الرئيسية | حوار | حوار مع الباحث المغربي رشيد الحاحي | إعداد وتقديم: أحمد بوزيد

حوار مع الباحث المغربي رشيد الحاحي | إعداد وتقديم: أحمد بوزيد

إعداد وتقديم:الكاتب والباحث المغربي أحمد بوزيد

لا يني الكاتب والباحث المغربي رشيد الحاحي من الإقامة في مواقع معرفية شاقة لتأمل العلامة والاشتباك مع الاثر بحواس خبرت حاجته لنظر يتعالى عن مقاسات المنهج و ارغاماته، فلم يكن انحياز الباحث للسيميولوجيا إلا مسلكا من المسالك الممكنة التي تفضي إلى دلالات الدلائل والعلامات  التي تمارس حضورها في اليومي، وبذلك استطاع أن يتيح لها المعابر لتجدا حيزا في أرض المعرفة ومدارج السؤال، ويكتسي كتاب ” النار و الاثر ” أهمية مرجعية ككتاب انصرف إلى العلامة و الأثر المغربيين  على وجه الخصوص  قراءة وتأويلا ، وبمعرفة نقدية تعي حدود مفاهيمها وفي الآن ذاته تمون مساراتها بالقلق واللاطمأنينة حيال آليات القراءة كي لا  تخرج عن دائرة الإنصات العميق  لنداءات العلامات، لا يرتبط اشتغال رشيد الحاحي على الأنظمة الدلالية البصرية بما يمليه التاريخ الشخصي فحسب  كباحث في التشكيل ،كما لا يتعلق بانتساب الذات إلى السلالة التي رأى محمد خير الدين أنها تضع النار في يد الأحفاد؛ النار المجازية التي قد تحرق مسافة السؤال و الوقاية ؛ فيتموقع خطاب الذات في دائرة الأهواء المتصلة بالهوية الناجزة بما هي تعال عن الشرط الإنساني ، بقدر ما ينظم الأمر كله سؤال التفكيك الذي طبع اشتغاله على خطابات مختلفة من ناحية قصدياتها ومن ناحية آليات تشكلها، إنه حفر دائم لتشكيل المتخيل الثاوي خلف حركة الإنسان في اليومي و الأسئلة الحارقة التي تفضي به إلى توليد رؤيته إلى العالم.

رشيد الحاحي :

الكيان الإنسي المغربي، وفي صلب هويته الأمازيغية، هو في حاجة إلى استكشاف مقوماته المتعددة وفهم وإدراك مختلف عناصر وجوده الرمزي

1 يلاحظ عنايتك الاستثنائية بالأنظمة الدلالية البصرية واشتغالك عليها استنادا إلى مقاربات سيمولوجية ، ما مرد هذا الاشتغال وما طبيعة العلاقات الوجدانية التي تجمعك بها.

– نعم، يعود اشتغالي بالسميولوجيا والأنظمة الدلالية في البداية  إلى تكويني العلمي والفني  والبيداغوجي المرتبط بمجال الفنون التشكيلية والبصرية، والبحوث التي أنجزتها في هذا السياق،  ونعلم أن الصورة بجل أنواعها ووسائطها تندرج ضمن مجالات الإنتاج والتواصل البصري المتصلة والمتقاطعة كثيرا مع حقول التعبير التشكيلي والبصري الحديثة،  بما في ذلك الفوتوغرافيا والصورة الالكترونية والتلفزية والإشهار …، ولتحليل الإرساليات  والخطابات التي  تحملها وتمررها هذه الوسائط والصور  تتقدم السيميولوجيا باعتبارها  علم الدلالة كحقل معرفي ومنهجي حديث  يمنح إمكانيات التحليل العميق والحفر الدلالي خاصة أنها تسمح بالتفاعل المعرفي والمنهجي بين مجالات معرفية متعددة كاللسانيات والتحليل النفسي والسوسيولوجيا والأنثربولوجيا…، مما يسمح بنوع من الفعالية المعرفية والمنهجية في تحليل الأثر واستكشاف الدلالات والرمزيات الثاوية خلف وفي عمق  الأثر والمنجز اللغوي والبصري.

