الرئيسية | فكر ونقد | حين بكى نيتشه.. أو عندما يضعف فيلسوف القوة | د.عبد القادر ملوك

حين بكى نيتشه.. أو عندما يضعف فيلسوف القوة | د.عبد القادر ملوك

بقلم: د.عبد القادر ملوك

باحث في الفلسفة / المغرب

 

نشير بداية إلى أن الشطر الأول من العنوان الذي وضعناه لهذا المقال هو تقريبا العنوان ذاته الذي اختاره إيرفين يالوم لروايته * التي تدور أحداثها حول شخصيتين رائدتين، وَسَمَتا النصف الثاني من القرن التاسع عشر بإبداعهما في مجالين معرفيين مختلفين ومتداخلين في آن، هما الفلسفة وعلم النفس. يتعلق الأمر، تواليا، بالفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، والطبيب النفسي النمساوي جوزيف بروير. والذي يلفت الانتباه في كتابات يالوم ويجعل إقبال القراء عليها كبيرا ونوعيا، هو ابتعادها عن طَرق المواضيع المكرورة، أو لِنَقُل توخيا للدقة أنها تبحث في ما غفل عنه الكُتاب وشردت عنه الأقلام. ولا ريب أن ما ساعد يالوم على ذلك هو جمعُه بين تخصصين قلما يجتمعان في شخص واحد؛ فهو الطبيب النفسي المتخصص في كشف خبايا النفوس والغوص في أعماقها لسبر المتواري المستور خلف الظاهر المنظور، وهو كذلك الروائي المحنك البارع في تطويع اللغة وإدخالها في مسالك ودروب متعرجة يلتقي فيها الفرح بالحزن والأمل بالخيبة والانتصار بالانكسار… عبر سرد خلاب، ساحر ومشوق يجذب القارئ ويعرج به نحو مراقي الإبداع في أقصى صوره. وهذه الخلطة السحرية نلفيها حاضرة في مجمل أعمال يالوم الروائية التي تصدى خلالها للبحث في مناطق غير معروفة للقارئ العادي من حياة وتاريخ وفكر شخصيات مرموقة في عالم الفلسفة، على وجه التحديد، أمثال سبينوزا وشوبنهاور وأبيقور وغيرهم. وهاهو في هذا العمل الإبداعي يفعل الشيء ذاته مع الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، فلو قُدر لنا أن نقوم بمسح لما أُلِّف من بحوث ومقالات حول شخصية نيتشه أو حول حياته أو حول كتاباته لوجدنا عنتا ومشقة كبيرين في حصره، بما يجعل كل كتابة إضافية عن هذا الفيلسوف ضربا من التكرار الممل الذي لا فائدة منه ولا طائل. ومع ذلك، تجد في هذه الرواية عن حياة نيتشه ما يأسرك ويجذبك بقوة، بدءا بالعنوان الصادم والمثير وانتهاء بالمتن العميق والمتنوع الذي يطلعنا على سجال ماتع دارت رحاه بين صاحب “هكذا تكلم زرادشت” و جوزيف بروير أبرع طبيب نفسي تشخيصي في أوربا في تلك الفترة، إلى جانب الحضور اللافت للطبيب المبتدئ آنذاك، سيجموند فرويد، الذي كان على صلة وطيدة بأسرة بروير؛ أما العنوان: “حين بكى نيتشه!” فهو مما يشد القارئ ويثير فضوله ويدفعه دفعا إلى اقتناء الكتاب لسبر خباياه والوقوف على سر بكاء نيتشه وحيثيات هذا البكاء، وكشف النقاب عما في مُكنته أن يبكي فيلسوفا ما انفك يدعو إلى القوة ويحرض الإنسان على الخروج من حالة الضعف التي لازمته طويلا حتى صارت ميسما يسمه وصِفة تلازمه، والتسلح في المقابل بمنطق القوة باعتباره الحقيقة التي يؤمن بها كل من يريد أن يتجاوز مرتبة الإنسان نحو مرتبة الإنسان الأعلى المتشبع بقيمتي الانتصار والسيادة؛ وأما متن الكتاب وما اختزنه من أحداث فهو ما سوف نطلع عليه في ثنايا هذه الورقة.

