الرئيسية | سرديات | رائحة اللون | عبد الواحد كفيح

رائحة اللون | عبد الواحد كفيح

عبد الواحد كفيح:

وأنا أجر نفْسي في جوف القاعة، بتثاقل مبالغ فيه، كان الحضور مازال باهتا. ولأني دخلت لاهثا من أثر التعب وسياط أشعة الشمس، لم يكن بمقدوري آنذاك أن أميز الأشياء والناس واللوحات المعروضة بالداخل. كانت القاعة برمتها عبارة عن دهليز أو ممر طويل لا أدري أين يتجه ولا أين ينتهي. تسود أجواؤها برودة محتملة بيْدَ أنها بدت لي غير منعشة، لم تُجْل عتمتَها سوى حزمة أضواء كابية خافتة لم أتبين مصدرها، أهي بقايا خيوط الشمس المتسللة من أعلى السقف أم الكوى ثم ما لبثتت أن ازورّت؟ أم مصدرها فوانيس ثبتها المنظمون كديكور على الجدران؟ قبل أن تنقشع الغشاوة من على عيني، وقبل أن أتمعن جيدا في أولى اللوحات التشكيلية المعروضة هناك، اجتاحني إحساس بالكآبة لم أتبين مصدره، فعدت أدراجي نحو البوابة التي اكتشفت أنها على شاكلة قوس عتيق من طراز برتغالي موغل في القدم. انقذفت دون هدف في حنايا أزقة ضيقة، ملتوية تفوح منها رائحة كرائحة التاريخ. مشيت مفتونا مبحلقا في الشبابيك العالية جدا والشرفات التي تحكي ألف حكاية وحكاية عن تعاقب أسر وعائلات سكنت هذه الربوع منذ قرون خلت. من هناك في الأعالي تطل عجوز صامتة كالقبّرة، أثقلت السنون والزمن ملامح وجهها وطفقت تغرس عينيها عميقا في المدى البعيد. وفي الشرفة المقابلة انزوى طفل صغير يرقب عن كثب حمائم مقرفصة في خجل تحكي عن صمتها الضاج بالدهشة والإمتاع. أطلقت ساقي للقدر تسيحان بي بين الابراج العالية المطلة على الساحل الأطلسي، حيث هناك في قلعة عالية نصبت مدافع صدئة، مازالت صامدة في وجه الأنواء، لم ينل منها لا فعل الزمان ولا نائب الحدثان. تجثو وعيونها على الأفق الازرق الشاسع، ترقب منذ الأزل قوافل القراصنة المردة الدهاة المتمسكين على الدوام بالحبال المتدلية من سواري السفن الحربية، مستطلعين بمناظيرهم للأفق البحري، وأساطيل جيوش الأعداء المتأهبين على الدوام للنيل غيلة من حرس الحدود وشن غاراتهم على المدن الساحلية. وعلى مقربة منها، ومن على كل هذا العلو الشاهق، تابعت شغب أطفال الحي البرتغالي، وكيف كانوا، بسرعة النيازك ،يلقون بأنفسهم في أعماق مياه الميناء الرحب، محدثين شرخا عميقا في سطح الماء. مياه منشغلة بحرب ضارية وارتطام أبدي على واجهة جدران عملاق، ظل يمد صدره منذ الأزل لضربات الامواج المجنونة التي لا تمل ابدا ولا تكل في حركات لا تعد ولا تحصى من المدّ والجزر والذهاب والإياب والارتطام المسموع وهو لا يبالي بتقلباتها الهائجة ،معترضا معاندا شامخا بجبروته لا يضعف ولا يلين أمام هذا الإصرار الجبار على الانكسار والانتحار الأبدي، حتى اصطبغت خاصرته بحزام بلون الحناء. دلفت وأنا مسرنم انتزع بمشقة رجليّ من وعثاء داء النقرس، نعم داء النقرس الذي بدأ يقتات على عظامي. قلت دلفت الى بوابة القلعة البرتغالية الحديدية التي تشبه إلى حد بعيد باب زنزانة كبرى ،تلقب بباب البحر . تغمس على الدوام قدميها في الماء صامدة، تحرس الحي في مواجهة دائمة لبحر الظلمات ، تحكي له ويحكي لها عن أهوال الحروب التي أودت بآلاف السفن وطمرتها في قيعان البحار والمحيطات، تحكي عن الأرواح والعجائب والغرائب التي تضج بها فلوات البحر وأعماقه الخرافية المدهشة، والنوارس البيضاء تمدّه بالحكايا الساحرة من وراء سبعة أبحر مَددا.