ولا أخفيك أنه انطلاقا مما ذكرت، وباستحضار تكويني واشتغالي في البدايات مند  التسعينيات على الأسس النظرية لسيميولوجيا الصورة وأنظمة العلامات البصرية، فهذا الاختيار كان موسوما بنوع من  دهشة ولذة  المعرفة والاستكشاف والتفكيك، وقد اشتغلت كثيرا على كتب وإصدارات الناقد والسيميولوجي الكبير رولان بارث الذي أعتبره، إضافة إلى إسهامات أمبرطو  إيكو  اللاحقة، مؤسس السيميولوجيا البصرية، بما في ذلك “بلاغة الصورة” و”الغرفة المظلمة” “وإمبراطورية العلامات” وتحليل ملصق بونزاني…مما منحني سعة المنظور وتكشف لذة ركوب مغامرة البحث في المعنى وعن المعنى، ولعل هذا ما يفسر كوني أهديت كتابي الأول الصادر سنة 2003 وهو بعنوان “الفن والجسد والصورة” لروح رولان بارث.

 والحديث عن السيميولوجيا وقراءة الأنظمة الدلالية الرمزية، وعن رولان بارث، يقود لا محالة  إلى الحديث عن عبد الكبير الخطيبي  ومشروعه الذي أعتبره شخصيا من أهم ما أنتجته الساحة الفكرية المغربية في اختلافها الذي لم  يكنمل ولم يتحقق بعد للأسف، حيث كان لاشتغالي على مشروعه الفكري النقدي و الاختلافي، الذي انطلق من الثقافة المحلية والأنساق الدلالية الهامشية والذاكرة الموشومة والجسد الجريح…، الأثر الكبير في بناء رؤية تحليلية تشمل  الإنتاج البصري  والتشكيلي الحديث وكذا الأنظمة الثقافية  والرمزية الدالة، والانتباه إلى ذلك الكم الهام من الانتاجات والحوامل والأشكال التعبيرية والرمزية التي  تمنح إمكانية تكشف الأبعاد الدلالية والجمالية ومقومات المتخيل الثقافي والاجتماعي للأفراد والجماعات والثقافات التي أنتجتها. إنها بدايات إدراك جرح الجسد والهوية ومقومات التعدد والمغايرة والاختلاف، ومن تم كل الكتابات والانشغالات الفكرية والإبداعية التي طبعت مساري البحثي والثقافي إلى اليوم.

2 يهتم منجزك النقدي بخطابات مختلفة من حيث وسائط تشكلها ” الخطاب الأدبي، الخطاب السياسي، الخطاب التشكيلي” إلى أي حد يستطيع هذا الاشتغال العلمي الانحياز لوظيفته النقدية واستراتيجياته التفكيكية التي تدرأ عنه السقوط في خانة الموسوعية .

– هذا سؤال وجيه كثيرا ما راودني، وأعلم أنه مطروح علي، وجوابي واضح حيث أعتبر أن اشتغالي المتعدد على الخطابات البصرية والاجتماعية والسياسية، ليس اشتغالا على خطابات متباعدة وفي دوائر منفصلة ومعزولة كما قد يبدو للقارئ والمتتبع العادي الذي يعتقد بالفروق والتمايزات الشكلية والمجالية، بل هو امتداد للمنظور التحليلي والدلالي الذي يؤطر معرفتي وكتاباتي، وقد أقول أن المقاربة السيميولوجية وملاحقة التباسات الدال والمدلول واقتفاء أثر المعنى وانفلاتاته، هي التي تسمح بالانتقال المتصل بين عدة أنظمة دلالية وحوامل خطابية دون السقوط في ما سميتموه بخانة الموسوعية بحمولتها السلبية كما يتضح من قصدكم.

