الرئيسية | أدب وفن | الفن | سينما | سرديات للانسانية -5- الطوق والأسورة | محمد رمضان – مصر

سرديات للانسانية -5- الطوق والأسورة | محمد رمضان – مصر

محمد رمضان

 

هل من الممكن أن تنتصر جماليات الفيلم على جماليات الأصل ؟! بمعنى آخر هل من الممكن أن يكون الفيلم أفضل من الرواية ؟! .. حينما كتب العبقرى ( يحيى الطاهر عبد الله ) رائعتة ” الطوق والإسورة ” مستخدما فيها بناء سرديا غريبا على الرواية العربية – على الأقل فيما قرأت –  حيث اعتمد على الجلسات التى يمكن أن تحاكي حكايات نساء الصعيد في الريف كانت الرواية عبقرية بكل ما تحمل الكلمة من معنى .. أتذكر أننى قرأتها في الأعمال الكاملة للأديب منذ ما يقرب من سنتين وكنت في جلسة مع صديق حينما قال لى أن المخرج خيرى بشارة قد أخرج فيلما عن تلك الرواية تحت نفس العنوان، ومن بطولة شريهان، وحينما قال شريهان حاولت جاهدا أن أسترجع ذكريات المراهقة القريبة حول أفلام شريهان التى كنت مغرما بها في تلك المرحلة وما زلت حتى الآن لأتذكر الفيلم ، لكننى لا أتذكر أننى شاهدته كاملا قبل ذلك ، حينما عدت شاهدت الفيلم احتجت لفترة من الزمن حتى أجلس مع صديقى هذا مرة أخرى وأصارحة بأن خيرى بشارة تفوق على يحيى الطاهر عبد الله ، فالكاميرا الواضحة التى تنقل لك بكل وحشية تفاصيل الحياة التى تعيشها أسرة أنثوية بعد هجرة الابن الأكبر ( مصطفى ) ومرض الأب توحى لك بأن تلك الترهات التى كنت تراها في السينما عن الريف المصرى وجمال الطبيعة ما هى إلا محض ترهات .

 فالماسأه والمعاناه تتنقل بك طالما تتحرك كاميرا خيرى بشارة ، كلما تحركت الكاميرا رسمت لوحات عن البؤس . عن الخوف ، عن الإنسانية التى تسحق تحت الاستعمار والكساد الكبير ، عن معابد تبقى شامخة لتستخدم كبيوت للدعارة ، عن بشر يخطون خطواتهم الواسعة نحو الحياه غير مدركين، لأن في نهايه هذا الطريق هو الانقراض ، عن أديان يحاول مريدوها التربح منها ، عن هموم الرجل البسيطة في كيس من التبغ ، وهموم المرأة البسيطة في أن يعود الابن وتزوج البنت ، عن عته المثقفين وبشاعة التجار ، كل يشكل في النهاية لوحة مأساوية عن الحياة بتفاصيلها الحية التى قادرة على أن تجعل الحزن يهبط على نفسك ليجعل حياتك أكثر مأساوية مما هى فيه ، وليست القصة هنا عن ” مالون ” بطل صمويل بيكت الذى يستدعى مشاهد حياته في عزلة في انتظار الموت، لكن القصة حول مأساة المجتمع الريفى في 1933 ، عن قرية الكرنك موطن يحيى الطاهر عبد الله .
الفيلم هو من إنتاج سنة 1986 وهو من إخراج خيرى بشارة والسيناريو أيضا له ، والحوار للشاعر عبد الرحمن الأبنودى ، واعتقد أن الفيلم من الأفلام القليلة التى كان بها مدقق للحوار لمراجعة اللهجة الصعيدية التى يتكم بها أبطال الفيلم ، وهو ما جعل الحوار يخرج صادقا معبرا كما كانت الرواية ،  والبطولة لشريهان وعزت العلايلى وفردوس عبد الحميد ، وتدور الأحداث في جو درامى مشبع بالميثولوجيا الصعيدية التى تمتزج فيها روح الحضارة الفرعونية بالتدين الاسلامى ، ويعبر عن ذلك على طول الحوار والأحداث ، وأيضا يرصد الفيلم لحظة التحول الكبيرة في تاريخ القرية المصرية فيما تلى العشرينات  .

كم هى ضيقة تلك الفتحة التى ينظرون إلى الحياه منها ؟!

الزوج المصاب بالسل ينتظر الموت والأم التى تنتظر عودة الابن مصطفى من الغربة ، والابنة التى تلاحقها العيون في القرية ، كلهم ينظرون للحياة من فتحات ضيقة ، قد يكون الخوف هو ما يدفعهم لأن لا يفتحوا أبواب الحياة على مصراعيها ليروا أنها تستحق الحياة ، ولكن مما يكون الخوف ؟!  من الموت الذى يقف متربصا خلف الباب ، يقف متربصا بالزوج والابن ويحصد البنت في طريقه ، من الممكن لكن هل الخوف من الموت يمكن أن يمنع البشر عن الحياة ؟! ، بالتأكيد نعم وهو ما يبرر أن جميع النسوة في القرية يلبسون اللون الأسود ، قد يكون هذا تعبيرا ترقبيا عن إنتظار الموت في أي لحظة وأي مكان ، ولا يمكن أن تحلو الحياة وأن تقف في نهاية بداية ممرها منتظرا الموت الذى يقبع في نهاية الممر ، فعلى الأقل تحلى بالشجاعة لأن تذهب وتقابله ، لكن لا ليس الموت هو ما يخيف هؤلاء!! .
إن ما يخيفهم هى الحياة نفسها ، تلك الحياة التى لم يعهدوا جديدا فيها يذكر منذ ألاف السنين ، فهم يعتقدون أنها تنتهى عند البر الآخر من النيل ، حيث يدفنون موتاهم ، لم يعهدوا لهم حياة أوسع من تلك القرية ، ولا أشقى منها ، فهى كمثل أحجار التماثيل الفرعونية الشامخة في أرضهم ، لا يعرفون لها فائدة سوى أن أجدادهم تركوها هنا ، تقف الحجارة مصمتة شاهدة على ما يمكن أن تكون عليه الحياة ، طويلة ممتدة بلا تغيير في نهايتها يقف الموت منتظرا ليحصد الأرواح .
“الطاحون يجيب الطاعون “
خوفا آخر يسيطر على القرية وهو الخوف من الحداثة ، في أحد المشاهد يتجمع أهل القرية ليلقوا الحجارة على ماكينة الطحين التى يأتى بها أحد البقالين في القرية ليفتتح مشروعا ، هم يلقون الحجارة قائلين أن تلك الماكينة لن تعمل إلا بدماء أطفالهم ، يعتقدون أن صوت أزيز المحرك هو صوت صراخ أرواح الأطفال التى تبتلعها تلك الماكينات ، الحداثة جعلت الجميع  يهابها ، فهى تقتل الإنسان في سعيها نحو التقدم ، والرأسمالية هى التعبير الأكثر حداثية عن روح العصر ، من حق هؤلاء أن يخافوا الطاحون ، وينسجون أساطيرهم حولة ، لأن في مخيلتهم الطاحون لا يعني التقدم والازدهار بل يعنى الطاعون .
في النهاية يمتلك الجميع الخوف من كل شيء في الحياة وليس من الحداثة فقط فيعيش الجميع في القرية على حافة الخوف منتظرين أن يأتى الموت لينعموا بتلك الراحة الأبدية المتخلية .

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.