الرئيسية | شعر | راهن القصيدة العربية: شِعريَّاتُ مَا بَعْدَ الحَدَاثةِ في قَصِيدَةِ النَّثرِ العربيَّة I (البِنَاءُ المَشْهَدِيُّ ) | شريف رزق

راهن القصيدة العربية: شِعريَّاتُ مَا بَعْدَ الحَدَاثةِ في قَصِيدَةِ النَّثرِ العربيَّة I (البِنَاءُ المَشْهَدِيُّ ) | شريف رزق

شريف رزق (شاعر وناقد مصري):

لقدْ اسْتَطَاعَتْ قصيدَةُ النَّثرِ أنْ تُؤسِّسَ منطقَهَا الجماليَّ على مُسْتَوَياتٍ مختلفَةٍ، أبرَزُهَا: الإيقاعُ، بلاغَتُهَا الخاصَّةُ، الرُّؤيا، التَّركيزُ على الوَاقعِ المعيشِ وَالأنَا الفَرديَّةِ، في أشْوَاقِهَا الحقيقيَّةِ الخَاصَّةِ، وَأثْبَتَتْ أنَّ كُلَّ شيءٍ في الحياةِ صالحٌ أنْ يكونَ مَادةً شِعريَّةً حَيَّةً وَخَصيبَةً، وَبهذَا تمكَّنَتْ أنْ تَشُقَّ طريقَهَا الخاصَّةَ، وَأنْ تُشَكِّلَ فَضَاءً جديدًا؛ تَتَبَدَّى فيْهِ خُصُوصِيَّتُهَا الفَارقَةُ عَبْرَ خُصُوصيَّةِ أبعادِهَا الشِّعريَّةِ المختلِفَةِ، فباعْتِمَادهَا على إيقاعِ التَّجربةِ، بتحوُّلاتِهِ الجيَّاشةِ الحرَّةِ، قامَتْ بفصْلِ الشِّعرِ عنْ النَّظمِ وَحَرَّرتْهُ، وَألغَتْ تبعيَّةَ إيقاع التَّجربةِ لإيقَاعِ العَروضِ، كَمَا تخلَّصَتْ مِنْ الرُّؤى القائِمَةِ العَامةِ، وَمِنْ النَّبرَةِ الخَارجيَّةِ الجهيرَةِ، وَرَكَّزَتْ على خُصُوصيَّةِ التَّجربَةِ، وَخُصُوصيَّةِ النَّبرَةِ الشِّعريَّةِ وَخُصُوصيَّةِ الأدَاءِ، وتجاوَزَتْ مَفْهُومَ الصُّورَةِ البلاغيِّ إلى المفهومِ البَصَريِّ ، وَأطْلَقَتْ الصَّوتَ الدَّاخليَّ العميقَ ؛ ليرتَعَ بحُرِّيَّةٍ مُطْلَقَةٍ، وَتخفَّفَتْ مِنْ حَالةِ العاطِفيَّةِ الصَّاخبَةِ الَّتي طَالما ارْتَبَطَتْ بدرجَةِ الإيقاعِ العَرُوضِيِّ، وَعَكَفَتْ على تفاصِيلِ الوَاقعِ؛ فاسْتَبْدَلَتْ بِالذَّاكرَةِ المعرفيَّةِ الذَّاكرَةَ البَصَريَّةَ، وَرَكَّزَتْ على مَا نعيشُهُ، على الأشْيَاءِ ذَاتها في حُضُورِهَا الفيزيقِيِّ الحيِّ، وَاسْتَثْمَرَتْ السَّردَ الشِّعريَّ، بطاقاتِهِ غَيْرِ المحدُودَةِ، وَتَشَبَّثَتْ بالإنسانيِّ الحميْمِ، وَبِالحِسِّيِّ، وَبالذِّاتِ الإنسانيَّةِ، حَتَّى في أقْصَى حَالاتها هَشَاشَةً، في نَبْرَةٍ شِعْريَّةٍ، أكْثَر ذَاتيَّةً وَإنسَانيَّةً، وَبهذَا اسْتَطاعَتْ أن تُشَكِّلَ مَعَالمَ مَشْهَدِهَا الخَاصِّ وَشَكْلِهَا الجدَيْدِ وَمَلامحِهَا الجماليَّةِ؛ الَّتي يُمْكِنُ أنْ نَرْصُدَهَا على المحورَيْنِ الأسَاسِيَّينِ، الآتِيينِ :

* الشَّكل  – البِنَاءُ المشْهَدِيُّ .