فالانشغال بالواقع في انذهاليته بالمعنى البودرياري، والانخراط الفعلي في الحياة  بكل تضاريسها الوعرة وإيقاعاتها المتحولة، يفضي إلى التورط في مسارات الدلالة وإنتاج المعنى من جهة، وفي مغامرة التحليل والتفكيك ومحاولة فهم ما يجري من حولنا، من جهة أخرى، وفي مستويات معينة قد تنمحي الحدود التقليدية وتنفتح الرؤية على اللامتداد والتصادي والتقاطع،  خاصة إن كانت الأدوات المعرفية وإمكانيات التحليل والنقد تسمح بذلك، ولا يمكن أن تستكين إلى الموضوع الثابت والمحدود جدا، ولا أن تنكفي بدوامة التخصص المحدود جدا مدى الحياة الذي كثيرا ما تحول إلى دائرة مغلقة للتكرار  والكتابة أو الحرفة الباردة، وأحيانا لإنتاج السطحية واللا معنى. دعني أؤكد  على وظيفة الباحث المثقف الذي يمتلك أدوات التحليل وينتج المعرفة، وينخرط في أسئلة الراهن والتحول في دوائر وجوده،  لكن في إطار رؤية ومشروع قد تتبدى عناصر تكامله مع تراكم الإنتاج والمسار.

ذكرت قبل قليل الأستاذ عبد الكبير الخطيبي، وكما نعلم فمشروعه متعدد الأبعاد ومجالات الاشتغال، فبين إنتاجه الفكري الهام جدا، خاصة اشتغاله النقدي المزدوج على الثقافة المحلية وعلى الغرب كأفق حضاري وثقافي وعلى المغرب المتعدد، وكتاباته النقدية في مجال الفنون التشكيلية ورواياته الأدبية، وانتهاء بمقالاته في السياسة والمجتمع…، ثمة ترابط وامتدادات ولعل عنوانها هو كونه باحث ومبدع مثقف يمتلك المعرفة ورؤية ومن تم  مشروعا.

يحضرني أيضا الاسم الكبير ريجيس دوبري، فعندما نتوقف بوعي معرفي ومنهجي عند كتاباته وإنتاجاته ومهامه على امتداد أكثر من نصف قرن، يتضح ذلك الخيط الناظم وأفق النظر الذي يصل مثلا، بين مذكراته وبين كتاباته في مجال الصورة خاصة “حياة وموت الصورة”  ونصوصه التقديمية لكتالوكات الفنون التشكيلية، وبين مضامين اشتغاله وفريق مجلة “ميديولوجي” على الخطابات وتحولات المجتمعات الوسائطية والعالم المعاصر، وصولا إلى آخر كتاباته في الرأي وحول الصورة الإعلامية وظاهرة الجهاد المتفجر  وأمريكا ترومب…

3 وأنا أتأمل تأويلك للأثر التشكيلي الأمازيغي بمفهومه الموسع الذي ينظر إليه كممارسة ملتصقة باليومي، يحضرني حديث بول ريكور عن الهوية السردية، قياسا على ذلك هل تؤشر تلك الدلالات على هوية بصرية خاصة، وأي معنى تتخذه هذه الهوية البصرية ، أهي هوية ناجزة أم أنها مسار دينامي مفتوح على إمكانات لانهائية ودائمة التشكل.

– بما أنه يمكننا الحديث عن اللغة وأنظمة علامات  بصرية، فيمكن أن نستعير من السيميائيات اللسانية، ويعود الفضل في ذلك إلى فرنورد دوسوسير الذي تنبأ بعلم  دلالة أشمل تصير اللسانيات جزء من  جهازها المفاهيمي في تناول ومقاربة الخطابات والإرساليات التي تنتجها وتحملها الأنساق الأخرى، ومن تم إمكانية الحديث عن النص البصري والسرد البصري أو التشكيلي وغيرها… ونعلم أن الهوية السردية بمفهوم ريكور، التي أثرتها في سؤالك، ليست قارة ولا ثابتة أو نهائية بل يمكن دائما أن تنضاف إلى موضوعها أوسام وعناصر جديدة ومختلفة بل ومتناقضة، وبهذا المعنى فالهوية السردية كما يقول،  لا تتوقف عن تكوين عناصرها وعن التخلص منها. هل ينطبق هذا على الأسناد الدلالية المرتبطة بالثقافة والفنون الأمازيغية  التي حللتها واستكشفت بعض أبعادها الرمزية والمتخيلة في كتابي “النار والأثر”؟