شرارة اللقاء بين الرجلين:

لما كان يالوم مقتنعا بعبارة جميلة لأندري جيد مضمونها أن “التاريخ هو رواية حدثت بالفعل، بينما الرواية هي تاريخ كان يمكن أن يحدث”، فقد حَبَك فصول روايته حول لقاء متخيل بين فريدريك نيتشه وجوزيف بروير كان على وشك أن يتم، لكنه وُئد في المهد، لقاء كان محتملا جدا أن يجعل هذه الرواية سردا لوقائع تاريخية فعلية لولا أنْ حالت الظروف الصحية لنيتشه في آخر وهلة دون تنقله لفيينا لملاقاة بروير . فالتاريخ، إذن، لم يسجل لنا هذا اللقاء ولم يوقفنا على تفاصيله، ليس عن غفلة منه أو تقصير، بل ببساطة لأنه لقاء لم يحدث أبدا. بَيْد أن عدم حدوثه لا يعني أنه لم يكن ممكن الحدوث، فكل الظروف كانت مهيئة لوقوعه، حيث خطط أصدقاء نيتشه في فيينا للقاء، وجمعوا المال الكافي لتدبير العلاج وضبطوا المواعيد مع الأصدقاء المقربين من نيتشه في ألمانيا…الخ، لكن الرياح جرت حينها بما لم تشتهيه سفينتيْ نيتشه وبروير، فما كان من إيرفين يالوم، إلا أن قام بتعديل اتجاه الرياح مجددا ليجعل هذا اللقاء ممكنا، ولو فَرَضا وعلى مستوى التخييل فقط، حتى لا يحرم قراءه المولعين بالفكر والمعرفة من حرارة وعمق لقاء تاريخي كهذا، فأطلعنا على بعض درر نيتشه الفلسفية وكشف لنا عن جوانب من شخصيته المعتمة، كما عرّفنا على جوزيف بروير، ملهم فرويد وقدوته، وعرض أمامنا بعضا من ألمعيته وحنكته في العلاج الطبي النفسي، فأمتعنا بنقاش شائق وعميق احتاج فيه كل من الفيلسوف والطبيب إلى شحذ أفكاره وانتقائها بعناية وتجهيز عُدَّته المنهجية لئلا يظهر بمظهر دوني لا يليق بسمعته. فبرع الطبيب وأجاد الفيلسوف واستفاد القارئ واستمتع. وهاكم تفاصيل الحكاية:

تبدأ الحكاية بدعوة تلقاها الطبيب النفسي ذائع الصيت خلال القرن التاسع عشر، جوزيف بروير من فتاة روسية تدعى لو سالومي، بعدما تَصادَف وجودهما معا بإيطاليا ذات صيف، تطلب فيها مقابلته بمقهى سورينتو لأمر طارئ لا يقتضي التأخير، وحالما تم اللقاء وزالت دهشة بروير، أخبرته لُو بأن مستقبل الفلسفة الألمانية على المحك، لأن الرجل الذي يُتوسم فيه أن يحمل مشعل الفلسفة الألمانية والعالمية يعاني ألاما فضيعة يختلط فيها العضوي بالنفسي، تُنغص عليه حياته وتدفعه إلى التفكير بجدية في الانتحار، وأنها ما طلبت لقاءه على وجه الاستعجال إلا لسابق علمها بعلو كعبه في الطب النفسي وانتشار صيته في أوربا كلها كأفضل من يفك شفرة الأمراض النفسية المستعصية. وهي إذ تطلب منه أن يساعدها على إسعاف صديقها، فإنها تهيب به أيضا أن يفعل ذلك بتكتم شديد ودون أن يأخذ المريض علما بالأمر، لأن هذا الأخير، بحكم قناعاته الفلسفية وحساسيته المفرطة، سيرفض الفكرة وسيرى فيها مظهرا من مظاهر الشفقة والعطف تأباهما نفسه. استغرب بروير لهذا الطلب العجيب والغريب؛ فهو الذي اعتاد أن يتهافت على عيادته علّية القوم وأخيارهم بعد أن يحدد لهم مواعيد مضبوطة بحسب ما يسمح به وقته، ها هو ذا يجد نفسه في وضع من يتوسل أو يستجدي شخصا ويتحايل عليه كي يأتي إلى عيادته ليعالجه من مرضه.

