الرئيسية | شعر | راهن القصيدة العربية: شِعريَّاتُ مَا بَعْدَ الحَدَاثةِ في قَصِيدَةِ النَّثرِ العربيَّة II (الشِّفاهيَّةُ وَتَدَاوليَّةُ الخِطَابِ ) | شريف رزق

راهن القصيدة العربية: شِعريَّاتُ مَا بَعْدَ الحَدَاثةِ في قَصِيدَةِ النَّثرِ العربيَّة II (الشِّفاهيَّةُ وَتَدَاوليَّةُ الخِطَابِ ) | شريف رزق

شريف رزق (شاعر وناقد مصري)

الشِّفاهيَّةُ وَتَدَاوليَّةُ الخِطَابِ:

 

جَاءَ النُّزوعُ إلى الشِّفاهيَّةِ انْقِلابًا على اسْتِحكَامِ الخِطَابِ الشِّعريِّ، الَّذي وَصَلَ إلى ذُرَاهُ على أيدي شُعَرَاءِ السَّبعينيَّاتِ المصْريِّينَ، وَهُوَ مَا تمثَّلَ في تكثيفِ المجازِ اللغويِّ، وَالإزاحَةِ اللغويَّةِ، وَالصُّورِ المعقَّدَةِ، سَعيًا إلى جَعْلِ النَّصِّ فَضَاءً للتآويلِ المفتوحَةِ، جَاءَ النُّزُوعُ إلى الشِّفاهيَّةِ مُعزِّزًا قيمةَ التَّداوليَّةِ، وَتخليْصِ اللغَةِ مِنْ كهنوتها التَّاريخيِّ، وَمِنْ اسْتِرَاتيجيَّاتِ البلاغَةِ، وَمُؤكِّدًا على التَّمسُّكِ بلغَةِ الحيَاةِ اليوميَّةِ، وَتَرَاكيبِهَا، وَمَنْطِقِهَا الجمَاليِّ الخاصِّ، سَعْيًا إلى « تحقيْقِ الالتحَامِ الحميْمِ بِالوَاقعِ، وَليْسَ مجرَّدَ مُعَايشتِهِ على البُعْدِ»(9)، وَسَعْيًا إلى الإخْلاصِ لوظيفَتِهَا التَّوصِيليَّةِ، وَهُوَ مَا يقودُ – أحْيَانًا – إلى تَقَشُّفٍ لغويٍّ، وَاعْتِمَادِ مُفْرَدَاتٍ دَارجَةٍ، وَتِكرَارِ أبنيَةٍ عاميَّةٍ، وَالتَّركيزِ على المنطقِ الجماليِّ الشِّفاهيِّ الحيِّ، وَهَذَا الانهمَامُ بِالوَعْي الشِّفاهيِّ يَصُبُّ في اهْتِمَامِ مَا بعدَ الحدَاثَةِ ، ضِمْنَ إعْطائِهَا الصَّدَارَةَ « للثَّقافَةِ الشَّعبيَّةِ ؛ كتَحَدٍّ  لمعيَارِ الفَنِّ الرَّفيْعِ، حَدَاثيًّا كَانَ أمْ تقليديًَّا.»(10)

وَهَكَذَا عَمَدَتْ القصيدَةُ الجديدَةُ إلى بلاغيَّاتِ الصُّورِ المعيشَةِ المتنامِيَةِ؛ الَّتي تبدو «كأحْدَاثٍ مُفْرَطةٍ في وَاقعيَّتِهَا، لمْ تَعُدْ لهَا أيَّةُ مَضَامِين أوْ أهْدَاف خَاصَّة »(11)، سِوَى التَّحقُّقِ الحيَاتيِّ الحىِّ، وَتَسْعَى الذَّاتُ المتكلِّمَةُ، في النَّصِّ، إلى الالتحَامِ بهذَا المعيشِ، وَمِنْ ذَلكَ هَذَا النَّصُّ، لعلي منصور( 1956 – ) بِعنوانِ: «عِنْدَ الفُنْدَقِ العَائِمِ ».

« أمُّكَ، وَاللهِ، ظُفْرُهَا بعَشْرٍ

مِنْ هَؤلاءِ النِّسوَةِ .

اللوَاتي …

لمْ يَجْلسْنَ سَاعةً وَاحِدَةً

أمَامَ الفُرْنِ

هلْ تَرَمَّلتْ وَاحِدةَُ مِنْهُنَّ، مَثَلاً، في الثَّلاثِيْنَ

وَعُلِّقَ في رَقبتهَا ثَلاثةُ أطفَالٍ

وَأخْتُهُمْ في الرَّحِمْ .