يصعب الحديث عن هوية بصرية خاصة أو خالصة، لكن الأسناد والأشكال التعبيرية التي اشتغلت عليها تعتبر جلها إنتاجات تراثية، كالنسيج والتشكيل والمصنوعات اليدوية والمعمار والموسيقى والحكاية…، ويمكن القول أنه عند تحليل التراث تتضح مقومات الخصوصية لأن الشروط الثقافية والاجتماعية والمجالية نادرا ما كانت تسمح بالتثاقف والتبادل، كما أن  المقاربة التأويلية التي اعتمدتها  تزاوج بين الرؤية السيميولوجية والأنثربولوجية  مما يمكن من تحليل  ما سميته عملا بمنهاج  الأنثربولوجي الكبير جلبير ديرون “البنيات الأنتربولوجية للمتخيل” والفعالية الرمزية التي تميز ثقافة معينة عن غيرها. وقد أشرت في خاتمة الكتاب إلى أن هذه المقومات الرمزية والمتخيلة التي تشكل عناصر هوية ثقافية، تمنح إمكانيات هامة للاشتغال والإبداع المعاصر في مختلف الحقول الفنية والتعبيرية والصناعية، في إطار تصور دينامي وتفاعلي وخلاق للهوية والرمزية الثقافية يستجيب لحاجيات وانتظارات الذوق الحديثة  وشرط المعاصرة.  وثمة أفق واسع ومجال بكر وخصب للاشتغال وفق هذا التصور الحديث في العديد من مجالات الإبداع البصري كفنون الصورة والسينما والتصميم والديزاين  الصناعي والمجالي والوسائطي والتهيئة والمعمار…

4 خصص كتاب “النار والأثر ” هامشا واسعا للجسد وتجليات حضوره في التشكيل والكتابة، و إذا علمنا أن الجسد المعني ينتسب إلى الثقافة الأمازيغية ، أثمة إمكانية للحديث عن جسد أمازيغي له متخيل مخصوص ونظام ثقافي يحكمه.

– الحديث عن رمزية الجسد وعن أنظمة العلامات الدالة سواء اللفظية أو البصرية هو ذات الحديث، والخلاصة التي أشرت إليها قبل قليل هي نفسها بالنسبة لإمكانية الحديث عن جسد أمازيغي له نظام ثقافي خاص. لكن أعيد التأكيد على أهمية البنيات الأنتربولوجية للمتخيل التي حاولت الحفر في عناصرها الرمزية والدلالية انطلاقا من تحليل وتأويل عدة أسناد وانتاجات فنية وثقافية تراثية وطيدة الارتباط بلغة وبلاغة الجسد الذي يمكن اعتباره وسيطها العضوي والسيميائي، ومن تم إمكانية اعتبار تلك العناصر الرمزية  مقومات هذه البنية واختلافها الثقافي، هذا دون اعتباره جسدا أو متخيلا خالصا، وقد تساءلت في خاتمة الكتاب عن إمكانية اعتبار المتخيل الرمزي سندا ومحركا للشخصية الفردية والجماعية يؤثر بعناصره وبنياته الرمزية في الكيان الوجودي والنفسي والاجتماعي؟  وأقول أن جوابي اليوم، هو نعم.

5 ترى أن الجسد عاش عنفا مستمرا من قبل الخطاب الفقهي واللاهوتي واختزالا من قبل الأيديولوجيا وتقزيما من قبل المعرفة الأنثروبولوجية ، يصل الأمر حد كبت معرفي، ما هي برأيك الدواعي الثاوية خلف هذا العنف المستمر.