استخف بروير في البداية بطلب لو سالومي، صونا لكرامته وإنقاذا لسمعته، لكنه ما استطاع أن يصمد أمام قوة شخصية الفتاة الروسية وجمالها الصارخ الذي أربك كل حساباته وجعله يذعن دون وعي منه في الغالب لرغبتها في مد يد المساعدة لنيتشه وإسعافه من مرضه الذي هد كيانه ونخر جسده ودفعه إلى التفكير في الانتحار غير ما مرة. وكانت أول مشكلة واجهها بروير في علاقته بنيتشه هي أن يتمكن من كسب ثقته وإقناعه بجدوى علاجه وهو الذي فقد الأمل في الأطباء بعدما زار أزيد من أربع وعشرين من خيرتهم في مجمل أوربا.

وهاهنا تبدأ فصول حوارات شائقة وماتعة بين الرجلين على ما بينهما من تباين وصل حد التناقض أحيانا؛ إذ كان بروير يستشعر بداخله ثقة كبيرة في إمكاناته المعرفية والتواصلية يراها كفيلة بأن تسعفه في إسعاف مريضه من آلامه ومن تعاسته، وبالمقابل كان نيتشه يتسلح بتكتم شديد وبحرص مبالغ فيه على أن يظهر بمظهر القوة ويتجنب إثارة بوادر الشفقة والعطف لدى طبيبه.

هكذا تكلم الطبيبان

لم تكن مهمة بروير سهلة على الإطلاق في مواجهة مريض عنيد، يضرب طوقا على ما يعتمل بداخله ويأبى أن يُطلع عليه أي شخص كائنا من كان، ما اضطره إلى أن يقرأ بعضا من كتب نيتشه، كانت لو سالومي قد أمدته بها، عسى أن يتمكن من فهم طريقة تفكير الفيلسوف الألماني غريب الأطوار ويتوصل إلى مفاتيح شخصيته ومكامن ضعفه ونقاط قوته حتى يتسنى له الوصول إلى مكمن الداء الذي يذيقه من الألم ألوانا. وبالفعل ما هي إلا أيام معدودات حتى كان بروير قد تمكن من كسب احترام نيتشه، بما أبان عنه من ذكاء وفطنة في لقاءاتهما الأولى، فضلا عن موسوعيته الطبية وقدرته على تشخيص المرض انطلاقا من بعض الأعراض فقط. إلا أنه لم تكد تمضي بضعة لقاءات حتى قرَّ عزم نيتشه على الرحيل بعدما نفد ما كان بحوزته من نقود قليلة، واقتناعه بأن أمر علاجه يبقى مسألة بعيدة المنال ولا تنفع فيها وصفات طبيب ولو كان من عيار بروير ذائع الصيت. وعبتا حاول بروير ثنيه عن الرحيل؛ فلا كياسته، ولا كلماته القوية التي كانت أشبه بتوسلات منها بنصائح طبيب، كانت ذات جدوى في إقناع نيتشه بالعدول عن قراره. انتهى الأمر وحمل الفيلسوف حقيبته وغادر عيادة طبيبه واتجه صوب الفندق الذي يأويه، ليبيت ليلته الأخيرة ثم يلملم أغراضه ويشد الرحال صوب جنوب إيطاليا طلبا للدفء والحرارة اللذين كان جهازه العصبي في حاجة ماسة إليهما،

