الرئيسية | حوار | حميد ركاطة: لا أؤمن إلا بالنص الجيد.

حميد ركاطة: لا أؤمن إلا بالنص الجيد.

أجرى الحوار: عبد الواحد مفتاح

الحوار مع حميد ركاطة.. يشبه إلى حد بعيد، حوار مع آخر جبابرة، حيت أنه مجابهة وجها لوجه، مع رجل كرس منجزه لخدمة القصة القصيرة جدا، وهو بهذا أحد المدافعين الشرسين على هذا الجنس الجمالي، كتاباته النقدية، تعتبر آخر القلاع الحصينة التي يستند إليها مقترفو هذا الجنس الأدبي، الذي مازال يعرف مرحلة الحبو والانفلات، داخل المشهد الأدبي المغربي.

وهنا متعة الحوار مع قاص سخر طاقته الأدبية، في صياغة مشروع جمالي ينظر له كثيرون اليوم بافتتان بالغ. 

 

في كتابك “القصة القصيرة جدا، قراءة في تجارب مغربية”، درست مجموعة من المتون المغربية ذات الطابع القصصي القصير جدا، كيف تنظر اليوم إلى واقع هذا الجنس داخل الساحة الثقافية المغربية؟

+ بداية أشكركم أستاذ عبد الواحد مفتاح، بخصوص سؤالكم حول واقع القصة القصيرة جدا اليوم، يمكن القول أنها لقيت قبولا من لدن شريحة واسعة من القراء والإصدارات بلغت أوجها بخصوص المغرب كما يبرز الاهتمام المتزايد بها من طرف الكتاب العرب كذلك .. كما أنها مزدهرة في العديد من مواقع التواصل الاجتماعي، كما تواكب نقديا باستمرار. حالة لا يمكننا نعتها سوى بالايجابية.

أنت ناقد وقاص دون مفاضلة، ألا يعمل الناقد فيك كرقيب على عملك الإبداعي؟ في مجموعتك “ذكريات عصفورة” ألاحظ أنك تجعل نصوصك أكثر إغراء وبهجة، ما هو بمنظورك مقومات العمل الإبداعي الحقيقي؟

× بخصوص الإجابة على الشطر الأول من سؤالكم، حول تأثري بالنظرة النقدية في كتابة القصة القصيرة جدا، أشير أن الأمر صحيح وهذا ما يجعل كتابتي ذات خصوصية من خلال ما أمارسه من رقابة قبلية على إبداعاتي.

الناقد المبدع ملزم بتوفير الحد الأدنى من الجودة في كتابته، وإلا فقد مصداقيته في الإبداع والنقد.. فالرجل الذي يمارس رقابة على إبداعات الآخرين، من باب الاحترام أن يدافع على مواقفه النبيلة، ويدع جانبا أحكامه الجاهزة ليحافظ على مصداقيته.

فالعمل القصصي الناجح، من وجهة نظري المتواضعة هو الذي يلتزم فيه صاحبه بمقومات الجنس القصصي، ومرتكزاته وأسسه، ويكشف من خلال كتابته أن الإبداع محكوم في الغالب بمعارف أخرى، تبدأ مع القراءة اليومية للاطلاع على تجارب الآخرين – وهنا أفتح قوسا لأشير أن العديد من المبدعين لا يقرؤون لغيرهم، بل منهم من لا يكلف نفسه عناء القراءة بالمطلق،  والكتابة عنده مجرد هواية وتسلية مزاج-

العمل الإبداعي الحقيقي، هو بنيان تشيد لبناته عبر البحث والقراءة، والاطلاع على تجارب كتاب آخرين، ومواكبة حركتي النشر والنقد… العمل الجيد في نظري يظل غائبا والكاتب يعمل على الوصول إليه، ويتفانى باستعمال كل الوسائل، ليحقق أمله في كتابة نص محموم به على الدوام نص قد يحقق له الخلود مثلا.

