لم يُفهم معنى شعره، المنطوي على دلالة ذات عمق ديني. عاش تلك الواقعة القضائية باعتبارها إهانة، إلى جانب أخرى كثيرة، معلنا في نفس الوقت بأن الإهانات التي كابدها بمثابة ”نعم إلهية”.هكذا يستند بودلير إلى مذهب العناية الإلهية جراء قراءاته لجوزيف دو ميستر : الضحايا وجلاديهم مأخوذين ضمن نفس الحتمية.

س- ماهي المكانة التي يشغلها بودلير في المشهد الشعري الفرنسي؟ هل شكل قطيعة أو انتمى إلى نفس التقليد؟

ج- بناء على وجهة النظر هذه، يعتبر بودلير كذلك متفردا. لقد ورث تقاليد كلاسيكية ورومانسية وباروكية، لكنه قبل كل شيء صاحب رأي مغاير.

س- ما هو الموقع الذي تشغله أزهار الشر في تاريخ الأدب؟

ج- أستعيد تصور فلاديمير نابوكوف: تجسد تحفة من قبيل أزهار الشر، لحظة كمال، غاية سيادة الفن وبلوغه الاكتمال. عند عتبة قطيعة، لكن دون أن يحدث الاقتحام.

س- ماذا بوسعنا القول عن لغته وأسلوبه؟ هل يلتجئ إلى طرق خاصة؟

ج- اتجه الحديث غالبا نحو نزوع بودلير إلى المقارنة المستهجنة والصيغة البلاغية القائمة على نعت الشيء بنقيضه. أخبرنا بروست بأنه تكلم لغة راسين. واعتبر كلوديل لغته كلاسيكية أصابتها عدوى الصحافة: “إنها مزيج مذهل بين أسلوب راسين وكذا الأسلوب الصحفي لحقبته”. ملاحظات صميمية، لكن يلزمها في اعتقادي أن نضيف لها هذه الجملة الحدسية الصغيرة ل سانت بوف :”تبنى نموذج الشاعر بترارك لكن فيما يتعلق بالفظيع”.فأزهار الشر،تمتلك شيئا من جمالية الأسلوب الباروكي.                      

س- ماهي وجوه الأدب الكبيرة التي ألهمته أو أثرت فيه؟

ج- لقد قرأ بودلير كثيرا. ونزع نحو المحاكاة. لكن مع حرية إبداعية كبيرة.حينما أهدى ثلاثة قصائد ل ”لوحات باريسية”، ضمن عمله أزهار الشر، إلى فيكتور هيغو، راسل الأخير مؤكدا له عن محاولة تقليده. لكن نموذجه ابتعد عنه ولاشيء بودليريا سوى هذه القصائد الثلاث. وحينما أعلن إلى أرسين أوسي Houssaye أن نموذج مجموعته الشعرية: ” سأم في باريس” يحيل على نصوص ”جرذ الليل” ل ألوزيوس بيرتران Bertrand، ثم سيكشف فورا عن خيانته ل ”نموذجه الباهر”. لقد تألفت قصيدته ”سوء الحظ”، في أزهار الشر، انطلاقا من مقطع شعري ل هنري لونجفلو وآخر ل توماس غراي، شاعرين إنجليزيين. لكن المترجم استقل برأيه. ولاشيء هنا أيضا بقي بودليريا، سوى قصيدة سوء الحظ. إن خضع لتأثيرات، فبالأحرى من طرف كتّاب قال بصددهم أنهم: ”علموه كيفية التفكير”، أي إدغار بو وجوزيف دو ميستر. لأن بودلير شاعر مبرهن. فكرة قابلية الانعكاس استمدها من جوزيف دو ميستر، إنها تمتد في قابلية تبادل أدوار الضحية والجلاد التي طورها في قصيدته المعنونة ب :  جلاد ذاته.

س- بالنسبة لمعاصريه، أيهم  يشعر بودلير بكونه أكثر اقترابا منه؟

ج- لقد أجاب بنفسه عن هذا التساؤل، في رسالة بعث بها إلى نرسيس أنسيل، يوم 18فبراير1866، شارحا له بأن فرنسا ”أنِفت من القصيدة، القصيدة الحقيقية”: “باستثناء شاتوبريان، بلزاك، ستاندال، بروسبير ميريمي، ألفريد فينيي، فلوبير، تيودور دو بونفيل، غوتيي، لوكونت دو ليسل، فكل الضحالة الحديثة تثير اشمئزازي”.بيد أنه ارتبط حميميا أكثر مع غوتيي وبونفيل. امتزجت مشاعره نحوهما بالإعجاب والغيرة في ذات الوقت.أحب بونفيل، لكنه يحسده على مفهومه بخصوص السعادة، ”ساعات سعيدة”. أيضا كان صديقا ل نادار، لكنه يثير غيرته فيما يتعلق بطاقته وكذا طريقته للتفوق في كل المجالات.