ولئن كان ذلك ما اعتزمه في قرارة نفسه، فإن تصاريف القدر كان لها رأي آخر؛ فقد شهدت تلك الليلة، التي كان يُفترض أن تكون الأخيرة لنيتشه بفيينا، حدثا مفاجئا سيغير من طبيعة الأحداث وسيجعل العلاقة بين الرجلين تعود إلى الحياة مجددا بعدما كادت تخبو وتنطفئ جذوتها؛ يصاب نيتشه بنوبة جديدة من مرضه المعتاد، يدخل على إثره في غيبوبة مصحوبة بتشنجات وآلام فضيعة، فيهرع صاحب الفندق، في الخامسة صباحا، وفي جو لم تتوقف خلاله ندف الثلج عن السقوط، نحو بروير بعدما عثر على بطاقته في جيب سترة نَزيله، ليطلعه على مصاب نيتشه واستفحال وضعه الصحي، فلم يجد بروير بُدا من تلبية الدعوة، بل يمكن القول أنه سُر بالخبر لأنه رأى فيه استجابة لما كان يرغبه ويتمناه، وهو أن يطول مقام نيتشه بفيينا وتتاح له فرص أخرى للقاء به مجددا.

في غرفة الفندق التي كان لها شرف إيواء الفيلسوف الألماني، سيكتشف بروير وجها آخر لنيتشه، وجها عبر عنه لاوعيه الخفي الذي كان يداريه بعناية وبإصرار عن الناس مخافة أن يعطفوا عليه أو يشفقوا على حاله؛ ولم يكن هذا الوجه غير نيتشه الإنسان، المفرط في إنسانيته، نيتشه الضعيف الذي يطلب العون ويرغب في أن يساعده الغير على تجاوز محنته وهو الذي لم يكن يتواصل إلا مع جهازه العصبي بعدما ذاق مرارة الخيانة ثلاث مرات من قبل. يؤدي بروير واجبه تجاه مريضه بعناية كبيرة وبحرص شديد استوجب منه عيادته، على ضيق وقته، مرات عديدة طيلة اليوم وعلى مدار أيام، حتى شفي نيتشه من آلامه وعادت إليه عافيته قليلا.

هذه الوعكة التي ألمت بنيتشه ستعيد لبروير بارقة الأمل في أن يطول أمد علاقته بنيتشه وينهل أياما أخرى من فيض علمه وغزارة ثقافته، وقد أسرّ بذلك لصديقه سيجموند فرويد قائلا:”ما أرومه يقوم على ثلاث خطوات؛ أولها أن أنسج مع نيتشه علاقة طيبة، فهذا الرجل يمتلك شخصية تأسر كل من يقترب منها، شيئا أعجز عن تفسيره، هو أشبه بكيمياء فوق طبيعية تجعلني أجد فيه شيئا مني؛ وأن أتمكن ثانيا من إقناعه بقضاء عدة أسابيع بأحد المراكز الاستشفائية تحت إشرافي لأتمكن من تتبع حالته المرضية عن كثب وإيجاد العلاج الناجع لها؛ كما أتمنى، أخيرا، أن أتمكن خلال هذه الفترة تحديدا من رؤيته بانتظام حتى يتسنى لي أن أحادثه مطولا بخصوص حالة اليأس والقلق التي تعتريه وتدفعه إلى التفكير في الانتحار، لكن