                               – الشِّفاهيَّةُ وَتَدَاوليَّةُ الخِطابِ .

                           – خُمودُ العَاطفيَّةِ وَحِيَاديَّةُ الأدَاءِ.

                           – التَّفاصِيليَّةُ .

                           – التَّشْذيرُ .

                           – تَصَدُّعُ الحدودِ الموضُوعَةِ بَيْنَ الأجْنَاسِ الأدبيَّةِ .

                          – تَشَظِّي الحكايَةِ وَلا معقوليَّةُ السَّردِ .

* المَوْضُوعُ – جَسَدَانيَّةُ الذَّاتِ الفَرديَّةِ .

                                – جماليَّاتُ القُبْحِ .

وَبهذِهِ الملامحِ مُجْتَمِعَةً تَشَكَّلتْ مَعَالمُ شِعْريَّتِهَا المغايرَةِ، غَيْرَ أنَّ هَذَا لا يَعْني أنْ هَذِهِ الملامِحَ هِيَ المسئولةُ عَنْ إنْتَاجِ شِعْريَّتِهَا؛ فَمِنْهَا مَا لا يَقْتَصِرُ على الشِّعرِ وَحْدَهُ، وَإنَّمَا على أدَبِ  مَا بَعْدَ الحدَاثَةِ عَامَّةً ، كَمَا لا يمكِنُ إغْفَالِ الجوهَرِ الشِّعريِّ.

وُيلاحَظُ أنَّ انْتِشَارَ هَذِهِ الشِّعريَّةِ لمْ يأتِ تاليًا لمحدَّدَاتٍ نَظَريَّةٍ مُحَدَّدةٍ، وَإنَّمَا أتَى اسْتِجَابَةً لإنجازَاتٍ جماعيَّةٍ، شَرَعَتْ آليَّاتها تَتَرَسَّخُ مِنْ تَدَاوُلها في نماذِج شِعريَّةٍ مُتَوَاليَةٍ وَمُتَبَاينَةٍ، احْتَشَدَ بهَا المشْهَدُ الشِّعريُّ، دُونَ مَنْهَج ٍوَاضِحٍ، فيْمَا يَبْدُو، في البِدَايَةِ، غَيْرَ أنَّ المشْهَدَ تَكَشَّفَ عَنْ تحديْدِ المعَالمِ، وَاتَّضحَ أفقٌ جديدٌ، وَهُوَ مَا جَعَلَ قصيدَةَ النَّثرِ مَشْرُوعًا مُتَكَامِلاً يَتَخَطَّى اعْتِبَارهَا مجرَّدَ قصيدَةِ نَثْرٍ .

