الرئيسية | أدب وفن | سيدي شمهروش | قسطاني بن محمد

سيدي شمهروش | قسطاني بن محمد

قسطاني بن محمد

 

المقام ليس قبرا بل معْلم قوي للذكرى والهداية والمنافع. الحاضر فيه أهم من الماضي؛ والدنيا أهم من الآخرة؛ والمردود المادي أهم من الرمزي، وما الرمزي سوى خادم المطالب المادية والمالية المطيع. المقام سوق قبل أن يكون كنيسا، سوق ينتج الخيرات من لاشيء، من الحيلة؛ والاستعارة؛ والوعد، وحتى الوعيد. يسوق الوهم ويريه شفاء وكنوزا وفراديس. فيه تستهلك الطيبات من ولائم ومشتهيات؛ وفي تسرح العين في جمال الطبيعة وحسن الوجوه؛ وتلذ الأذان بالأصوات، ثم تهتز الأجساد بالصلوات والجذب والرقص. والمقام بالمعنى الصوفي حال ومحطة صعود الروح وعودته إلى أصله. هو ذكرى لماض يؤسس حاضرا ويبنيه.

هو معْلم قد تسبقنا الطبيعة إلى إعلانه مغارة أو صخرة أو نبعا أو شجرة؛ أو حتى حيلة وجدان راع؛ أو حطاب، أو عابر سبيل. الحافظة أهم شيء بالنسبة لمن يريد إعادة بناء حياة يعتبرها جميلة. حياة الماء والأشجار والحيوان تغري بالإعادة والعود، ومن ثمة ضرورة التذكر. ومن أجل ذلك نصنع المعالم نتكئ عليها حتى لا نتيه في هذا اليومي المتشابه. نبني الضريح لهداية السالك في قمة جبل؛ أو مفترق طرق؛ أو استضافته بالظل والطعام. به نركز الذكرى لنا وللآتين. المقام ليس أي مكان …

نتحايل به من أجل إنتاج فائض من المال السائل ينقص الرعاة ومزارعي الأودية من أجل الإنفاق على الأرامل والمرضى والعوانس، وعلى المعارك والطوارئ والمؤسسات. ثم نقيم الموسم ونحتفل لنخرج عن مألوف الدنيا.

هذا ما كان يقوله لي خادم الضريح بعد أن أطمئن وشمس الجبال الصفراء تلامس القمم وتستحم في الشلالات لترحل. وبيني وبينه بعض نساء مزركشات الثياب بألوان الأقاحي، متكئات على حائط السيد يحكين في بوح لذيذ لوعتهن. وغير بعيد يقبع كهل مختبئ في جلباب صوفي بني مخطط بالأبيض والأسود. وقطعان معز تنط هنا وهناك كأن لا حجر ولا شجر، والراعي يرمي بحصى تسمع لها صفيرا في الوادي. وفي شبه ساحة أمام الولي يلهو يافعون وصبايا، يقفز واحد منهم على ظهور الآخرين وعندما يصل إلى النهاية ينحني ليبدأ الآخر أو الآخرة في النط، وقد يسقط أحدهم على الآخر أحيانا في نزق حلو بهيج.

امرأة الحسد

كبراهن موشومة الخدين والجبين والذقن مثل زربية. كان الوشم رقيقا أخضر وأنيقا ينبئ عن هوية قبائل السهول. رغم سنها المتقدم في وجهها نضارة وملاحة نادرتين، شعرها أصفر كثيف مسدول على كتفين عريضين وقويين، عيناها اللوزيتين تخبرعن ذكاء وخبرة لافتين. كانت تحرك كل جسدها ويديها وأصابعها بالخواتم ذات فصوص مزينة بالشموس، والآذان تتدلى منها أهلة فضية وفي الصدر مصحف وخلالات الخصب.

جئت إلى هنا بعد أن تعب أولياء شرق البلاد ووسطه وشماله في علاج حالتي. بدأت بالأرق المستمر والكوابيس، ليتطور الحال إلى ضيق شديد في تنفسي، ثم حل بي الحزن الشديد والبكاء المستمر. يئس علماء فاس من حالتي. قيل لي عدة مرات أن عينا غير آدمية أصابتني، وأن قرينتي تخلت عني أمام قوة الغيورين من ذكور أولئك ومن إناثهم. وأن أحد الأمراء منهم قرر في الأخير أن يتزوجني رغما عني. يأتيني كل مساء بعد صلاة العشاء ويأخذ زوجي، الذي يحضر من قبره كل ليلة من أجلي، من السرير ويرمي به كيفما اتفق. يأتي تارة على شكل خنزير بري يحفر الأرض بالقرن الأوحد، وأخرى على شكل كلب يلهث ويسيل من فمه اللعاب، وعندما يرضى يزحف على شكل قط أسود ودود يتمسح وقد يبكي. في الأخير نصحني فقيه جبلي كبير بالتوجه إلى ولي الأولياء وساكن علياء الجبال. لن يفك أسري سوى سيدنا. كدت أن أحفظ القرآن بالصلوات والتودد إلى الملائكة. وكنت أترحم على زوجي الذي رحل وتركني وأنا بالكاد طفلة كلما أردت النوم. ما بك ليس سحرا ولم يعقد لك طلسم ولا جدول قال كل فقهاء سوس وما وراء الجبل. ما بك أقوى، إنها العين، والعشق من طرف واحد. عاشقك قوي ويتباهى بك أمام الأقران، يقول أن عيونك لا مثيل لها في عالمهم. وأن حسنك لا يضاهيه حسن الجنيات. عملت الوشم لأغير ملامح وجهي وليس انتماء لقبيلتي التي هجرته منذ عقود. صمت لأذبل ويرى الحاسدون غيري لكنها زادت ملاحتي قال لي العرافون.

