الرئيسية | سرديات | سائق قطار | محمود الريماوي
محمود الريماوي

سائق قطار | محمود الريماوي

 محمود الريماوي*

 

في الطريق من الدار البيضاء إلى طنجة وقبل الوصول إلى محطة الرباط، يجلس شخصان  أحدهما زائر والآخر مغربي. متقاربان في العمر وإن كان المغربي الستّيني متقدّماً قليلاً في السن على الآخر. يسأل المغربي جاره في السفر: هل يوجد عندكم في بلادكم قطارات ؟ يجيبه جاره بالنفي.

 وكيف تجد القطار.. أعني السفر بالقطار؟.

 جميل. جميل جداً.

  أنا أسافر كثيراً بالقطار، لديّ اشتراك بسعر مخفض.

  هل طبيعة عملك  توجب عليك ذلك؟.

 تكون هناك أحيانا أشغال، أو مناسبات اجتماعية، وأحيانا أسافر لأني أحب التنقل بالقطار

 جميل .

 لا أحب الجلوس في المقعد المعاكس لوجهة سير القطار. يصيبني ذلك بصداع.

أنا كذلك. أفضّل الجلوس مثلك بهذه الطريقة، مع وجهة سير القطار وليس عكسها.

  ــ لقد سافرتُ الى  جميع أرجاء المغرب بالقطار، ما عدا المناطق التي لا تتوافر على خطوط سكك حديدية

 ــ نعم.

  ــــ سافرتُ الى إسبانيا وفرنسا ولم أستخدم الحافلات، ولا سيارات التاكسي. القطار فقط ويسمونه مترو.

   ــ عندنا نستخدم التاكسي وهو وسيلة المواصلات الرئيسية.

ــ لا ليس جيداً، مُكلف بالزّاف، ولا متعة فيه. لا يُقارَن بالقطار. دعني أصارحك بشيء قد تُصدّقه أو لا تصدّقه.

 ــ تفضل.

 ــ تعلّقي بالقطار لا فكاك لي منه. منذ ست سنوات فقط بدأ هذا التعلق الشديد. كنتُ من قبل أسافر  بالقطار مثل بقية الناس. بصورة عادية كلما كان هناك داعٍ  للسفر. لكن الوضع تغير بعدئذ.

ــ ما الذي تغير؟

.ـ سأخبرك. لكن قبل ذلك أود سؤالك: أليس التعلّق بالسفر بالقطار غريباً بعض الشيء، وخاصة حين لا يكون هناك داعٍ للسفر؟

ــ كنت أود قول ذلك، لكني تحرّجت منك.

ـــ لا  تتحرّج. نحن إخوة لا فرق بين مشرق ومغرب.

 الحديث استرعى انتباه شخص ثالث انضمّ  لدى التوقف في محطة أكدال الرباط الى المقعد الذي يتسع لثلاثة اشخاص. وتلفّت ناحيتهما وهو كهل وأصغى قليلاً للحوار الثنائي، لكنه لم يلبث أن انصرف الى التحديق في وجوه المسافرات والمسافرين.

 سأل المغربي جاره المشرقي:

ـ أنت مسلم طبعاً.

ــ نعم أنا مسلم.

ــ لقد تقاعدتُ من وظيفتي في توثيق العقود قبل ست سنوات. وشعرت بفراغ مفاجىء. الأبناء كبروا وتزوجوا. لم اشعر بالفراغ فقط ، بل بأصوات في رأسي.

 ـ  أصوات ماذا ؟

ــ أصوات انطلاق القطار وسيره وتوقفه.

 ـ هكذا اذن؟

 ــ  وأخذتُ أجد نفسي مدفوعاً لاستخدام القطارات بسببٍ أو بدون سبب.

  ــ لقد قلتَ لي ذلك من قبل.

