الرئيسية | سرديات | سيرة الحلازين الملوّنة التي داستها أحذية الجنود | أحمد يوسف عقيلة

سيرة الحلازين الملوّنة التي داستها أحذية الجنود | أحمد يوسف عقيلة

أحمد يوسف عقيلة (ليبيا):

ما أصعب أن تكون قاصاً في زمن الإرهاب.. زمن استعراض السكاكين على الشاشات في أيدي أناسٍ بلا وجوه.. زمن البوّابات التي تنبت كالدمامل على جسد الوطن.. في إحدى البوّابات استوقفَنا ملثمون.. وحين عرفوا أننا كُتّاب قالوا: (نحن الآن نقوم بتصفية أفراد الجيش والشرطة.. الكُتّاب دورهم لم يأتِ بعد).. وأطلقوا سراحنا.. بعد أن وصفوا لباسنا الإفرنجي بأنه (لباس الصليبيين)…)!

في إحدى المرّات سألني أحد (الإسلاميين): (سمعت أنك تكتب القصص.. هل هي قصص دينية)؟.
ذات مرّة وصف أحد (الإسلاميين) قصصي بـ(المهزلة).. ونصحني بأن أقرأ لشيخ الإسلام ابن تيمية.. بدل مضيعة الوقت في كتابة هذه القصص (التي لا أُؤجَر عليها)… !.

الحرب الآن تطغى على كل المشهد.. بعد الانفجار.. يحصون الخسائر: الجثث.. الأشلاء.. البيوت المهدّمة.. لا أحد يحصي جثث العصافير.. وأعشاشها الملطخة بالدم.. القاص عليه أن يفعل ذلك.. عليه أن يكتب سيرة الحلازين الملوّنة التي داستها أحذية الجنود الخشنة.. وهم يغنّون النشيد الوطني.. ويتحدثون عن المجد.

ذات ربيع مرّت دبّابة وسط أحد الحقول في ضواحي قريتنا.. فكانت تدوس الأزهار البرية على جانبي الطريق الترابي.. القرويون اصطفوا على حافة الطريق.. أخذوا يرفعون قبضاتهم.. يهتفون.. يلتقطون الصور التي تحتلّ خلفيّاتها الدبّابة.. لم ينتبه أحد إلى شجرة اللوز المزهرة على كتف الطريق.. القاص عليه أن يفعل ذلك.. عليه أن يردّ إلى شجرة اللوز المزهرة تحت دخان الدبابة الأسود اعتبارها.

أُحاول استكناه الجمال في عالم مليء بالخراب.. بالقتل.. بالمرض.. بالجوع.. والكوارث.. حتى الخرائب التي ينعب فوقها البوم.. لا أنظر إليها على أنها خرائب.. يكفي وجود البوم لينفي عنها صفة الخراب.

أقتنص مواطن الجمال في مَشاهد الخراب.. وركام الدمار.. وإذا عجزتُ عن إيجاد ذلك.. فإنني أترك المشهد برُمَّته.. أُدير ظهري إلى أُفقٍ آخر.. سعياً إلى الْتقاط لحظة جمال.. وهذا ليس قفزاً فوق الواقع.. بل هو تَوْق إلى الجمال.. والأكثر من هذا هو مقاومة للقُبح.. والخراب.. ذات يوم مَرَّ المسيح ـ عليه السلام ـ مع حوارييه على جيفة كلب يعيث فيها الدود.. فقال الحواريون: (ما أَنْتَنَ هذه الجيفة).. فردَّ المسيح: (لكنَّ أسنانه ناصعة البياض)! في اللحظة التي رأى فيها الحواريون المشهد الكلي للقُبح.. الْتقط المسيح -عليه السلام -بشفافيته الشيءَ الجميل.. وعلَّمَنا كيف نقاوم القُبح.. فالقُبح ليس قدَراً.

إنني أحتفي بالحياة.. في زمن تُهدَر فيه الحياة.. زمن الإبادة الجماعية.. المقابر الجماعية.. المجازر.. الإرهاب.. التطهير العرقي.. زمن (الثوّار) الذين تحولوا إلى لصوص وقُطّاع طُرق.. زمن لا تُهدَر فيه الحياة على المستوى الإنساني فقط.. بل على كل المستويات.. الحيوان.. الطير.. الشجرة.. والحشرة.. زمن التلوث البيئي.. من هنا عودتي للاحتفاء بالحياة البِكْر.. إنَّ الحياة أغلى.. وأكثر قيمة من أن تُهدَر.

الحكاية لا تنتهي مهما كانت الظروف.. لا أتصور ذلك حتّى مجرّد تصور في الذهن.. فطالما وُجِد الإنسان وجدت الحكاية.. بل الحكاية تبقى وتمتد حتى بعد رحيله.. الحكاية نوع من قهر الموت.. محاولة إيجاد معنى لكل شيء.. إنّ ما يُخيفني ليس هو نضوب الحكايات.. فأنا أستطيع -دون مبالغة -أن أكتب كل يوم حكاية على الأقل.. لكنّ الخوف من التكرار.. والاجترار.. والتآكل.. وأن يقودنا الإرهاب وهذه الحروب اللعينة إلى المباشرة الخالية من الفن.

في الوقت الذي يحلم فيه الإرهابيون بالجنة والحور العِين.. بعد أن حوّلوا الأرض إلى جحيم.. فإنني أحلم بكتابة قصة من بضعة أسطر.. أقاوم بها كل هذا الخراب في الأرض وفي النفوس.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.