الرئيسية | فكر ونقد | تمظهر الذاكرة سرديا| أ.د. نادية هناوي سعدون – العراق

تمظهر الذاكرة سرديا| أ.د. نادية هناوي سعدون – العراق

أ.د. نادية هناوي سعدون

ناقدة واكاديمية /العراق

قراءة في رواية ثعالب من عسل

 

الذاكرة فعل استعادة لزمن ماض كوسيلة لإصلاح الحاضر والغاية فتح أبواب التعاطي مع المستقبل بوعي، وقد يكون بالعكس أي أن الروائي يهتم بالحاضر وجذوره المستمدة من الماضي لكي ينشغل بها عن التطلع إلى المستقبل .. وما بين الذاكرتين السردية والقرائية يتم بناء منظومة الوعي فلا يعود للكلمة في الذاكرة معنى؛ بل هي إشارة لمعانٍ عدة تحمل القارئ على التفاعل والمشاركة والانتاج وبذلك تغدو عملية التذكر بمثابة البوابة للانشطار الذاتي بين ماض ذاهب وحاضر راهن سواء أكانت الذاكرة معطوبة أو مسترسلة أو مستوفزة يقظة، لتكون النتيجة فاعلية نفسية تجعل الذات الساردة في ديمومة حياتية.

والذاكرة كبناء فاعلي تخزيني وذخائري لها مرجعيات تؤطر الشكلية التي تتخذها فقد تكون الذاكرة سياسية أو إجتماعية أو تاريخية أو أدبية وهذه الأخيرة تفترض وجود البعدين الواقعي والافتراضي لكي تؤدي وظيفتها الفنية داخل السرد على وفق الوعي باللحظة الراهنة للحاضر وهذا الوعي يظل” في حركته جاريا ولا تحدده أفكار تعسفية عن الزمن”[1]

ولأن الذاكرة فعل عضوي حر غير مقيد ولا مشروط ينظم عملية التداعي فلا بد اذن من أن يكون الوعي يقظا لا مضطربا ومتمركزا لا متشظيا ليغدو الشعور قادرا” على التحرك بحرية في الزمن وميله لان يجد للزمن معنى خاصا به “[2]، لذا تصبح كليته هي جزئياته المستجمعة.

وهذا ما يجعل الكتابة الذاكراتية نوعا من المعركة ضد النسيان وهي أشبه بالجهاز الثقافي الذي يتم توظيفه لخلخلة التمركزات وفضح فوضاها وخوائها ومن ثم تهميشها لتظهر على السطح وهي غير قادرة على أداء دورها كفاعل رئيس ومؤثر في بنية العالم الواقعي.

 والشخصية الروائية بما تملكه من قدرة على التذكر تستطيع تحويل البنية المركزية إلى مجرد بنية متشظية هامشية مقموعة ومنكسرة في إطار ثقافي مفتوح يسمح بتحويل المنطق الى جنون. وبالتعاضد الذاكراتي بين ما هو واقعي وما هو تخييلي يتم القلب الثقافي لفلسفة الأعلى/الأدنى أما بالاعتراف أو بالانتهاك أو بإظهار النواقص والفضائح ..

وتتمظهر الذاكرة في رواية( ثعالب من عسل)[3] بين مستويين أو منظورين رؤيويين يستمد أحدهما قوته من المركز ويتخذ الآخر تشكله من الهامش؛ فأما المركز فتمثله السياسة والتاريخ بما لهما من قوة التأثير والحضور وأما الهامش فتمثله فئة الغجر كشريحة اجتماعية مقموعة ومهمشة في الخفاء.

وبالتذكر يتم تفكيك بنية المركز لتحل محله بنية الهامش التي تهرئ المركز من خلال فعل تعاكسي مضاد يتعاطف مع هذه الفئة فيقلب الثوابت الى فرضيات ليكون في ذاكرة تدني السلطة وهامشيتها تصاعد في ذاكرة غجر الجنوب ودورهم في الحياة وهذا ما يعيد بناء معادلة تكوين الوعي برؤيا العالم..

ويتضح هذا التعامل الرؤيوي مع الذاكرة بدءاً من بنية الإهداء(إلى الغجر غجر الفوار وغجر العالم كافة) ومروراً ببنية الاستهلال( بوتر ربابتي أهدم العالم وأعيد بناءه[4] / غجري ) وانتهاء بالمتن الروائي الذي تؤدي فيه الذاكرة دورا تفكيكيا فتتداعى الأحداث التي مرت على الشخصية الرئيسة( دكتور سباهي) بمزيد من التأمل وتفصيلات أيام عاشتها هذه الشخصية وسط حي الغجر ليندمج العالم الداخلي بالعالم الخارجي لاسيما أن في تلاقي اسم الروائي باسم الشخصية قصدية مسبقة تدعمها صورة الروائي الفوتوغرافية الملونة التي ملأت مساحة الغلاف الأمامي للرواية.. ليغدو الفعل الذاكراتي مزيجاً من الواقعي والافتراضي القائم على استرجاع ماض فائت كتجلٍ لحاضر راهن. وكل ذلك تم عبر تقانات مختلفة منها الاسترجاع بأنواعه والمونتاج الزماني والمونتاج المكاني والمونولوج الداخلي وهذا ما مكَّن الشخصية من أداء دورها في تفكيك الوعي الجمعي.