أخشى ما أخشاه أن يرفض التعاون معي ويعود إلى الانزواء في عزلته والتحصن بوحدانيته التي يقدسها”. وما خاب توقع بروير بمريضه، إذ سرعان ما عاد نيتشه إلى سابق عهده وأصر على الرحيل لأنه لم يجد مبررا لبقائه فترة أخرى، خصوصا بعدما عجز بروير عن إقناعه بأسباب اهتمامه اللافت به، وعنايته المبالغ فيها بصحته، لا سيما وأن نيتشه يؤول كل تعبير عاطفي إيجابي تجاهه باعتباره رغبة في السيطرة عليه، بل ولديه قناعة تامة بأن المرء إذا ما أعمل عقله في الحياة بعمق فإنه سيدرك أنه لا أحد مطلقا يقوم بفعل لصالح الآخرين، بل كل فعل نقوم به إلا ويتجه نحو الذات، ويخدم الذات، فكل حب لا يحب إلا نفسه، كما يقول. وهنا لم يجد بروير مناصا من أن يضع أمام مريضه صفقة تبادلية ترضي كبرياءه وترفع عنه الإحراج الذي يستشعره بداخله تجاه ما يغدقه عليه بروير من رعاية واهتمام، صفقة تقوم على أن يكون بروير طبيبا لجسد نيتشه خلال شهر كامل، يتركز عمله في تتبع الأعراض الفيزيائية للمرض وتعيين الدواء الكفيل بالقضاء عليه أو التخفيف من حدته على أقل تقدير، على أن يكون نيتشه في المقابل طبيبا لروح بروير وفكره؛ بعبارة أخرى أراد بروير أن يقايض علاجه الطبي بفلسفة نيتشه، على أن المقصود بالفلسفة هنا ليس أن يعلمه مضامين فلسفية نظرية، وإنما أن يستخدم نيتشه حكمته الفلسفية العميقة في علاج بروير من يأس يكابده في صمت ولا تظهر ملامحه في الخارج ولا يحس به حتى أقرب المقربين إليه، بالنظر إلى حياة البدخ والرخاء التي ينعم بها والتي تضفي عليه مظهر الإنسان السعيد المبتهج بوضعه وبحياته. وهذا اليأس يعود في المقام الأول إلى تمزق داخلي كابده بروير سنوات عديدة، يعزى إلى كونه يعيش جسديا بين أحضان زوجته وأبنائه الخمسة، بينما تفكيره مستلب تماما من فتاة تدعى “أنا أو” (واسمها الحقيقي “بيرتا بوبنهايم”) قضى سنوات طوال يعالجها من حالة هيستيرية ألمت بها، فشفيتْ هي ولم يُشْفَ هو من حبها، فبقيت صورتها رابضة بذهنه لا تبرحه أبدا إلى درجة أن يومه كان موزعا بين فترتين زمنيتين لا ثالث لهما: رؤية بيرتا وانتظار رؤيتها، وظل على هذه الحال حتى بعدما أسلم مقاليد علاجها لطبيب آخر جرّاء غيرة زوجته وتذمرها من هذه العلاقة المشبوهة التي كثر حولها لغط ساكنة فيينا لاسيما بعدما اتهمت بيرتا طبيبها جهارا بحمل وهمي.