لماذا كامل هذا الدفاع المستميت على القصة القصيرة جدا؟ هل هو من باب الدفاع عن الأقليات، لأنها جنس مهضوم الحقوق؟

× في الواقع لا أؤمن إلا بالنص الجيد، والكتابة التي من شأنها أن تشكل إضافة نوعية في مشهد كان إلى وقت قريب يعاني من ركود ما ظهور القصة القصيرة جدا في المغرب، كان في وقت عرفت فيه وسائل الاتصال تطورا ملموسا، ودخلنا في عصر الرقمنة والرسائل النصية القصيرة على الهواتف، التي تطورت هي الأخرى بشكل سريع لتصبح هواتف ذكية. التطور سنة الحياة، ولا مفر من المواكبة. في الماضي كانت للرسائل الخطية نكهتها وكان للمطولات الغنائية الكلاسيكية جمالها، لكننا مع دخول موجة الفيديو كليب والأقراص المضغوطة، باتت بعض الممارسات- كقراءة النصوص السردية الطويلة- آمرا منفرا لدى البعض، بل حتى النفس القرائي بات مستحيلا في ظل هذه المتغيرات فأصبح النزوع نحو القصر موضة – أعتقد البعض أنها عابرة- لكن الأمر  ليس كذلك، لكون النصوص القصيرة موجودة منذ القدم، وتجلت مع قصائد  الهايكو ومع الكتابة الشذرية ..وغيرها. ما استجد في الواقع هو تطوير القالب القصصي أو لنقل تطويعه بالنزوع نحو النحافة والاختزال، فقد حافظت القصص القصيرة جدا في بداية ظهورها على المكونات الرئيسية  وأهمها لحمة الحكاية والقفلة المخيبة لتوقع القارئ،  واعتماد الجمل القصيرة ..لكننا سوف نلاحظ فيما بعد نزوعا نحو تكسير مبادئ البناء الأصلي للقصة، والتمرد على قالبها الجديد، الذي لم يعمر كثيرا وهو أمر يعود في نظري إلى التطاول المجحف على الكتابة، في جنس لم تستوعب بعد مقوماته، وهو ما طرح بشدة التأليف النظري للتقعيد الجيد، وبالتالي المقاربة الجمالية للكشف عن مقوماتها الفنية والجمالية، وتقريبها  من المتلقي مع الدعوة إلى تبني هذا الجنس، من طرف البحث الأكاديمي. فالدفاع لم يكن عرقيا بثا ولا كان تعصبا بالمطلق ولكن فقط لإتاحة الفرصة لجنس وليد ليبحث عن نفسه ويجرب حظه بين أجناس أخرى، فكسب الرهان في نهاية المطاف.

في مجموعتك “دموع فراشة ” تكثيف للسرد، واختزال شديد الصقل والتحديب، لحد يَخيل للبعض، تمازجا بين القصة وقصيدة النثر، لبحث كلاهما عن الجماليات الجديدة، كقارئ أحب أن أعرف شيء عن مخبرك الكتابي؟ كم هو قاسي ومستنزف هذا النوع من الكتابة يا صديقي؟ حتى داخل روايتك “مذكرات أعمى” هناك ملامح لأشغال كتابية لأجناس أخرى: فسيفساء من القصة، والقصة القصيرة جدا، والأسطورة والحكاية، وهي تقنيات ساعدت على إغناء لحمة السرد داخلها، سؤالي متى يهجر حميد ركاطة القصة القصيرة جدا، إلى جنس آخر يكتبه بشكل خالص؟

× ملاحظة هامة جدا بالفعل سجلتها هنا وأنا سعيد جدا بكون اشتغالي على القصة القصيرة جدا خلال عقد من الزمن لم يذهب سدى.

