الرئيسية | سرديات | شارع الحرية | محمد الشايب

شارع الحرية | محمد الشايب

محمد الشايب (المغرب):

 

لا أيتها البعيدة، البعيدة بكل المعاني، والمعاجم، واللغات..

لا أتزود بزاد، ولا يقاسمني وحشة الطريق رفيق..

الشارع شوارع، وأنا التائه في أمواجه المتلاطمة لم، ولا، ولن…!

ركبت الرقم الأول، وجاء الرد، فسألت: أين أنتِ؟

أجابتْ أنا في السوق.

الشارع يجري ماء، وفواكه، وفي سمائه مطر مؤجل، لكني لم..

ركبتُ الرقم الثاني: وجاء الرد، فسألت: أين أنتَ؟ أجاب أنا في الملعب..

رأيتُ الشارع يلعب، الشارع شوارع، واللعب ألعاب، واللاعبون كثيرون، كثيرون جدا.

وأنا لا أتقن أي لون من اللعب..، لا، لا ، لا ..

واصلت المسير، أسير ، ولا أسير، أشاهد، ولا أشاهد، حائرا كنت، غارقا ظللت، غريبا أمسيت، وأصبحت، لكن رسولي لم..، لا هو حمل الرسالة، ولا هو أتى بالجواب..، فبت رهين هواجسي وتوجساتي..

في القلب شوارع جارية، وغابات مخضرة، وحزن ضارب في القدم، وجراح لا تندمل..، نعم أيتها البعيدة بكل المعاني، لا أيتها البعيدة بكل المعاجم، واللغات، نعم أنا أواصل السير في دروب غربتي، ولا، لاتملأ فراغاتي سحب ماطرة، ومع ذلك أناشد ذاك المطر المؤجل أن يهطل..، مع ذلك!

في الشارع رأيت الناس يجرون، يلهثون، والأوطوبيسات مكتظة، والعمارات ترفع الرؤوس إلى السماء، في الشارع، أيضا، متشردون، وباعة يبيعون كل شيء، ومجانين، وعشاق، ويتامى عشق، في الشارع ألوان شتى، كل يلبس ما يريد، ما يريد أو ما يُراد له!؟ وكل يسير كما يشاء، كما يشاء، أو كما يشاء له !؟

وأنا ظللت أمشي، أمشي، أو أراوح مكاني ؟!

وجوه الشارع تتكرر، عمارات شاهقة، وبؤس يتعالى، عشق ويتم، تخمة وجوع، ماء وعطش، كل أنواع الماء، وكل ألوان العطش.

تجاوزت فتيانا وفتيات يزدحمون أمام محل أجنبي لبيع الوجبات السريعة، ثم آخرين يحتلون ساحة فسيحة قرب نافورة، يحتشدون، ويرددون الشعارات، يلعنون اللصوص والاستعمار والصهيونية، وينادون بالتغيير..

مررت على شريط من المقاهي، فرن المحمول في جيبي، أخرجته، وأجبت، فتدفق صوت أنثوي: «أنا في شارع الحرية..! » ثم انقطعت المكالمة، توقفتُ برهة، وتساءلتُ من تكون هاته؟ في الحقيقة جرفتني سيول السؤال، لكن يداً ما انتشلتني، وهمست في أذني: إن الصوت صوت البعيدة بكل المعاني، فانطلقت كالظمآن أبحث عن نبع الماء، ركِبتُ يقينا ما، وقلت إنها هي، لعلها تستظل تحت فيء شجرة وتنتظرني، أو لعلها تجلس في حديقة غناء، وتتلهف على وصولي، أو لعلها، ولعلها..؟!

انطلقت أبحث عن مائي، وأخذت أسأل عن شارع الحرية، سألت الأول، فقال عرج على اليمين، فعرجت، ولم، وسألت الثاني، فقال عرج على اليسار، فعرجت، ولم، وسألت الثالث: فقال سر في نفس الاتجاه، وسرت، طويت حكايات طويلة، وأشجارا وارفة الظلال، ومياها جارية، وفواكه تشهر الغواية في كل الفصول، ولم، ظللت أسأل، وأسير، محوت دروبا مختلفة، وسرت في اتجاهات شتى، وتجاوزت إشارات بكل الألوان، ولم..

مررت على الأسواق، فتهادت إلى سمعي أصوات التين والتفاح والعنب، ما أحلى هذه الفواكه حين تحضر كلها، حين تجالسك، وتزيل القشور..

تين يشتري تينا

وتفاح يبتاع تفاحا

وعنب ما أحلاه، يسأل عن ثمن العنب..

انهمرت الأصوات غزيرة، لكني لم..

ظللت أهطل ظمأ، وأمتطي صهوة كتابي، وما كتب، فولجت حي الألعاب، ورأيت الناس يلعبون، شيبا وشبابا كانوا يتسلقون مدارج اللعب، ويتوزعون عبر خرائط الملاعب، وأنا الذي أحب اللعب، ولا أجيده، لم أتوقف، وتاهت خطواتي تبحث عن شارع الحرية..

بلغت محطات الأسفار، وقرأت اللوحات، وأسماء المدن، ووسائل السفر، وشاهدت الحقائب على كراسي الانتظار، ودموعا وقبلات وضحكات وعناقا، وشتان بين عناق اللقاء وعناق الفراق..

ظننت أن الكل في سفر، أسراب المسافرين تتوالى، تحمل تارة حقائب الفرح، وتارة حقائب الحزن، تتابع حلقات الوصول، وحلقات الذهاب، وأنا لا أنا وصلت، ولا أنا ذهبت، تركت نداءات السفر تتعالى، واستأنفت رحيلي.

مررت على المساجد والأضرحة، وسمعت الأذان والأدعية والابتهالات، ولم، مررت على الملاهي المشتعلة رقصا وغناء، ولم..، تجاوزت الحدائق ، ومجالس الحب والعتاب، ولم، مررت على المقاهي والحانات ولم، تجاوزت المدارس والمعاهد، ولم..

خيل إلي أني مشيت الليل والنهار، وطويت كل الدروب والساحات، وعشت الفصول كلها باحثا عن شارع الحرية، ولم..

أدمى المسير قدمي، ونال مني التعب، وهدني البحث، ولم أعد قادرا على مواصلة الطريق، ولما رأيت شرطيا ينظم حركة المرور، توجهت نحوه، وسألته: أين يوجد شارع الحرية ؟

نظر إلي مليا، ثم أجابني: لا يوجد في هذه المدينة شارع للحرية !

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.