وبعد طول سجال بين الرجلين، إلحاح وإصرار من قبل بروير، ورفض وصد من قبل نيتشه، انتهى الأمر بهذا الأخير إلى قبول الرهان، فعُقد الاتفاق بينهما، وبدأت فصول حوارات عميقة ماتعة، يقوم فيها طبيب الأجساد بتنظيف ما يعتمل بداخله عبر الكلام، ويتكلف طبيب النفوس بالتفسير والتأويل والربط بين الأحداث والوقائع للتمكن من وضع اليد على مسوغات التعاسة التي تتلبس بمريضه. وهكذا شرع الرجلان في تنفيذ ميثاقهما؛ يراقب بروير كل صباح وضع نيتشه ويمده بأدويته اللازمة، ثم يتحول بعدها إلى مريض ينظف داخله عبر الكلام بين يدي نيتشه، يتكلم بروير ويتكلم ويحثه نيتشه على مزيد الكلام وبين الفينة والأخرى يقاطعه ليستفسر عن شيء أو يستجلي حدثا غامضا وهكذا. مرت الأيام تلو الأيام، ورأى نيتشه أن بروير لا يعيش الحياة التي يرغبها، فلا الزواج أسعده ولا أبناؤه الخمسة ولا وظيفته كطبيب مشهور ولا النعيم الذي يرفل فيه، كل هذا لا يساوي شيئا أمام الحب الذي رغب فيه رغبة شديدة وضيّعه، فتحولت تلك الرغبة المكتوبة إلى نوستالجيا بطعم المرارة تخيم بصورة قاتمة على مجمل حياته مُدخلة إياه في يأس دائم لا يعرف منه فكاكا. ما الحل إذن؟ الحل الوحيد، يقول نيتشه لمريضه، أن تمتلك زمام قَدَرك وتتحكم في دفته، لا أن تدع نفسك تحت رحمته يسير بك نحو حياة لم تخترها وعليك تحملها. وعليه، فلا حل أمامك سوى أن تترك هذه الحياة وراء ظهرك، وتشرع منذ اللحظة في بدأ غمار حياة جديدة تستجيب لطموحاتك وتلبي رغباتك، لتسكن نفسك ويهدأ هدير لواعجك، وتتحرر روحك من أصفاد لازمتها سنوات طوال، وتفك أسرها من روتين جثم عليها منذ أربعين عاما حتى اعتراها الصدأ وشاخت ووهنت قوتها وخار عزمها على طلب السعادة. لا حل أمامك يا صديقي، قال له نيتشه، سوى أن تتشبث بتلابيب حبك ففيه خلاصك وفيه سعادتك المفقودة. أنصت بروير بإمعان للعلاج الذي وصفه له طبيبه نيتشه وأعطاه وعدا بأن يلتزم به، لكنه افتقد للشجاعة المطلوبة في مثل هذه المواقف، وغاب عنه الإقدام لأنه كان شديد الحرص على الخروج بأقل الخسائر من هذه التجربة، فعقد العزم على أن يعيش حياته الجديدة التي نصحه بها نيتشه استيهاميا، فطلب من صديقه وتلميذه فرويد أن يدخله في تنويم مغناطيسي يرخي بموجبه العنان للاوعيه ليعيش الحياة الجديدة، فتبين له بعد ساعة ونيّف من التجربة أن الحياة المتخيلة المأمولة لم تكن البتة أفضل ولا أبهج من تلك التي عاشها حقيقة، وأن أحلامه أو أوهامه، والأمر سيان، كانت موغلة في الطوباوية ومسرفة في الأمل، وأن الامتلاء المزعوم الذي كانت تلوح به سرعان ما استحال إلى خلاء حقيقي أليم؛ والحال أن السعادة الحقيقية تكمن في أن نحب مصيرنا ونستعيد الرغبة في حياتنا، لأنه طالما بقي موضوع رغبتنا بعيدا عنا، فهو يبدو لنا أسمى من البقية، ويبدو لنا ما بأيدينا شيئا مضجرا لا يلبي طموحاتنا، وبهذه النتيجة يكون بروير قد سبق نيتشه لاكتشاف “حب القدر أو المصير Amour Fati” حتى قبل أن يتمكن هذا الأخير من صياغته بصورة صريحة.