 ــ  نعم، قلت لك، لكني لم أقل لك لماذا حدث ذلك؟

كان الحديث يجري بشيء من التقطع. إذ أن المغربي الذي يجلس قريباً من النافذة كان يستجمع شتات نفسه، ويسرح بين وقت وآخر في المرئيات. وكان المشرقي الزائر ينتظره للعودة الى الحديث، ويشاركه في الأثناء في تأمل البقع المائية، وقطعان الأبقار والماعز، وأشجار الصبير التي تُسوّر المزارع .

ـ حدث ذلك لأني رأيت رؤيا.

 وصل القطار الى محطة مدينة الجديدة. وقال المغربي لجاره أنه سينزل في المحطة الموالية.

 ــ  تصل بالسلامة ان شاء الله  أما أنا فسأكمل الى طنجة.

ــ أغبطك، سوف تنال مزيداً من متعة السفر.

ـانتظر المغربي هبوط ركاب ونزول آخرين. وما إن تحرك القطار مجدداً حتى استأنف الحديث قائلاً:

ــ لقد أخذتُ اقرأ في الأديان والمذاهب والمعتقدات بعد أن توفر لي وقت فراغ طويل. لكن قراءاتي لم تشغلني عن السفر بالقطار. ونتيجة قراءاتي وعقب صعودي الى القطار ذات مرة متجهاً الى مكناس لزيارة أقارب لي، شعرت فجأة بغُصّة. رغم أني خرجتُ من البيت نحو محطة القطار هانىء البال. ورغم إني أرتاح في القطار أكثر من راحتي في المقهى، وحتى من راحتي في البيت، إلا إني شعرت بغصّة مفاجئة.هل تدري لماذا؟

 ـ  ربما كنتَ تخشى  وقوع حادث للقطار لا سمح الله.

ــ لا ، لقد ذهب خيالك الى وجهة خاطئة.

ـــ  انا آسف.

 ــ  شعرت بغصّة لأني كنت أرغب ليس في مجرد استخدام القطار مثل بقية الناس.

ـــ  كنت ترغب في ماذا ؟ دعني أفهم.

ــ كنت أرغب في أن أجلس مكان السائق، وأقود القطار. الشعور بالغصّة لم يفارقني منذ ذلك اليوم.

 ــ هكذا ؟ وهل لديك خبرة في قيادة القطار، الرغبة في القيادة لا تكفي.

ــ دعني أقول لك .. إننا نقترب من محطتي حيث سأهبط.

ومال على جاره وقال بصوت خفيض بعض الشيء:

ــ  لدي خبرة مزيانة. طبعاً لديّ خبرة. كنت في حياة سائقة سابق قطار، ماذا قلت أنا؟ أقصد، أعني كنتُ في حياة سابقة، سائق قطار. سائق محترف تستهويني الرحلات الطويلة البعيدة من فاس الى طنجة مثلا، سائق ممتاز يُعتمد عليه، وقد ركب معي وزراء وولاة وقُوّاد  وأعيان وفنانون كبار. وقد أحالوني الى التقاعد من عملي، وأنا في كامل لياقتي. حاولت البقاء لكنهم رفضوا التماسي بأن أستمر بالوظيفة، قمتُ بتوسيط شخصيات مهمة، لكنهم رفضوا. مما جعلني أتكدّر كدراً شديداً أظلمت معه روحي وتسبّب لي الكدر بالمرض، ثم وافتني المنية بعد سنة واحدة على تسريحي. رحم الله الوالدين ورحم موتى المسلمين.

 وجد المشرقي نفسه يسأل جاره وكان هذا يهِم بالنهوض:

  ـــــ متى حدث ذلك؟

ـــــ متى حدث.. ما هذا السؤال؟  لا أستطيع تذكّر كل شيء، هل تعتقد أن عقلي كمبيوتر؟

 ونهض محزوناً وعلى شيء من القنوط ، ما أنساه إلقاء تحية الوداع على جار السفر.

 

* أديب وإعلامي من الأردن. هذه القصة نُشرت  في مجلة “أفكار” الأردنية  العدد 332  لعام 2016 بعنوان : “في حياة سابقة”.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.