الرئيسية | أخبار | سرديات للإنسانية – 2- هستيريا | محمد رمضان – مصر

سرديات للإنسانية – 2- هستيريا | محمد رمضان – مصر

محمد رمضان

 

شخص هامشي بامتياز، يحاول فقط أن يعيش الحياة، يعمل مغنيا ضمن كورال للغناء، عضو في فرقة بعدما درس الموسيقى  التي يحبها،  يعيش على هامش ما يحب … في الحياة أيضا هو هامشي فمع أنه الإبن الأكبر لأسرة فقدت الأب إلا أن رأى أخيه الأصغر هو المسموع في الأسرة، هو ما تأخذ به الأم، لعله يدرك تلك الهامشية الشديدة ، أو لا يدركها لا يهم ! ، المهم أنه فقط يريد أن يعيش الحياة ، بكل مآسيها  لا يجد مفرا سوى أن يستسلم للشغف ، والشغف يراه المجتمع جنونا ، فمحاولاته الكثيرة لأن يرضى شغفة بالغناء تؤول لأن تعتقله الشرطة لأنه يغنى في المترو ، وتطرده الراقصة من الفرقة لأنه لا يتماشى في غناءه  مع إيقاع هز وسطها !!  الحالة الهستيرية التي يقدمها الفيلم الذى أنتج في نهاية التسعينات ، وعرض في العام 1998 من إخراج عادل أديب وسيناريو محمد حلمى هلال ،  وبطولة  أحمد زكى ” زين ” وعبلة كامل ” وداد ”  تطرح تلك الحالة الهستيرية  التساؤل الوجودي في جوهرة عن ماهية الحياه ؟! وكيفية التعايش بين الفرد والمجتمع من ناحية وبين الفرد وذاته من ناحية أخرى .

                       ********************

(( أحسن ما فيها العشق و المعشقــــــة

   و شويتين الضحك والتريقـــــــــــــة

   شفت الحية . لفيت ..  لقيت الألــــــــذ

  تغييرها . و ده يعني التعب و الشقا ))

عجبي !!! .

فى البداية يطلق أحدهم صيحات هستيرية ” هما رجعوا يغنوا فى مترو الأنفاق .. هما مش عارفين إن الغنا حرام  .. ولاد الكلب  بتغنوا يا كفرة  .. جهنم وبئس المصير ”  . يقف زين المغنى ، وصديقة ورجل أخر يحمل رق يغنون أغنية لأم كلثوم ، قد يبدو المشهد طبيعيا فى مترو باريس أو لندن او في شوارع نيويورك مثلا .. لكن في القاهرة يبدو المشهد عبثيا ، يستمر العبث مع الرجل الذى يصرخ بأن كل شيء حرام ، حتى زين ” أحمد زكى ” نفسه حرام ،، تستمر حالة العبث  مع وداد ” عبلة كامل ”  التي تحاول إنقاذ زين الذى تحبه من أيدى الشرطة  فتدعى أنها زوجته  وهو لا يعرفها بالأساس .

لا يوجد مشهد للبداية أفضل من هذا ، فحالة العبث من تردي المجتمع يعبر عنها في البداية بصورة مثالية ، بداية من تردى الفهم الديني للنصوص ، وتردى الفن والغناء ، وحتى توغل وسيطرة السلطة على كل المكونات النفسية للأفراد  .

يعطى الفيلم إشارات على امتداد  ساعتين على تردى الواقع الاجتماعي في مصر في نهايات التسعينات ، حتى أن المحنة الإدراكية التي يتعرض لها الجميع في فهم شخص مثل ” زين ” الذى فقط يحب الحياة ، وشخص آخر مثل ” وداد ” يسعى لأن يجد الحياة والمعنى منها ، هذا المعنى الذى رأته  وداد في الحب ، فهي تحب زين بدون سابق معرفة ، تنزل للمترو كل يوم فقط لتراه ، تريد أن تتزوجه … المجتمع في ظل هذا كله لا يفهم ، لا يفهم فردانية هؤلاء ،  يصفهم بالجنون ، والمؤكد أن مجتمع مثل هذا هو المجنون . وليس مجرد شخصان يبحثان عن الحياه أو يحاولان إيجاد طريقة للتعايش معها .