نيتشه: دموع الألم.. دموع الأمل

عاد بروير إلى لقاء نيتشه جذلانا فرحا، وأخبره بشفائه، وأغدق عليه الشكر بحكم أنه صاحب الفضل في شفائه بعدما أشار عليه بخوض غمار تجربة حياة جديدة، لكن المريض كان أكثر ذكاء، أو أكثر مكرا، من طبيبه، وتمكن من أن يختبر قراره من دون خسائر تذكر، بل خرج من تجربته ظافرا غانما وعاد إليه صفاؤه المفقود، وهو ما أصاب نيتشه بخيبة أمل وتلبسه حزن غير مفهوم؛ ألم يكن حريا به أن يفرح لشفاء مريضه! أليس الصواب أن ينتشي ويفخر بما حققته طريقته في العلاج من نتائج مذهلة! الحقيقة أن حزن نيتشه مرده إلى أن الميثاق الذي جمعه ببروير كان ينص على أن يتعافى الطرفان معا مما بهما من علة، وقد شُفي بروير بينما لايزال هو على حاله. وهاهنا ستنقلب الأمور، وللمرة الأولى سيتخلى نيتشه عن كبريائه ويطلب العون من بروير صراحة، مناشدا إياه أن يخبره كيف تأتى له أن يصرف صورة بيرتا من ذهنه ويتحرر من طيفها نهائيا. وكان جواب بروير بسيطا وواضحا لا لبس فيه، عليك أن تنظف داخلك يا صديقي، لأن مرضك ذهني أكثر مما هو عضوي، حرر نفسك من أغلالها وبُح لي بما يعتمل بداخلك وتحجبه بإصرار عن الأنظار، تخلى عن قوتك الموهومة لتستعيد قوتك الحقيقية، ولن يحدث ذلك إلا من خلال العلاج بالكلام، تكلمْ يا صاحبي وأنا كلي آذان صاغية. فما كان من نيتشه إلا أن أذعن واستسلم؛ فأخذ موضعه من أريكة كانت على مقربة منه، وأغلق عينيه، وأخذ نفَسا عميقا ثم بدأ في البوح والاعتراف؛ استعاد ذكريات علاقته الجميلة بلو سالومي، واللحظات الخاطفة الرائعة التي جمعته بها وجعلته ينجذب إليها بعدما وجد فيها ما افتقده في غيرها؛ الذهن الوقاد، والعاطفة الفياضة والطموح غير المحدود والفكر المتحرر، كما استعاد خيانتها له وتفضيلها لصديقه بول ري، وتذكر الدور الخبيث الذي لعبته أخته لنسف هذه العلاقة، باختصار خلال جلسة واحدة أخيرة فاضت الذاكرة بنيتشه فأخرج ما ترسب في جوفه وما ظل ثاويا لسنوات في أعماق قلبه المنكسر، حكى بحرارة وبمرارة كأنما كان يريد أن يطهر نفسه من أدران علقت بجلده وروحه، أو كأن ذاته كانت تولد في تزامن مع لحظات الحكي ونزيف الذاكرة، وبعدما أفرغ جراب ذاكرته حدث ما لم يكن في الحسبان: دخل نيتشه في نوبة بكاء، انساحت على إثرها الدموع على خديه جارفة معها ركاما من الضعف المكتوم المغلف بمسحة من القوة الوهمية، زاد من انسياحها كلام بروير اللاذع والمستفز في آن، والذي حاول من خلاله أن يوقف أوهام نيتشه حول لو، ويدفعه إلى مسحها نهائيا من ذهنه، وكلما أعرب بروير عن حقيقة صادمة من قبيل أن لُو صرحت بأنها لا تتذكر أنها قبَّلته يوما على خلاف ما يدعيه هو (أي نيتشه)، أو أنها ما أحبت شخصَه أبدا بقدر ما أحبت فيه ذكاءه المتوقد وعمقه الفلسفي، كلما ازدادت الدموع انهمارا على الخدين، حتى بدا نيتشه في ختام هذه المناقشة بسحنة امتزجت فيها ملامح الانكسار بالانتصار؛ كمن تحرر من كابوس جثم على نفسه فقض مضجعه و زاد سواد ليلته سوادا، أو بالأحرى كمن تخلص من قيد طال أمده فخلّف ندوبا وشروخا غائرة وجراحا ناتئة حطمت النفس وكبرياءها وأغارت على الباطن فصيَّرته حطاما وركاما يحمله جسد متعب أشبه بعظام نخرة. هذا ما عاينه بروير على ملامح نيتشه، رأى إنسانا منكسرا لكن بسيماء المنتصر الذي عاد من جديد إلى الحياة ولسان حاله يقول ما قاله زرادشت: “إنه محكوم علي دائما أن أتفوق على ذاتي (…) وأيا كان الشيء الذي أخلقه، ومهما يكن حبي له كبيرا، فسرعان ما سأنقلب ضد حبي له، هكذا تبتغي إرادتي”.

انتهى اللقاء بين الطبيب والفيلسوف، أو بين الطبيبين إن صح التعبير، بشفاء الرجلين من تعاسة جثمت على نفسيهما لفترة طويلة من الزمن، سببها امرأتان، بيرتا بوبنهايم بالنسبة لبروير ولُو سالومي بالنسبة لنيتشه، وتوادعا بعناق حار يشي بأن ما جمع بينهما خلال شهر تقريبا كان أكثر مما يحدث عادة بين طبيب ومريض، فقد كان على الحقيقة لقاء إنسانيا جمع بين رجلين عظيمين كل في مجاله، وتلك العظمة الفكرية هي ما تنضح بها الصفحات الخمسمائة من رواية يالوم الذي عودنا في كتاباته على إبداع لا يعرفه أسراره إلا هو، لأنه ليس متيسرا على كل مبدع مهما كانت قدرته على ترويض الكلمة أن يجعل من كتاب في الطب النفسي أو في الفلسفة رواية تقرأ بشغف.

* العنوان الأصلي للكتاب هو: « When Nietzsche wept »، أما عنوان النسخة الفرنسية التي اشتغلنا عليها فهو:

Irvin Yalom, Et Nietzsche a pleuré, trad. Clément Baude, Galaade éditions, 2007

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.