أُرَاهِنُ:

وَلا وَاحِدَة مِنْهنَّ تَعْرفُ كيْفَ تَسْلُخُ أرْنَبَةً بَعْدَ ذَبْحِهَا

وَشَكْلُهنَّ ضَاجَعْنَ رجَالاً كثِيْريْنَ

غيْرَ أزْوَاجهنَّ

وَليْسَ بَعيْدًا

أنَّهنَّ يَعْمَلنَ جَوَاسِيسْ !!.» (12)

وَمِنْ ذَلكَ، أيْضًا، هَذَا المجتزَأُ، لمؤمن سمير (1975-) :

« هَادئًا تَمَامًا

كُنْتُ أمْشي وَنَفْسِي

عنْدَمَا نَادَتْني الدِّمُوعُ

الَّتي في عيونِ الخَيْلِ

لِعِلْمِكُمْ

ليسَتْ قَسْوةُ صَاحبِ « الحَنْطُورِ»

هيَ السَّبَبُ

وَليسَتْ رَدَاءَةُ الطَّعامِ

وَلا فِكْرَةُ العبودَيَّةِ في حَدِّ ذَاتِهَا

وَلكِنْ

اجْلِسُوا

اجْلِسُوا لأقُصَّ عليْكُمْ .»(13)

هَكَذَا يَتَحَكَّمُ مَنْطقُ الكَلامِ، في طَريقَةِ السَّردِ الشِّعريِّ؛ فَيَبْدُو الحسُّ الشِّفاهيُّ مُهَيْمِنًا على الصِّياغَةِ الشِّعريَّةِ، وَأحيانًا يَنْزَعُ النَّصُّ إلى الشِّفاهيَّةِ، دُونَ أنْ يَعْتَمِدَ المنطِقَ الجماليَّ لِلُغَةِ الحديثِ، فَيَعْلُو منطقُ المجازِ اللغَويِّ على البَوْحِ الإنسانيِّ، وَتَبْدُو الخلفيَّةُ المعرفيَّةُ أكْثَرَ مِنْ فِعْلِ القَوْلِ، كَمَا نجدُ في هَذَا المجتزأ، لِعزمِي عبد الوهاب (1964 – ) :

« أمتلِكُ حِذَاءً وَاحِدًا

وَتسْعَةً وَعشْريْنَ شتَاءً

وَصُورَةً لمَاجدة الرُّومي

سَرَقتُهَا مِنْ صَديقٍ لا يُحبُّ قَرَاءَةَ الكُتُبِ

وَعَلَّقتُهَا على حائِطٍ

في غُرْفة نَوْمي

ثُمَّ تَابَعْتُ مِنْ مِقْعدِي

حَرْبَ «الشَّبَحِ »وَ « البَاترويت»

لِذَلكَ … أرْجُوكم لا تُصَدِّقُوني

حِيْنَ أرْفَعُ إبهَامِي

تأييدًا لِكلامٍ

لمْ أسْمَعْهُ…،

فالعَالَمُ أضْيَقُ مِنْ حِذَاءٍ

وَأكْثَرُ برودَةً مِنْ

عَيْنِ دِيكتاتُورٍ زُجَاجيَّةٍ

وَكلُّنَا نكذِبُ

منذُ أنْ دَحْرَجَتْنَا طفولتُنَا

مِنْ عَصَا الأبِّ

إلى شَارعٍ جَانبيٍّ .»(14)

لا يكتفِي الشَّاعرُ بِالمعيْشِ الحياتيِّ، وَإنَّمَا يُسَلِّطُ عليْهِ الحسيَّ المعرفيَّ، ذَا الموقِفَ السِّيَاسِيَّ الوَاضِحَ؛ لِتَتَوَلَّدُ الإيماءَاتُ الشِّعريَّةُ المعرفيَّةُ؛ الَّتي تُشَكِّلُ كَسْرًا مُتَوَاليًا للإيهَامِ بمعَايَشَةِ الحكيِّ، وَبَيْنَمَا مَثَّلَ السَّردُ الشِّعريُّ الإنسانيُّ الحميْمُ المتَشَكِّلُ مِنْ المعيْشِ التَّدَاوليِّ – كَمَا تبَدَّى عِنْدَ علي منصور، على سَبيلِ المثَالِ – انحِيَازًا لوَعْي مَا بَعْدَ الحدَاثَةِ لمْ يَتَخَلَّصْ السَّردُ الشِّعريُّ الحياتيُّ المُمَوَّهُ بِالمعرفيِّ – في النَّموذَجِ الَّذي مَثَّلَهُ عزمي عبد الوهاب – مِنْ الحدَاثيَّةِ، فَبَيْنَمَا انْشَغَلَ الأوَّلُ ببلاغَةِ القريْبِ، نَزَعَ الأخيرُ إلى البَحْثِ عَمَّا وَرَاءَهُ، وَعِنْدَ الأوَّلِ لا شَيءَ تحتَ التَّجربَةِ إلاَّ التَّجربَةِ، وَلا وَرَاءَ السَّطحِ سِوَى السَّطحِ؛ المعيْشِ وَالبسِيْطِ وَاليومِيِّ، فيْمَا لا يَزَالُ الأخيرُ جَانحًا إلى ثَقَافَةِ النُّخبَةِ وَالنُّخبويَّةِ.(15)

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.