لقد حاولت في عملي القصصيين الأول والثاني، الاشتغال بعين الناقد وقد كنت فيهما مراعيا للدقة بشكل كبير، فقد جربت العديد من القوالب فتحت القصة على أجناس أدبية أخرى، إما تناصا أو تضمينا لمقومات جنس أدبي آخر. كان هاجسي الأساسي الكشف عن تطعيم النص دون اللجوء إلى تدميره، أو إفقاده لمعالمه الأصلية فأسطرته ومسرحته وضمنته قالب قصيدة النثر، وطعمته بروح الحكاية والحجاية والمذكرات وفن التراسل …والصورة واللقطة السينمائية… فكنت أكتب بعين الناقد وأنقد بعين القارئ اللبيب، أضع قسرا مسافة كبيرة بيني وبين نصوصي، ليتسنى لي الحكم عليها فيما بعد بعيدا عن العاطفة. فكنت أفشل مرارا في ذلك.  ومع ذلك ظللت أحاول ولم أيأس أبدا. لا أخفيك سرا أن بعض النصوص القصيرة جدا استنزفت في كتابتها زمنا طويلا، فنبذتها ورائي لما يربو عن سنة ثم عدت إليها من جديد بعدما خشيت عليها من التعفن في جيوب معطفي أشفقت عليها وهي التي لم تشفق علي وظلت متمنعة إلى أن أعدت تشذيبها من جديد فكانت أحيانا تفقد كنهها أو فكرتها الأولى.. النصوص التي أرقتني هي الأحب إلى نفسي اليوم لا أنساها أبدا لأنها كوجه صديق جاحد وجه لي طعنة غادرة. طعنة تلك النصوص القصيرة كطعنة سكين حاد في يد لص خائف، في النهاية تكون مميتة وقاتلة.

لقد علمتني كتابة القصة القصيرة جدا، كيف أوجز واختزل ولا أسهب في الكلام. كيف أبتلع لساني مرغما، وأتحدث عوضا عن ذلك بالإشارة كالأخرس. علمتني كيف ألا أحكم على الأشياء إلا بعد الاقتراب منها أكثر ومراودتها كأعمى عبر الاتصال المباشر عبر اللمس، وهذا يتجلى من خلال القراءة المتأنية التي تشحذ الخيال وتمنحه أشكالا مخالفة للمعتاد، في تصورنا الباطني سواء في علاقتنا بنصوصنا او بنصوص غيرنا ..

ما راكمته خلال أكثر من عقد، من كتابة ومقاربة القصة القصيرة جدا فتح أمامي الباب على مصراعيه للتمادي في تجريب كتابة رواية اعتمادا على نصوص قصصية قصيرة جدا، مترابطة وفي نفس الوقت تحافظ على استقلالية نصوصها بحكاياتها الخاصة. حكايات فسيفسائية تنقل تفاصيل عالم كبير بتحولاته الجارفة فكانت مغامرتي في عملي الروائي الثالث ” مذكرات أعمى” بعد عملي الأول زغاريد تكسر صمت الليل ” و” أسرار شهريار” والعمل الثاني بالمناسبة هو بشراكة مع الروائي المصري الدكتور شريف عابدين.. قلت أن المغامرة كانت الدافع لكن التجريب كان الهاجس، والابتكار كان الهدف وأعتقد أنني نجحت في ذلك، فقد تمت مواكبة العمل بدراسات نقدية منذ خروجه إلى الوجود وقد تجاوزت أربعة عشر دراسة وأنا بصدد القيام بطبعة ثانية لها، بعد نفاذ أعداد الطبعة الأولى، التي لم تكن مدققة إملائيا، وقد حرصت على أن تكون الطبعة الثانية في حلة جديدة بحول الله .

لقد وظفت في رواية مذكرات أعمى تجربتي في الكتابة الأدبية بنفس قصير، وهو أمر استحسنه البعض، كما استهجنه البعض الآخر، بل هناك من ذهب به الأمر إلى التشكيك في انتمائه لجنس الرواية، وبكونه مجرد مذكرات. وقد التزمت الصمت حيال ما قيل في حق عملي، سواء تمجيدا أو إطراء او استهجانا وانتقادا، لأكتشف أن الساحة النقدية اليوم بألف خير، وان النقد يواصل مساره بثبات وهو في الطريق الصحيح. لقد منحتني هذه التجربة ثقة أكثر في كتابة الرواية، وهجر  النحافة مؤقتا، لأن بحوزتي كذلك مجموعتين قصصيتين قصيرتين تنتظران دورهما في النشر: ” عندما يبكي الجلاد ” ومجموعة ” الجسر” وهذه المجموعة الأخيرة، كتبت أغلب نصوصها وفاء لمدينة خنيفرة وبادية الأطلس المتوسط.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.