توقفت على مبعدة من منزل شاهق يُصْعَدُ إليه عبر درجات متآكلة تعود في نشأتها الى غابر العهود والأزمان كما يقال. من شرفته الخشبية الباهتة اللون في إطارها المتآكل تشرئب كرمة تين صغيرة برأسها من الجدران وقد فتحت شقا وصدعا ظاهرا في طريقه لنزع إطار النافذة. وعلى سطح البيت تمدد حبل غسيل طويل، نشرت عليه ملابس زاهية الألوان ترفرف في مهب تيار الهواء، يقابله بنفس الدقة والترتيب في الانتظام -على أسلاك الكهرباء- أسراب من العصافير تزدحم في صف منتظم أنيق الشكل، تشرئب بأعناقها إلى رحابة السماء وتُقبّل بعضها البعض في حب ووئام وسلام. وفي الأسفل كان ثمة قط مشاكس، قط واحد فقط ، يلعق ذيله مشرئبا بعنقه نحو قفص فارغ معلق على حافة شرفة المنزل المقابل ،حيث اصطفت أصص آيلة للتداعي والسقوط. على وجه الحائط يظهر بارزا للعيان ،نسر أخضر مرسوم في غاية المهارة والصنعة التشكيلية، كتبت تحته عبارات تشجيع هذا الفريق ،تقابلها عبارات تشجيع ذاك الفريق أو ذاك ، برسومات في غاية الأناقة والجمال. صعدت القلعة من جديد للاستمتاع بترنيمات هذه الأهجوزة المتناغمة الأصوات القادمة من جوف زمن ليس زمننا، لأنه خيّل اليّ، بحق أنني أسمع بأم أذني أصداء قعقعة سنابك خيل البرتقيز الغزاة وصليل سيوف الروم التي تصم الأسماع وغارات أسود الأطلس حماة الثغور، أبطال دكالة الشجعان وصهيل جياد محاربيها الاشاوس، أرى وأسمع ما يعقب الالتحام من صدى أناشيد حمَلَةِ ألوية وبيارق الحروب والمعارك الفاتحين وتكبير وتهليل فيلق الطليعة المتطوع لدحر الأعداء والموت قربانا لحماية عذرية البريجة. أرقب رفقة هذه الجوقة مكانا ذهبيا اتخذته الشمس هدفا ومذبحا لانتحارها ومغيبها المتكررالملغوز. وهذه النوارس البيضاء ،كسُعاة البريد ،تأتي دوما محملة بالرسائل والأخبار والحكايا، تهمس في آذان الشرفات والنوافذ المشرعة على تيارات الهواء الرطب وتوزع الاخبار عبر قعقعاتها الدائمة باحثة في شراهة هنا او هناك عن أسماك قادها مصيرها نحو مناقيرها المفتوحة على الدوام للالتهام، تأتي أسرابا ووحدانا نازلة صاعدة في بهجة وحبور في جوقة متناغمة الأصوات تزيد المكان سحرا خاصا ودهشة لا مثيل لها. أحسست بالسكينة تسربلني. استرجعت هدوئي وصفا ذهني. شيء دافئ/بارد، لست أدري، تسلل الى دواخلي كما تسللت مويجات البحر الى الميناء. هواء رطب يحمل على جناحيه رائحة البحر ورائحة المراكب، والزوارق وملح البحر وأهازيج البحارة أنعش كياني وأيقظ في نفسي حب العودة لهواية التشكيل واستغوار مكامن الجمال. ولما بدأ الغروب يزحف بجبروته على المكان تضخمت بداخلي شهوة السؤال، بعد كل هذا الخلق أسأل بحرقة عن سر وعظمة الخالق الأكبر. تذكرت قاعة العروض.نعم قاعة العروض .وجدتني أحدث نفسي بصوت غير مسموع،هذه لوحات تشكيلية طبيعية ضاجة بالصوت والصورة والألوان، ألم تقتنصها بعد عين الفنان ؟؟.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.