حياتي لأعيشها
إسماعيل العليوي سوريا – لمانياأ ألمانيا
أعر نفسك للآخرين , لكن أعط نفسك لنفسك.
يفتتح الفيلم مناخ التساؤل بهذه العبارة المقتبسة عن مونتين، يضعنا غودار بها مباشرة في مواجهة ثنائية ( الآنا والآخر . الروح الجسد ) بهدف إعادة تفكيك هذبن المفردتين و مناقشة دلالتهما عبر سياق فيلم شائك مؤلف من 12 قطعة سينمائية، تمثل كل قطعة عملا فنيا جادا لدرجة الإرباك. كما تبقى مفتوحة دائما على تأويلات جديدة، و مقاربات دلالية مختلفة.
ذلك أن جان لوك غودار يحفر في حقول معرفية مختلفة و متنوعة يصعب استقصاؤها في مادة واحدة.
إذ هو أحد المحاور المفصلية في تاريخ السينما من جهة , و من جهة أخرى يمكن الحديث عنه بوصفه فيلسوفا يمتلك الوقاحة الضرورية لاقتحام اللامفكر فيه و خلخلة الأسس التي تنبني عليها بديهيات كل فكر .
من بين جميع الموضوعات التي يطرحها غودار ثمة تساؤلين رئيسيين يحددان ملامح فلسفته، سؤال اللغة، ثم سؤال الحدث – الواقع، وذلك عبر تسليط الضوء على الأحداث المهمشة و المسكوت عنها في التاريخ .
سؤال اللغة يبدو حاضر في جميع أفلام غودار حتى أن فيلمه الأخير كان يحمل عنوان: وداعا لللغة.
فهذا المخرج ينتمي لجيل من مثقفي فرنسا أبرزهم ميشيل فوكو القائلين بأن اللغة أو الكلمات لا تمتلك الدرجة ذاتها من الوضوح و بأنها تستخدم في سياقات مختلفة و بدلالات متفارقة.
لماذا لابد للمرء أن يتكلم.
دائما يؤثر على حقيقة أننا لا نستطيع العيش بدون كلام .
لا تسألوا ما الذي جاء أولا الكلمات أم الأشياء.
لا أحد يعرف في الحقيقة اللغة، لا يعرفها تماما، على الأقل علينا التفكير، وللتفكير نحتاج اللغة . ما من طريقة أخرى للتعبير .
تتحول هنا اللغة إلى المشكلة الأساسية في أي مقاربة نقدية للثقافة أو للسلطة بمعناها الواسع باعتبار أن أي نظام ثقافي سياسي يسود أي مجتمع يستند لمجموعة نصوص، أي لغة، تتمكن عبرها المؤسسات مهما بدت أنها محايدة أن تمارس سلطة على الفرد ليس بالمعنى السياسي
فقط بل حتى بالمعنى الجسدي ( سجن، رغبات محاصرة، فرد يخضع لنظام صارم من المراقبة )
يبدو فيها الفرد مغتربا عن ذاته ( في مشهد استجواب نانا أمام الشرطة تنهي حديثها بعبارة: أنا شخص آخر ).
لذا يبدأ التمرد على الفكر بخلخلة اللغة التي يبنى عليها أي خطاب باعتبار أن اللغة بهذه المقاربة تعني الفكر، ولأن للفرد دور هامشي في حياة المجتمع نجد أن شخصيات غودار في مجملها ضحايا لتفكيرها، وكأن الفكر يؤسس للموت، أشار غودار لذلك عدة مرات في الفيلم كقصة الفرسان الثلاثة التي يرويها الرجل الغريب في المقهى لآنا كارينا و التي تنتهي بموت البطل عند أول لحظة تفكير له .
أيضا نذكر أن نقطة تحول نانا ( آنا كارينا ) في الفيلم كانت وهي تشاهد فيلما سينمائية عن جان
دارك تلك القديسة التي ماتت حرقا بتهمة الهرطقة (الفكر) . ونانا ستواجه المصير ذاته حين تبدأ بالتفكير محاولة أن تحدد وجودها بصياغة مختلفة عما يريده الآخرون .
النقطة الأخرى التي يمكن الحديث عنها في سياق الفيلم نظرة غودار إلى الحدث وزمنه أو بمعنى آخر إلى التاريخ الذي يعني في مجمله مجموعة من الأحداث .
وهنا نلاحظ تأثير كبير لمجلة الحوليات الجديدة الفرنسية على غودار، فالتاريخ عند هذه المدرسة وبشكل خاصة كما ظهر في كتابات مارك بلوخ و لوسيان فيفر ( مؤسسي الحوليات الجديدة) لم يعد اتصاليا يؤرخ للحقب الزمنية الطويلة أو الأحداث الكبرى كما في التاريخ التقليدي الذي يكاد يكون تاريخ ملوك وحروب و يتسم دائما بسمة سياسية أو عسكرية .
غودار أميل للحديث عن انفصالية الزمن التاريخي، ويركز على الجوانب المهمشة أو المسكوت عنها أثناء كتابة التاريخ .
من خلال قصة نانا في هذا الفيلم نستعرض الوضع الاجتماعي و السياسي و القانوني للعاهرات في عدة مراحل تاريخية و على أكثر من صعيد في الحياة الفرنسية، أي أن ما يحرك التاريخ عند غودار هذه التفاصيل الصغيرة التي تشكل الهامش أو المغيبة أو اللامفكر فيها، في حياة كل مجتمع.
يقول بول فاين : الحقل الحدثي ليس مجموعة من المواقع نزورها، وندعوها أحداثا، إن الحدث ليس كائنا أو مواضيع طبيعية، بل هو حصيلة اقتطاع حر نمارسه داخل الواقع، وبالتالي فإنها لا تتمتع بأي وحدة أصلية.
وهذا ما مارسه غودار عبر تحويل الهامش إلى حدث رئيسي، و بر خلخلة البنية التي يتركب منها الزمن أو الحدث السينمائي (بداية , منتصف , نهاية ) بحيث يبدو أن الزمن مفككا، منفصلا، ومقطوعا بشكل مربك وربما فجا أشبه بصفعة نبحث من خلالها عن الرابطة التي تجمع بين الأحداث داخل الحيز الزمني وعن الدلالة العامة التي تنتهي بتشكليها لوحات غودار السينمائية .