الرئيسية | أخبار | رحيل التي تشبه القدر.. | يونس طير

رحيل التي تشبه القدر.. | يونس طير

يونس طير

 

 

إلى آسية .بـ، وإلى رحيل في “تموضعها ” الملائكي هناك استعدادا لمعانقة العالم…

 

“فكرت من جديد في حياتي من خلال الأصفار ..فكرت في كل شيء من خلال لا شيء : إنني غاضب على هذا الجوع البشري الذي لا يكف حتى الموت.لم أعد أذكر كبريائي التي تمنعني من أن أحب.دائما يغلبني الفجور الأقوى من العفاف في نفسي.أبدا لم تأتني التي في أوانها أشتهيها :لم افهم امرأة واحدة إلا في نزوات الخيال : في الرشفات لا في رشفة .ربما فكرت في كلهن. كانت رغباتي موزعة فيهن .الحياة التي فكرت فيها لم أعشها…سلوا ذالك الذي عاشها ولم يفكر فيها ..” 

محمد شكري / مجنون الورد

 

 

كصمت متقادم متعب ،حلت وطأة الأشعة الحمراء ،وكان الأجدر بنا كعاشقين يلهوان بالمطر والثلج وشمس المدينة المندسّة في ثنايا جسدينا ،أن نتحايل على الثورة المنبعثة داخلنا :ثورتنا التائهة بين كل الإسقاطات المعقولة والحالمة .ثورتنا تلك ألا تحترف السكر ومتاهات الحانة اللعينة “بالساتيام “؟

 أين شقراوات الحانة أيها المهملون أيتها البقايا ؟.أين نبيلات فرنسا اللواتي مارسن الألعاب المحمومة والرعاة الخشنين الحاملين في حلهم وتَرحالهم لروائح البقر والماعز وجنس قديم مع دروب المدينة الحمقاء ؛تلك المدينة التي كانت مدينة حتى قبل أن تصير كذلك ..مدينتي التي حملت أجنة الموت وأدمنت حانة المختلين ..الحانة المشفى.

اسأل إدريس من وراء سكرِ وبقايا سكْر ودخان مبجَّل..

_ هل تمكن منك النبيذ ؟ سيي ألم تقدًّم أكثر من ذريعة ودليل على تفاهة قنيناتنا النبيلات ؟

صمت وقنينات ..حكايات معتادة لسكارى معتادين ، وزمن مضى دون أن أسكُر جنب نهر السين رفقة صعالكة باريس.

_ الحياة ما الحياة  أيها المختّل  إن لم تقدم أي رد فعل؟ ..إن لم تلْفظنا بعيدا كما لفظت آخر آمالنا في الحرية والحلم… حين نموت هل نحتضن الموت لحظة قوة أم جبن ؟أجبنا ايها المختل ،يا ابانا الذي يسكن عمقنا الفارغ ..

_ لن أذكَّرك إدريس ،فلا حيلة مع الله..

_ الأجدر بك أن تقول : لا حيلة مع نبيذنا الرخيص..

_ إدريس.. إدريس… (يحدق بي مطلقا عنان بقايا نبيذ لينسكب داخل جوفه) ،لماذا أنت هنا ولست هناك ؟

يشير بيده إلى الحلم العتيق المتقادم ،هو  الحلم الضبابي الذي يرفض ستر عورته ككل الأحلام الثائرة..حينها تخرج بـــاريس من شفتي لتسكب ما تبقى من نبيذ في جوفها البارد الممتلئَ باللوحات والكتب والكثير من الشقراوات.

يضرب كفا بكف.. يتلعثم مخاطبا خمارا عتيقا كجنبات الحانة ..أُحملق مليا بسيجارتي الملوحة فوق أذنه اليسرى ..

_ عاشت شيوعيتك  و لا مستقر لك غير التنظيم ..تنظيمك العتيد المفاخر بشهدائه ..تنظيمك الذي يكتب قادته البيانات دون أن يضيفوك في لائحة شهدائه الأرضيين يا إدريس ..أيها العمق الثائر المؤمن باللاّءاتِ والبندقيةِ والنساءِ ..ياعابداً صعالكة باريس وأرضياتها السماوية ..ستموت ها هنا دون أن يسقط الديكتاتور..لن تنتحر في مياه السين الزكية سيدي ،يا سيدي ،يا فخرنا ..بل هاهنا ،مع سليلي الفوى والشرود كمختل أشعث..