إنَّ مَرْحَلَةَ مَا بَعْدَ الحداثَةِ في تَاريخِ قصيدَةِ النَّثرِ العَربيَّةِ، تُشَكِّلُ عَلامَةً فارقةً، بَعْدَ مَرْحَلَةِ شِعريَّةِ جماعَةِ مجلَّةِ: (شِعْر) اللبنانيَّةِ، في سِتينيَّاتِ القَرْنِ الماضِي، وَقَدْ سَاهَمَ في تَشْكيْلِ مَعَالمَ شِعريَّةِ مَا بَعْدَ الحدَاثَةِ في مَشْهَدِ قصيدَةِ النَّثرِ العَرَبيَّةِ، مجموعَةٌ كَبيرَةٌ مِنْ أجْيَالٍ مُخْتَلِفَةٍ؛ فَمِنْ شُعَراءِ السِّتينيَّاتِ تبرزُ تجربَةُ سَعْدي يُوسف، وَمِنْ شُعَرَاءِ السَّبعينيَّاتِ تَبْرُزُ مجموعَةٌ مِنْ التَّجَاربِ؛ مِنْهَا تجربَةُ وَديع سَعادة وبَسَّام حَجَّار ومحمَّد صَالح وآخَرِينَ، وَمِنْ شُعَرَاءِ الثَّمانينيَّاتِ مجموعَةٌ أكْبَرُ، يُمَثِّلونَ أهَمَّ شُعَرَاءِ هَذَا الجيْلِ، كَذَلكَ شُعَرَاءُ التِّسعينيَّاتُ، في مُعْظَمِ الأقْطَارِ العَرَبيَّةِ؛ فَهَذَا التَّحوُّلُ لمْ يَكُنْ وَليدَ جِيْلٍ، مُحَدَّدٍ؛ بَلْ نِتَاجُ مَرْحَلةٍ حَضَاريَّةٍ كَامِلَةٍ، شَارَكَ فيْهَا الطَّليعَةُ مِنْ مختلَفِ الأجيَالِ الشِّعريَّةِ الفَاعِلَةِ في المشْهَدِ الشِّعريِّ؛ الَّذين لمْ يَتَبَنَّوا شَكْلَ قصيدَةِ النَّثرِ فَقَطْ؛ بَلْ جماليَّاتِ مَا بَعْدَ الحدَاثَةِ في مَشْهَدِ قصيدَةِ النَّثرِ؛ الَّتي تمثَّلَتْ في الأشْكالِ الآتيَةِ:

البِنَاءُ المَشْهَدِيُّ :

المشْهَدُ Scene، اصْطِلاحًا، هُوَ الفَضَاءُ: الحيِّز؛ الَّذي يَضُمُّ بَيْنَ جنباته مفردات الموقف الشِّعريِّ، الَّتي يَضَعُهَا السَّاردُ وَضْعًا دَالاً، وَتَعْمَلُ عينا السِّاردِ ، هُنَا، عَمَلَ كاميرا السِّينمَا؛ الَّتي تَسْتَقْصِي أبعَادَ وَتَفَاصِيلَ هَذَا المشْهَدِ، في حِيادٍ، وَفي البنَاءِ المشْهَديِّ يكونُ التَّركِيزُ على الأبعَادِ المكانيَّةِ فيمَا تَتَبَاطأ حَرَكَةُ الزَّمن .

والمشْهَديَّةُ هيَ اعْتِمَادُ آليَّاتِ صِنَاعَةِ المشْهَدِ بأبعادِهِ البَصَريَّةِ؛ لِتحقيْقِ المجازِ البَصَريِّ، وَتَرْكِ بلاغَةِ الصُّورَةِ الجزئيَّةِ اللغَويَّةِ إلى بَلاغَةِ الصُّورَةِ الكُليَّةِ البَصَريَّةِ؛الَّتي يبدو فيْهَا أنَّهُ كُلَّمَا كَانَ المشْهَدُ خَاليًا مِنْ التَّعليْقِ المباشِرِ وَالثَّرثَرَةِ الفَضْفَاضَةِ كَانَ أبْلَغَ »(1)، غَيْرَ أنَّهُ لَدَى البَعْضِ، كَانَ المعرفيُّ يُغالِبُ البَصَريَّ ممَّا يُشوِّشُ على جماليَّاتِ المشْهَدِ، كَمَا كَانَ لدى غيرهِمْ وَلَعٌ بإقامَةِ نهاياتٍ مجازيَّةٍ للمَشْهَدِ، وَأحْيَانًا إسْقَاطِ تعليقاتٍ ذهنيَّةٍ عَليْهِ، وَهَؤلاءِ الأخِيرونَ هُمْ أسْوَأُ مُنْتِجِي تيَّارِ يانيس ريتسوس (1909-1990) في الشِّعرِ العَرَبيِّ؛ لقدْ كَانَ رتيسوس يَعْمَدُ إلى التَّركِيزِ على التَّفاصِيلِ الصَّغيرَةِ لِصِنَاعَةِ قصيدَةٍ عاريَةٍ مِنْ الضَّجيجِ، مُكْتَفِيَةٍ بِأقلِّ القَليْلِ مِنْ العنَاصِرِ المبتَذَلَةِ البَسِيْطةِ؛ الَّتي تَصْنَعُ الحيَاةَ اليوميَّةَ، وَكانَ يُركِّزُ، غالبًا ، في نهايَاتِ القصَائدِ على تحَوُّلِ الأشْيَاءِ غَيْرِ المتوقَّعِ، على الفانتَازيَا وَالتَّحَوُّلاتِ السِّحريَّةِ للأشْيَاءِ(2)؛ بحيثُ تَتَعَلَّقُ شِعريَّةُ النَّصَّ بخاتمتِهِ بدرجَةٍ كبيرَةٍ، وَهِيَ نهايَاتٌ كثيرًا مَا تكونُ مُبَاغِتةً، يمتزجُ فيْهَا، الكُلِّيُّ بِالنِّسبيِّ، أوْ الوقائِعِيُّ بِالرُّؤيويِّ، وَمْنْ ذَلكَ هَذَا النَّصُّ لِسَعْدي يُوسف (1934 – ) بعنوَانِ: «عَصَافير».