– الأسباب عديدة ويمكن اختزالها في الوضع الثقافي والمعرفي بشكل عام. نعلم أن الإطار التقليدي للخطاب الفقهي يقزم الجسد وينفي حيويته عبر التعاطي معه  بمنطق الرجس والمدنس ونقيض الروح، والإطار الإيديولوجي الاستهلاكي حوله إلى سلعة في سوق المعروضات سواء كمنتوج أو كوسيط وصورة للغواية والإثارة، وواقع الإقصاء  والتشيئ الاجتماعي والثقافي يعبر عن مختلف تجليات العنف التي تعرض لها الجسد باعتباره كيان ثقافي ملتبس، يختزل جوانب هامة من وضعنا الثقافي والاجتماعي بشكل عام.  وقد ظل محاصرا أيضا حتى في مجالات الفكر والفلسفة والعلوم الإنسانية كما يعير عن ذلك التقابل الميتافيويقي التقليدي بين الروح والفكر من جهة، والجسد من جهة مناقضة، حيث أن فضل الاهتمام بالجسد كموضوع للتفكير والبحث، أو اكتشاف الجسد إن شئنا، يعود إلى الفينومينولوجيا والإنثربولوجيا الرمزية التي أحاطته بوضع مفهومي أساسي، إضافة إلى الدراسات الأدبية والفنية التي اهتمت بتعبيراته وإبداعيته. وفي مجالنا الثقافي والبحث العلمي نعلم أن هذه المجالات المعرفية والمناهج يطبعها ضعف الانغراس النظري، مما يجعل الاشتغال بأسئلتها مطبوعا بنوع من الارتياب والمغامرة في حقل بكر يبدو متنمنعا بقدر ما يخترقه من تصورات ومفارقات.

6 ألا يمكن الحديث عن خطاب استثنائي في اشتغاله على الجسد، يتمثل في الخطاب الصوفي في قاماته الكبرى كالنفري وابن عربي التي بلغت به حد التمجيد، وهل يمكن الحديث عن أشباه ونظائر لهذه القامات ولهذه الخطابات  في الثقافة الأمازيغية.

– أعتقد أن مقاربة الجسد في مدارج التصوف تجعل منه كيانا لا ثقافيا لأنها تسعى إلى تجاوزه أو نفيه، حيث تتعاطى معه إما عبر ترويضه والتخلص من مكانته وفعاليته الذاتية والأنطلوجية، وهذا ما يعبر عنه بالزهد والتسامي، أو عبر اعتماده وسيطا للانفصال عنه وعن الواقع والعالم الأرضي، من خلال الجذب والشطح والذكر…أو الاختلاء والتأمل. والتصوف حالة ذهنية وروحية عابرة للثقافات وتعلو اختلافاتها، لأنه صعود والثقافة انتشار.

 أتذكر قول عبد الكبير الخطيبي: ليس الذكر صعودا  عموديا،كما يذكر لنا المتصوفة،  بل هو تبعثر ونشر للجسد. وقد وضحت كيف أن هذا الجسد ليس قدسيا يسعى إلى التعالي والصعود، بل هو كيان أرضي يعيش انتشاره من خلال حركته ورغبة الذات، وبذلك تتشكل هويته متعددة وأفقية، رمزية تتحاور فواصلها وصورها المجزأة عبر تعبيراته كما في الموسيقى، بشكل خاص.

7 تقدم تصورا موسعا للكتابة والتشكيل والصوت ، وتعتبر هذه الأنظمة الدلالية امتدادا لرغبة الجسد الجريح الباحث عن مجال رمزي وبلاغي خاص، إلى أي حد يتصادى هذا التصور مع تصور السيميولوجي المغربي عبد الكبير الخطيبي .