يقاطع راغبا في قول كل شيءٍ دفعة واحدة…غاضباً بدا حينها.

_ لست الديكتاتور يا إدريس ولست موظفا ساميا في كعبتنا السياسية ..أنا مشرد مثلك ،اختبئُ  وراء الطباشير وتلاميذ يحلمون  بالجنة ..مثلك أنا ..مختل أنا كذلك يا إدريس.

 ينهض متثاقلا كجبل ،يجلس مجددا ،بدا لي لِلحظات كباخوس ،فكرت أن اسجد كأي سكِّير لإلاه الخمر..نظرات حادة وغاضبة  تذكرني أني لست بباريس ،أتراجع.. فلست مستعدا لِلكمات إيمانية باسم الآلهة والكتب المقدسة وغير المقدسة ..سأكتفي بنبيذ بارد.

 ينهض متثاقلا كلحن خجول لبيتهوفن ..

_ نخب المشردين في عوالم القاعات الدراسية والحانات ومتاهات الكتب الحمراء..

:قال مضيفا

 _ ونخبي في ربيعي السابع والعشرين

اكتفى بعدها بالتحديق في ثورة البيرة وهي تنتفض في كأس أبيض.

تساءَلت ..ربما هذه هي طريقته  في الإنتحار ..رغبت أن أنتفضَ بدوري كالبيرة الهولندية، لكنني مدمن على تأمل الإنتفاضات والثورات ،ككل هؤلاء ،كشعبي ذاك..

أرفع رأسي لأَتأكد أنَّه قد فارق الحياة المشفى ..أصرخُ فيه :

_ لقد ثارت البيرة الهولندية ، فمتى نصنع ثورتنا نحن سيدي التائه ..؟

صرخت مجدداً

_ لا تمت ابقى هاهنا..

 يُحملق ملياً في جسدي المرتعش.

_  وُلدنا هنا وسنموت معا في لعنتنا هاته ..لا مستقر لنا غير هذا العمق القذر ، وهذه الحانة المشفى ،وكتب انطفأَ بريقها ذات مرحلة تاريخية ونحن لا نزال نُنقب كالبُله عن الشروط الذاتية والموضوعية..ان هاديسنا وكفى..

لا مجيب كالعادة ..اللون السحري للبيرة الهولندية يُغرد بهم جميعا في انتفاضاتهم البهلوانية في وجه الخمار المهترءِ.

“الرجوع لله سبحان من لا ينسى ولا يسهى” ..كانت الكلمات صادرة عن يد مشحمة.

قلت : لا داعي لأن أنظر إلى وجهه ، سراب ووهم لا شك .

كفت حينها أم كلثوم عن تأوهاتها قلت :

_ أم كلثــوم ..آلة جنسية بامتياز، وابتسمت .

تذكرتكِ وأنت ترفضين أن تتحولي إلى آلة تفريخ ..رسمتك تنتفضين كسمكة خرجت لتوها من المحيط : أريد أن أكون لك وحدك لن أصنع أحدهم قد يضطهد ..قد يُقمع ..قد يُشرد.. لا..لا لن أتحول إلى آلة تفريخ ابدا.. أرغب أن احتضن بندقية يا سيدي بدل طفل ..تبتسم بعد رشفة قهوة….

 سأُنجب لك بندقي صغيرة ،وليكن اسمها “رحيل” اسمكَ المفضل …قالت آسيايْ

هل احتضنتك حينها أم رشفتك مثل القهوة سيدتي ؟

لكن باريس لم تفارقني .. باريس يا سيدتي ابنتي غير الشرعية.. وقد أنجبتها لحظة حلم عبرتُ أنا به كل الكتب دون ن يعبرني هو..فهل رأيتِ حلما أنانيا من قبل سيدتي ؟

وكانت الكف الممتلئة تهتزُّ ثانية ،وصوت غليظ  يدمدم بشيءٍ لم ارغب في معرفة كنهِهِ، وكانت الطاولة ممتلئة قنانين، وكانت السيجارة تلوح لا تزال في الأذن اليسرى..

وكان إدريس يلهث كمجنون في كتاب، وكانتْ ذاكرتي قد تأنَّقت بربطة عنق لتحتضن آسيايْ.. وكانت رحيل تراقص مدنا وتلاعب سماوات قبل ان تبتسم لنا.. كأنها القدر، هي رحيل التي تشبه القدر .

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.