« هَذَا الصَّباح أبْصَرْتُ للمَرَّةِ الأولى عُصْفُورًا

كَانَ عَلى سَاقٍ دَقيقَةٍ لِنبْتةِ ذُرَةٍ صَفْرَاءَ .

نبْتةٍ يَتَزَيَّنُ بهَا الفندقُ البَحَريُّ

العُصْفُورُ ينظِفُ نَفْسَهُ

السَّاقُ تَهْتَزُّ

عُصْفُورٌ ثانٍ يأتِي

السَّاقُ تميلُ :

عُصْفُورٌ ثالثٌ

السَّاقُ تسْجُدُ خاطِفَةً

فجْأةً، وَبخَطفةٍ وَاحدَةٍ، تطيرُ العَصَافيرُ الثَّلاثةُ

مبتعدِةً عنْ الفندقِ البَحَريِّ

وَتَحْتَ قميصِي تَرْتعِشُ آلافُ العَصَافيرِ.»(3)

مِنْ العَصَافيرِ الَّتي غَادَرَتْ مَشْهَدَ الشَّاعرِ، وَالعَصَافيرِ الَّتي ارْتَعَشَتْ دَاخِلَ الشَّاعرِ، على إثْرِها ، تحدُثُ الارْتجافةُ الشِّعريَّةُ، في خَاتمةِ المشْهَدِ ، وَلمْ يكتفِ الشَّاعرُ هُنَا، بِسِينمَائيَّةِ المشْهَدِ، وَشِعريَّةِ المشْهَدِ البَصَريِّ – الَّذي تغَيَّبَ فيْهِ السَّاردُ، إلاَّ مِنْ ضميرِ المتكلِّمِ في السَّطرِ الأوَّلِ مَرَّةً، وَفي السَّطرِ الأخيرِ مَرَّةً أخْرَى، وَهَيمنَتْ طبيعةُ المشْهَدِ البَصَريِّ، وَهِيَ تنقلُ بحيادٍ، في أدَاءٍ سِينمائيٍّ، تفاصِيلَ المشْهَدِ الكُلِّيِّ بجزئيَّاتِهِ المتَكامِلَةِ المتَضَامَّةِ – وَإنَّمَا رَكَّزَ على خَاتمةِ المشْهَدِ؛ لِيَكْتَمِلَ بِهِ البنَاءُ المشْهَدِيُّ .