 – توقف جاك دريدا في كتابيه الكبيرين “الصوت والظاهرة” و”الكتابة والاختلاف” عند الصوت باعتباره جوهر الاختلاف لكونه سابق عن اللغة وعن الكتابة وعن الدلالة، وقد حاولت أن أقتفي أثر هذه المغايرة وانزياحها وأنا مشتغل بسؤال فعالية الرمزي وصوت الاختلاف في الشعر الأمازيغي، وقد حللت كيف أن لازمة الموال “ألالايل ألالا دا يلا لا لا لالي…” مثلا، التي تنتشر في فضاءات “أسايس” – الفضاء الذي تنظم فيه رقصات أحواش ويحمل ذاكرة الشعر الأمازيغي-  وقد استعارتها بعض القصائد الحديثة خاصة عند علي صدقي أزايكو، هي عنوان خاصية التصادي بين الثقافي والمجالي التي تميز تشكل وبنية الرمزي والجمالي في الثقافة الأمازيغية، والتي استحالت معها بحة الجسد إلى صوت ثقافي وإبداعي اختلافي.  وهي نفس المقومات والامتدادات الدلالية التي تأكدت من خلال مقاربتي التأويلية  لحوامل وأسناد بصرية وتعبيرية أخرى. واضح  إذن، أن اختلاف الدوال وأنظمة العلامات داخل بنية ثقافية ورمزية شاملة لا يخفي اتصال وتقارب أو تكامل المدلولات وتشكل أو إنتاج المعنى باعتباره قيمة مركبة تصل بين المحسوس والمجرد، وبين الجزئي والبنيوي، وبين  المنطوق والمكتوب والمرئي، أو إن شئنا بين الانتاجات والتعابير التي تترتب عن الأنساق الدلالية الثلاثة أي الصوت والكتابة والصورة.

تتضح هنا تواشجات التحليل السيميولوجي وفكر الاختلاف في تناول الدلالة والأنساق الرمزية، حيث تتبدد الحدود “الدالية” واللغوية البيسطة ويتحرر أفق اللغة والفكر والمعنى، وأعتقد أن هذا هو أساس التقاطعات الكبيرة التي تصل بين  رولان بارث وعبد الكبير الخطيبي وجاك دريدا، حتى أنه يخالنا اشتغالهم المتكامل  نظريا على مشروع واحد. لكن خاصية الخطيبي أنه انتقل بهذه المقاربة الفكرية الاختلافية والسيميولوجية   وأجرأها من خلال اشتغاله على  الأنظمة الدلالية الهامشية والثقافة الشعبية المغربية، في سياق مشروع النقد المزدوج وجرح الاسم الشخصي وإبراز عناصر وتجليات ثقافة التعدد والمغايرة.

ولعل اختياري لهذا التفاعل المنهجي، وخصوبة الموضوع وتعدد تعبيراته وأسناده الدلالية، أفضت إلى تكشف مكانة الجسد باعتباره كيان اجتماعي مادي ورمزي مركزي في ثقافتنا، ووسيط الفكر والوجدان، حتى أنه يمكننا أن نتحدث عن فكر الجسد بالمفهوم الفينومينولوجي  كما توقف عن ذلك ميرلو بونتي في فينومينولوجيا الإدراك، وليس عن تعارضهما الميتافيويقي،  حيث يمكن أن أقول بكل تأكيد أن الدوال والمدلولات الجسدية، سواء على المستوى المادي والعضوي أو على صعيد تعبيراته الوجدانية واللذية أو عكسها الذي يتبدى في ايحاءات الحرمان والإقصاء والتشيئ، تخترق نظامنا الثقافي المتعدد الأسناد والمصوغات التعبيرية.  إنه الجسد الجريح من جراء  التناقضات التي تلتفه مما يعيق تحوله إلى كيان واع ومتحرر ومنخرط في أدميته وشرطه الإنسي، فلا يزال ضحية الخطابات الفقهية الاختزالية والإيديولوجية، من جهة، ومن جهة أخرى  ضحية الشرط السوسيو اقتصادي الذي يرغمه على ولوج دوائر الغواية  وإغراءات الصورة والخطابات الإعلامية والوسائطية والتحولات العنيفة والمبتذلة للمجتمع وعوامله الواقعية والافتراضية.

وإذا كانت بلاغة الجرح قد تبدت من خلال عدة دلالات وأنظمة العلامات التراثية التي عبر من خلالها الجسد عن نفسه، وفي مجالات تعبيرية وأسناد ثقافية متعددة، فإننا اليوم لا نزال في حاجة إلى إمكانات المقاربة السيميولوجية والميديولوجية أيضا– بمفهوم ريجيس دوبري- لتحليل وفهم أزمة جسدنا أو أجسادنا في الراهن، التي تختزل أزمة ثقافتنا ومجتمعنا، وجرحها الذي ازداد عمقا ووضعها الذي ازداد أيضا لبسا وتناقضا.