وداد أيضا لها أحلامها ، أحلامها التي تتلخص في الزواج فيمن تحب ، الحب هو قيمة كبرى لها ، فهى تحتفظ بمفهوم بسيط عنه في الحياه الروتينية بين الأزواج ، هي فقط تريد أن تتزوج ، لا يوجد ما هو ابسط من ذلك الحلم  ، أن تتزوج من تحب … لكن مع ذلك المجتمع يراها مجنونة .
تستمر الأحداث فى الفيلم شارحة لنا أشخاص وأحداث هامشية ، منها الأخ رمزي ” شريف منير ” الذى تجبره الظروف الاقتصادية على أن يعمل عاهرة ، فهو يذهب لخالة الذى إعتاد أن يقوم بعمل المكياج في السينما ، ليغير من هيئته الذكورية ليصبح عاهرة ، لينصب بهذا الشكل على مريدي العاهرات ، إلى الأخت التي تنتظر سبع سنوات حتى تتزوج الحبيب الذى ترفضه الأسرة .. إلى الخال الذى أجبره الفقر على التخلي عن الحب ثم هربت زوجته منه بسبب الفقر ، ويجلس هو وحيدا في المقابر منتظرا الموت … الجميع بشكل أو بأخر ضحايا هستيريا هذا المجتمع وتغول السلطة فيه بكل أشكالها ، لكن المجتمع هو ما يسقط عليهم تلك التهمة ، المجتمع هو الصحيح وأفراده جميعا على خطأ ،  والمجتمع هنا لم يصبح مجموع الأفراد فقط ، بل مجموع الأفراد إضافة إلى السلطة ، وليست السلطة السياسية فقط وإنما السلطة بمعناها الأشمل من بناءات اجتماعية وأعراف وعادات وتقاليد ودين وسياسة وأسرة وكل أنماط السلطة التي يمكن تخيلها .

           ****************

(( ﺷﻮﻓﻲ ﻳﺎ ﻭﺩﺍﺩ، ﺇﺣﻨﺎ ﻋﺎﻳﺸﻴﻦ ﻓﻲ ﻣﺠﺘﻤﻊ ﺿﺎﻏﻂ، ﺍﻟﻠﻲ ﻳﺘﺼﺮﻑ ﻓﻴﻪ ﺑﺈﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻭﺑﺴﺎﻃﺔ ﻭﺗﻠﻘﺎﺋﻴﺔ ﻳﻔﺘﻜﺮﻭﻩ ﻣﺠﻨﻮن . ))

يمكن أن يكون الإسهام الأكبر لفرانتز كافكا ليس أدبيا بالمرة ، وهذا لا ينفى أن الرجل كتب أدبا ، لكن فى رأيى كافكا هو فوكو مبكرا فى بدايات القرن ، فالسلطة عند كافكا التي يشكلها القضاة والحكام مع الجلادين والتي تغض مضجع أبطال رواياته في محاولات كابوسيه ، كأنها كتبت لتنبه البشرية كلها للخطر الحقيقي  للسلطة  ، السلطة التي تنفى الفردانية وتصادر الحرية ، بشكل  ما أو بأخر هذا ما يقوله فوكو بعد ستون عاما في نظريته حول السلطة .
لكن دعونا من فوكو وكافكا ، ولنتذكر ما يقدمه  الفيلم عن السلطة التي تقتل الانسانية ..في أحد المشاهد يقول زين لوداد (“ﺷﻮﻓﻲ ﻳﺎ ﻭﺩﺍﺩ، ﺇﺣﻨﺎ ﻋﺎﻳﺸﻴﻦ ﻓﻲ ﻣﺠﺘﻤﻊ ﺿﺎﻏﻂ، ﺍﻟﻠﻲ ﻳﺘﺼﺮﻑ ﻓﻴﻪ ﺑﺈﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﻭﺑﺴﺎﻃﺔ ﻭﺗﻠﻘﺎﺋﻴﺔ ﻳﻔﺘﻜﺮﻭﻩ ﻣﺠﻨﻮﻥ”. ))