وَعَلى هَذَا النَّحوِ يبدو العَمَلُ الشِّعريُّ، هُنَا، أكْثَرَ اقْتِرَابًا مِنْ طبيعَةِ العَمَلِ السِّينمائيِّ؛ حيثُ يُركِّزُ الشَّاعرُ على مُفْرَدَاتِ المشْهَدِ البَصَريِّ ، وَيَقُومُ بِتَبْطِيءِ حَرَكةِ الزَّمنِ؛ ليُحدِثَ مَا أسْمَاهُ روبرت همفري بالمونتاجِ الزَّمنيِّ، وَيُتَابِعُ المتلقِّي الحدَثَ« مُعَاصِرًا وُقُوعَهُ كَمَا يَقَعُ بِالضَّبطِ وَفي نَفْسِ لحظَةِ وُقوعِهِ، لا يَفْصِلُ بَيْنَ الفِعْلِ وَسَمَاعِهِ، سِوَى البُرْهَةِ الَّتي يَسْتَغرقُهَا صَوْتُ [ السَّاردِ ] في قوْلِهِ؛ وَلِذلكَ يُسْتَخْدَمُ المشْهَدُ للَّحَظَاتِ المشْحُونَةِ »(4)، وَيُتِيْحُ هَذَا المنْهَجُ لِلشَّاعرِ أدَاءً أقْرَبَ إلى الموضُوعيَّةِ، وَالحيَاديَّةِ ، وَلا يبدو مَعَهُ النَّصُّ حَالةً شِعريَّةً؛ بَلْ مَشْهَدًا شِعْريًّا وَثائِقيًّا.

وَيَتَبَنَّى السَّردُ الشِّعريُّ أحْيَانًا، آليَّاتِ السَّردِ السِّينمائِيِّ؛ فيرْصُدُ عَنَاصِرَ المشْهَدِ وَمُفْرَدَاتِهِ ، بطريقَةِ المونتاجِ؛ «عَبْرَ تَوَالي سِلْسِلةٍ مِنْ الكَادرَاتِ أوْ المشَاهِدِ السِّينمائيَّةِ الَّتي يأتي أحَدُهَا في أعقابِ الآخَرِ(5)، كَمَا نَرَى في هَذَا المجتزأ ليحى جابر(1961- ):

« الخَطَّاطُ مُنْهمكٌ على لافتةٍ لصَرَّافٍ

تَحْتَ قدميْهِ يافطةٌ لتظاهُرَةٍ .

رَغْوةُ صَابونٍ تترسَّخُ على زُجَاجِ مَقْهَى .

طاولةٌ مُرَبَّعةٌ لِمُجتمِعينَ تَحْتَ قبَّعَاتٍ .

رَجُلٌ يحْملُ دَجَاجَةً تُفرفِرُ بَيْنَ يديْهِ .

يتناقشُ بحدَّةٍ مَعَ آخَرٍ يَحْملُ بَيْضَةً .

رَجُلٌ يُمزِّقُ أوْرَاقَ رُوزنَامةٍ

وَيَرْميْهَا في صَحْنِ مُتَسوِّلةٍ .

نَادَلٌ يكنسُ حُرُوفًا وَأوْرَاقًا .

صيصانٌ بَيْنَ الطَّاولاتِ .

على طاولةٍ مُسْتَطيلَةٍ

حَقيبَةٌ سمسُونايت .

نَظَّارَةٌ سَوْدَاءُ . قفَّازَاتٌ بيْضٌ .

دُمْيَةُ مَا نيكانٍ . عُكَّازَاتٌ .

ضمادَاتٌ مَلفوفةٌ حَوْلَ الكَرَاسِي .

في الخَارج.

تَنْزَلقُ عَرَبَةُ مُقْعَدٍ بَيْنَ السَّيارَاتِ.»(6)

وَحَيْثُ يَرْصُدُ الشَّاعرُ مُفْرَدَاتُ المشْهَدِ الشِّعريِّ؛ مُتَّحدًا بِعَيْنِ الكاميرا، تَتَشَكَّلُ سِينمَائيَّةُ السَّردِ الشِّعريِّ؛ عَبْرَ جماليَّاتِ المشْهَدِ، كَمَا في قَوْلِ كريم عبد السَّلام (1976- ):

« في حَرِّ الظَّهيرَةِ الصَّبيُّ وَاقفٌ أمَامَ البيْتِ .

  وَالفتَاةُ بالدَّاخِلِ تَرْقبُ حَرَكتَهُ .