8 استنادا إلى التصور السابق تعيد ترتيب العلاقة بين المنطوق والمكتوب و المرسوم وتقول بهشاشة القول بالانفصال، وبالموازاة تصلهم بالجرح المخبؤء في الجسد الجمعي واستراتيجياته في مقاومة قساوة اليومي ورهانه على الحجب، أليس المنطوق أقل اختراقا لليولامي بحكم قابليته الهائلة للمحو و التدليس

– صحيح أن القول والكلام واللغة اللفظية بصفة عامة، هي أكثر تعبيرا عن الاجتماعي وأكثر حضورا في اليومي والمعيشي وفي الثقافتين الشعبية والعالمة على حد سواء،  ومن تم قدرتها في نفس الوقت على إنتاج المعنى وعلى محوه أو تزييفه، بيد أنه عند دراستنا للأنظمة الدلالية  التي عبر من خلالها الإنسان عن نفسه وواقعه ورغباته وإحباطاته…، خاصة في هوامش المدارات التقليدية للثقافة  والحياة الاجتماعية، نجد أن الدال والعلامة متعددين، وأن المدلولات تتقاطع وتتواشج داخل بنية الرمزية الثقافية وامتداداتها، بل يمكن أن نؤكد مع عبد الكبير الخطيبي على خاصية “الهجرة” Exode du signe  التي تحمل الدليل بين أنظمة علامات متعددة،  وهذا ما جعلني أقر بهشاشة الفصل بينها، خاصة أنه من خلال تحليل بعض هذه الانتاجات الرمزية كالنسيج اليدوي مثلا،  قاربت تعبيرات العلامة البصرية والرسم النسيجي  وايحاءات المعيش اليومي وقساوته التي تفصح عنها واعتبرته جزء من إستراتيجية ثقافية للمقاومة وحفظ الوجود والاحتفاء بالذات وإعلان الرغبة بل وتحقيقها. إنها بلاغة الر مزي والمتخيل التي تستعير كل قنوات وممكنات  الدلالة  والتحوير للتعبير عن نفسها، خاصة التي ترتبط دلاليا وعضويا ورمزيا بالجسد ككيان متخيل وحامل للتاريخ الشخصي والجمعي، وراغب وحالم ومحبط وجريح…

9 هل يمكن لمثل هذه المقاربات إشاعة نقاش نقدي ينقل الأنظمة الدلالية البصرية الأمازيغية من ضيق التناول الإعلامي  إلى أحياز الزمن المعرفي الذي يحرس العمق بالاحتراسات المنهجية من التعميمات المخلة .

– دعوت في خاتمة كتاب “النار والأثر” إلى ضرورة تناول موضوع المتخيل وإلى فهم أنتربولوجي أعمق لمجتمعاتنا ومقومات ثقافتنا – وقد تناولت السؤال على صعيد آخر في كتابي “الأمازيغية والمغرب المهدور”- واستحضرت كل من جلبير ديرون  وريجيس دوبري اللذان دعيا إلى رد الاعتبار للرمزي كمدخل لفهم الثقافات ولإعادة إبداع مقوماتها  ولتجديد  الإنسية الكونية.  ولا شك أن الكيان الإنسي المغربي، وفي صلب هويته الأمازيغية، هو في حاجة إلى استكشاف مقوماته المتعددة وفهم وإدراك مختلف عناصر وجوده الرمزي، وهذا يتطلب ما سميته تصورا ثقافيا حديثا  يستند إلى مشروع إبداعي ونقدي اختلافي قادر على تحرير كياننا من النظرة اللاتاريخية والممارسات والتصورات المكبلة والمختزلة، ومنها أشكال الفلكرة الإعلامية والثقافية الجديدة، وتكريس النماذج الجاهزة Stéréotypes ، وذلك لخلق لحظة صفاء الإدراك والوعي بالذات وإضفاء المعنى وإنتاجه،  وذلك من أجل الوجود الثقافي بالفعل في عالم متغير يطبعه العنف والتنميط والابتذال.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.