فتاة النحس

بكت صغراهن ثم ابتسمت، كانت هي أيضا جميلة لكن بهزال ملفت، كانت العينان غائرتين، وجسمها كله تكاد تلهو به الرياح. بدأ الأمر لما حاولت خالتي أن تعلمني النسيج. كنا كلما حاولنا إيقاف النول رغم احترام الطقوس كلها يسقط. وعندما نوقفه يتمزق السدى، وعندما نوقف السدى تتمزق اللحمة. عندما أحاول رسم خيمة الوسط نجدها مالت إلى اليمين أو اليسار، وعندما أريد رسم مكعبات المسالك تخرج مربعات أو مستطيلات. غيرت رسوم السهول برسوم الجبال وما فلحت. كنت ألعن الشيطان ألف مرة في اللحظة. كنت أستيقظ مع الديك واستحم وأصلي الفجر وأخض اللبن وأجمع الزبد في الزير. ثم أملأ الخوابي بالماء وأخرج إلى المزرعة لأجز البرسيم ثم أرجع أغذي البقرتين والعجل والنعاج، بعد ذلك أصعد لأعد الفطور لأبي وإخوتي الخمسة الذكور، مثل النحلة. كنت أمني نفسي برجل لأنني أستحقه. ولا يأتي الرجل. مشكلتي أنه لا يأتي الرجل. نحسي كتب في ورق مقوى وربط مع صورتي وأودع جوف أعمى من الزواحف قال لي طالب سوسي. اذهبي إلى الجبل يفك نحسك ويأتيك ابن الحلال. ربما بدأ النحس يوم ميلادي الذي ماتت فيه أمي، كان بنات العم يعايرنني بقاتلة أمها. رغم كوني أعرف قيمة نفسي، وقوة مؤهلاتي يقع شيء ما دائما ينغص علي فرحي.

امرأتان في امرأة

تعلمت وتخرجت مهندسة وعملت ونجحت في عملي. ثم قرر زوجي أن أقدم استقالتي لأرعى الأطفال، تلك كانت مصيبتي. انهارت أعصابي وفقدت العلاقة مع الرفاق والرفيقات وانزويت في الدار ألد الإناث تباعا ثم بعد ذلك الذكور. كنت أقوم بكل شيء من التسوق حتى تغذية الأبناء والبنات وأبيهم. وأهملت نفسي. وبدأت الفاجعة عندما كنت أراني عندما يحل الليل أصبح امرأة أخرى، البس ثياب الرجال وأغسل وجهي ليبقى بدون مساحيق ثم أخرج إلى الشارع يتبعني زوجي وأبنائي ليرجعوني بالقوة. وقد لا يجدوني فأفلح في النوم مع السكاري والمتسكعين تحت القناطر وقرب صناديق القمامة. وفي الصباح عندما يحدثوني عن أفعالي كنت أستغرب وأتشاجر مع كل من يفكرني بأفعال المجانين. عند ضفاف بحيرة في قمة جبل لقيني راع وأوصاني باللجوء إلى ولي الأولياء وجئت.

رجل يأكل قلبه

اقترب منا الرجل ذي الجلباب المخطط وبدأ يسرد حكايته. مشكلتي أني لست مثل جميع الناس، كنت بكر أبي وأمي واعتنيا بي عناية كبيرة، دخلت الكتاب كالأتراب وحفظت القرآن مبكرا، قرر أبي أن أصبح تاجرا وأنا موهوب في العلم الديني، لم يكن أحد في القرية يسمع لما أقول أو ينتبه لمؤهلاتي. إنهم يخافون من مؤهلاتي، إذا ما نجحت في العلم أغادرهم كانت تقول أمي، من يومها فهمت لماذا يخاف الناس من أصحاب المواهب ويمثلون عدم قيمتها بعدم الإصغاء. زوجوني بابنة عمي التي لا أحبها ولا أكرهها. دائما يأتيني كابوس ليلي، كنت أكلم فيه أناسا بعيدين جدا عبر الهاتف القار ولا أسمع سوى طلب أن أرفع صوتي أكثر حتى أُسمع. في مراكش تعلقت بأجنبية رأيتها وجالستها يومين تحت شجرة برتقال، كانت لطيفة وتفهم في كل شيء. في اليوم الثالث جئت إلى البرتقالة ووجدت ورقة تقول لي السلام عليكم وإلى اللقاء ربما في جنتكم. من يومها نبت لي قلب آخر في اليمين وتضاعف الكابوس. لما حكيت لفقيه القرية قصتي سخر مني وقال لي شفاؤك عند شمهروش, وهكذا جئت.

خلت الساحة من اليافعين ومن النساء الآن، وبقيت وحدي أنا والرجل ذي القلبين وناظر المقام. بقينا صامتين حتى بدأت العاصفة ريحا قوية، قال الخادم الريح علامته الأولى، ثم غطى صوت الرعد فضاء الوادي، قال الرعد علامته الثانية، وتنورت جنبات الوادي بضوء البرق وقمنا لنصلي صلاة العشاء، بعدها تحل وقائع المحكمة.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.