  ثُمَّ تَخْرُجُ الفتَاةُ مُبْتَسِمَةً وَتَسيْرُ عَلى جَانبِ الشَّارعِ

  وَعَلى الجَانبِ الآخَرِ يسيْرُ الصَّبيُّ، فيْمَا يَتَبَادَلانِ النَّظَرَاتِ .

  الفتَاةُ تَتَعثَّرُ خُطُوَاتُهَا وَالصَّبيُّ يَعْبُرُ إليْهَا.

  بَعْدَ خَمْسَ عَشْرَةَ خُطْوَةً تشْتَبكُ أصَابعُهُمَا.»(7)

وَيَتَبَدَّى الوَعْي بِسِينمَائيَّةِ الحدَثِ اليومِيِّ، وَإدْرَاكِ الوَاقعِ الحياتيِّ المَعيشِ كَنَصٍّ سِينمَائيٍّ؛ بممثِّلينَ: ينتشِرُونَ في جَنَبَاتِ المشْهَدِ، وَمُتَفَرِّجينَ خَارجَ المشْهَدِ، لَدَى كريم عبد السَّلام، في تعبيرِهِ عَنْ دَمَويَّةِ الوَاقعِ عَبْرَ مَنْظورٍ سِينمَائيٍّ فنتازيٍّ؛ تَرْصُدُ فيْهِ الذَّاتُ الشَّاعِرَةُ، مِنْ غُرْفتِهَا المظْلِمَةِ، المشْهَدَ الخارجِيَّ؛ بِاعْتِبَارِهِ مَشْهَدًا تمثِيليًّا خَالِصًا، على هَذَا النَّحوِ :

« المُمَثِّلونَ وَالعُمَّالُ في الخَارجِ يَسْتَعدُّونَ،

المَشَاهِدُ لا تَتَوَقَّفُ مُنْذُ أنْ بَدَءُوا يُصَوِّرُونَ فيلمَهُمْ .

سَيَّارَةٌ مُسْرِعَةٌ تَعْبُرُ وَتَسْحَقُ فَتَاةً عَابرَةً

وَالمُتَفَرِّجُونَ في شُرُفاتِ المَنَازلِ

يُرَاقبُونَ البُقَعَ الحَمْرَاءَ والتَّشَنُّجَاتِ

وَالفَتاةُ العَابرَةُ لِلشَّارعِ تَمُوتُ

وَالمُخْرجُ لا تُعْجبُهُ مِيْتَةُ الفَتَاةِ العَابرَةِ

فيُكرِّرُ تَصْويرَ المَشْهَدِ عَشْرَ مَرَّاتٍ

وَفي كُلِّ مَرَّةٍ

تَمُوتُ فَتَاةٌ جَديدَةٌ

وَتَهْرَبُ سَيَّارَةٌ بسُرْعَتِهَا مِنْ المَشْهَدِ

وَيَتَفَرَّجُ المُتَفرِّجُونَ

دُونَ أنْ يَنْتَبْهُوا إلى أنَّ العُمَّالَ في الخَلفيَّةِ

يَنْقلُونَ الجُثَّةَ مِنْ عُرْضِ الشَّارعِ ، ثمَّ يَضَعونَهَا

في كيْسٍ بلاسِتيكيٍّ ، وَيُنَظِّفونَ المَكَانَ ، تَمْهيدًا

لإعَادَةِ المَشْهَدِ .»(8)

إنَّ اقترَابَ الشِّعرِ مِنْ عَالم السِّينمَا، كثيرًا، جَعَلَهُ يَتَخَفَّفُ مِنْ مجازِ الجمْلَةِ، وَمِنْ النِّهايَاتِ المجازيَّةِ، المصْنُوعَةِ، في الخوَاتِيْمِ ، بُغْيَةَ إحْدَاثِ لفْتَةٍ عَاجِلَةٍ إلى المشْهَدِ كَكُلٍّ؛ لمتَابَعَةِ تَفْجِيرِهِ الدَّلاليِّ.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.