س- ماهو تأثيره على أدب حقبته؟

ج- إذا وُجدت ”مدرسة بودلير”، مستعيدين ثانية المفاهيم التي استعملها الشاعر نفسه من خلال رسالة وجهها إلى أمه عند نهاية حياته، فهي لامعة جدا.بالتأكيد تأثر به فيرلين، رامبو ومالارميه. لكن يلزم أيضا استحضار ميادين أخرى مكنت هذا التأثير من التمرس، والذهاب به أبعد من القصيدة، أقصد هنا رواية “عكس الاتجاه” لكارل هيسمانس، وكذا نتاج الرسامين. وقد عثر في الرسام إدوارد ماني على إحدى أكثر الشخصيات ولعا به. كما ألهم أوغست رودان وغوستاف مورو.

س- أي مكانة له ضمن المشهد الأدبي في سنة2017 ؟ ومن أكثر بودليرية ضمن كتاب وشعراء حقبتنا؟

ج- بودلير له الكثير من المعجبين بين الكتاب المعاصرين. لكننا لانجد بودلير بين ظهرانينا. يظل قابعا بين طيات وحدانيته. قال ولتر بنيامين بأن لا شيء: “شاخ في قصيدته”. تصور صحيح جوهريا.

س- هل كان أقل توافقيا من رامبو؟

ج- لست متأكدا أن رامبو كأن حقا أقل توافقيا. لو كان كذلك، فنتيجة غموض: هو شخص توافقي في نطاق كوننا لا نعرف جيدا حقيقته. لكن صحيح، فيما يتعلق ببودلير، لم يكن قط توافقيا. خلال حياته، اتهمت واقعيته بكونها تخل بالحياء. بعد موته، اعتبروه مثل نموذج لا يقتدى. فيما بعد، طرحت مسألة مناهضته للتقدم وكذا تعبده بالخطيئة. ربما تصدمنا عداوته للمرأة. تقليديا، آخذ عليه بعض مؤرخي الفن كونه بالغ في تقدير كونسطانطين غيس مع تبخيسه لقيمة إدوارد ماني. لكن بقراءة منتبهة لما كتبه، لن تستقيم هذه المؤاخذة. لم يجعل قط من غيس رساما كبيرا، بل فنانا صاحب وجهة نظر بليغة، في وسعه أن يمثل ”رسام الحياة الحديثة”. أما بخصوص ماني، فقد اقتنع به، وأحبه بعمق. وأشار أنه خلال تلك الحقبة التي دشنها ماني، لم يعد الرسم مثلما كان سابقا.لم يحظى بودلير بالمكانة التي يستحقها، رغم عبقريته وربما نتيجة لها. قد يبدو هذا مجرد حكي لكن انظروا مثلا إلى الاعتبار القليل الذي تمنحه له المؤسسات. فلا نجد اسمه على شارع كبير ولا جادّة، كما الشأن مع زولا أو هيغو.لا نصادف ”جمعية لأصدقاء شارل بودلير”، ولا متحفا لبودلير. أما منزل هونفلور، أو”منزل-جوجو”كما سماه، المفعم بالجمال، حيث أقام مع أمه، فقد تعرض للهدم دون أية مبالاة من طرف بلدية مدينة نورماندي الصغيرة. نفس الأمر ينطبق على مدينة باريس غير المهتمة أبدا بشاعرها الكبير وحينما سعت كي تعيد الحياة إلى فندق ”دو بيمودان” الرائع، في جزيرة سان-لويس، الذي قطنه بودلير، فقد اكتفوا بترميم الطابق الأول والثاني، حيث تواجد جيرانه، وليس الطابق الثالث الشاهد على جانب من حياة بودلير، بل حولوه إلى مكاتب إدارية.

* هامش :

Le monde : Hors-série; Charles Baudelaire; Une vie une œuvre; Juin-Juillet; 2017; pp61- 65

   

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.