 أسوأ شكال السلطة والتي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تقيضها الثورات هي سلطة المجتمع .. المجتمع الذى يشكل بعاداته وتقاليده الإطار الحاكم للانسان ، حتى فى أكثر المجتمعات حداثة لا تزال سلطات المجتمع تسم ملامح وحدود أفراده، حتى وعود الحرية والفردانية لم ينلها إلا من أتاحت له الظروف الاقتصادية والاجتماعية أن  ينعم بها .. فى هذا المجتمع الضاغط تجد أن القيم فقط لا تشكل الأفراد ، لكن أيضا تمنع أى خروج عليها بإسم العرف والخير والحرام والعيب والعادات والتقاليد و إلخ .. كل تلك السلاسل هى ما تعيق الإنسان على أن يعيش أبسط مكتسباته الحضارية ، وهو اعترافه لذاته أنه إنسان حر يستحق أن يعيش حرا .  هذا المجتمع الضاغط يلغى كما أسلفت الفردانية ، ويلغى معها  قدرة الأفراد الشخصية على إصدار الأحكام الأخلاقية الفردية ، فالاستقلال الأخلاقي الفردي أو مسئولية الأفراد عن خياراتهم  هو  الصراع التي يبنى علية موقف زين من زواج أخته من صديقة ، وأيضا هجوم أخوة على هذا الزواج ورضوخ الأم لنفس الرأي هو بسبب أنهما راضخين كليا للمجتمع ، المجتمع الذى ألغى الاستقلال الأخلاقي الفردي وبالتالي الحرية . تبدو تلك الجمل ويكأنها مكتوبة من أحد الانسانويون فى لندن بينما يشرب كوبا من الشاي في الصباح ليشعر بأنه أكثر حرية .. لكن صدقوني لا أحد يدرك قيمة الحرية أكثر من يحرمون منها .

تلك السلطة الاجتماعية هي بالطبع موجودة  مارس تأثيرها، نأتمر بأوامرها وننتهى بنواهيها ويمكن أن نفعل ذلك دون أن ندرك أننا قابعون فى شرك سلطة ، لكن ما نلاحظه هو فقط تلك الأشكال العليا من السلطة .. وكما كانت سلطة خيال  كافكا من قضاة وبيروقراطيين ورجال أعمال ورجال صناعة وفوق كل هذا السلطة الأبوية ، هنا في الفيلم يحضر كل هؤلاء ، فرجل الأعمال  الذى يعرف أن ابنته تحب زين (( الفقير ))  يمارس سلطة القهر على زين بل ويصل للاستهزاء منه والتنكر له فى كل مرة يحاول زين مقابلته لكى يطلب يد ابنته ، وحتى الابنة التي تقول أنها تحب زين  نكتشف أنها تتلاعب به فقط من أجل إحساسها بأنها أنثى مع هذا الرجل .  كل مكونات السلطة حاضرة ، لذلك لابد من  السخرية من الواقع  حتى يتسنى أن نكمل الحياه ، وقد تنتهى كل محاولات السخرية من الواقع إلى لا شيء ، أو إلى العودة للواقع ذاته ولإدراك أن السخرية لا تجدى لكن مع ذلك تبقى السخرية من الواقع مقاومة في حد ذاتها .

ينتهى الفيلم على أنغام  أغنية  يغنيها أحمد زكى بصوته فى مشهد مؤثر يعلن فيه عن مواجهته واستمراره في مقاومة المجتمع   ، وتقول الكلمات :-

(( إن مقدرتش تضحك.. متدمعش ولا تبكيش

    وإن مفضلش معاك غير قلبك

  إوعى تخاف مش هتموت.. هتعيش ))

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.