ولما كان الزمن عنصرا بنائيا في السرد؛ لذلك فإن الاسترجاع وسيلة تستعين بها الذاكرة في اداء وظيفتها سواء أكان هذا الاسترجاع خارجيا أم داخليا أم بكليهما معا.

 وفي الرواية موضع الرصد يسترجع السارد الذاتي (سباهي) في ذاكرته تفصيلات أيام معدودة عاشها مع عائلة أبي صباح الغجرية في حي الفوار جنوب مدينة الديوانية فتعرف على افرادها لا سيما النساء، ويسترجع السارد الذاتي ما كان قد مضى أيام الحرب ولكنه ما زال الى الان حاضرا بقسوته وهمجيته، وباندماج الواقع بالخيال يتهيأ للسارد أن يسترجع استرجاعا خارجيا لحظة دخول بغداد لأول مرة لكي يبكي على التضاد المكاني بين ما غاب وما حضر.

ومن وسائل التذكر بالاسترجاع تنحية صوت السارد وإظهار صوت الشخصية في التعبير عن العالم الواقعي[5] كنوع من الاعتراف بأحقيتها في السرد ، وقد يدفع التفكير في استرجاع الماضي الى مغادرته استباقا للمستقبل ثم الارتداد منه الى اللحظة الحاضرة بوساطة تيار الوعي.

ويعد المونولوج الداخلي اداة ذاكراتية تبيح للشخصية أداء وظيفتها في التفكيك للوعي الجمعي الذي هو باعث مسيطر على وعي الشخصية يستطيع إيقاظها إيقاظا عاطفيا بلا انقطاع في عملية التداعي، ويتيح المونولوج للسارد الذاتي ان يتذكر أحداثا مرت عليه بمزيد من التأمل والامعان.وقد يغدو المونولوج عبارة عن تداعٍ شعوري للذاكرة[6]

وباستعمال المونولوج الداخلي غير المباشر[7] يستطيع السارد استبطان وعي الغجر المؤسلب، وقد يأتي المونولوج الداخلي بوصفه اسلوبا تعبيريا على شكل حوار بين السارد والشخصية المسرودة وبصورة غير مباشرة[8]

ومن تكنيكيات التداعي في الذاكرة المناجاة التي غايتها توصيل المشاعر والافكار المتصلة بالحبكة الفنية بعكس المونولوج الذي غايته توصيل الهوية الذهنية[9] وتعد التناصات في الرواية شكلا من أشكال التداعي الحر الذي تستعين به الذاكرة لتوضح محتوى ذهني معين على سبيل التعادل الموضوعي.

ومن وسائل الذاكرة أيضا المونتاج الزماني الذي يتطلب من الشخصية أن تظل ثابتة في المكان على حين يتحرك وعيها في الزمان[10] وقد تتم المنتجة الزمانية لفعل التذكر بطريقة تداخل الصورة المتحركة باللحظة الساكنة. أو بطريقة تداخل الافكار في الامتداد اللانهائي للحظة.

 وقد تستعيد الوقفة التذكرية الوجوه التي مرت على السارد في ماض ذهب ليجد في الحاضر معادلا موضوعيا لها، وقد يختلط الزمان بالمكان فتبدو السردية الانسانية الحية متداخلة في المادة الوصفية الساكنة[11]

وقد تتجلى حركة الذاكرة في الزمن ممنتجَة على شكل إرتداد عبر وضع فكرة من زمن معين على أخرى من زمن آخر أما بالتكراروأما بالاستحضار والاستبصار.

ويعد المونتاج المكاني وسيلة أخرى من الوسائل التي تحمل الذاكرة على أداء وظيفتها كأن تكون باجتماع عدة صور في نقطة زمنية واحدة، او تكون بالوصف البسيط المستقصي للوعي.

أو باستعمال المنظر المضاعف بغية توصيل شيء للقارئ وقد تكون الوقفة الذاكراتية المكانية مرتبطة بالمنظور المرئي للمحسوسات التي تحيط بالشخصية وقد يستحضر مونتاج الذاكرة المكاني عدة أماكن رابطا بينها في لحظة حضور التداعي والانثيال[12]، وقد تستفز التفاصيل المكانية الذاكرة بازاء العلاقات الانسانية للاحداث التي مرت وجرت.

وإذ تهتم الكتابة الذاكراتية بمعالجة الإثنيات البشرية من منظور سردي؛ فان ذلك يتم بناء على عملية تداعي الذكريات عن الذهن الجمعي اللاوعي الذي يتجلى في الإنسان والجماعة والحضارة قالبة مفاهيم الهيمنة والاستعباد بأبعادها الاجتماعية والاركيولوجية .

وقد جاء الانثيال الذاكراتي في رواية( ثعالب من عسل) متناولا الغجر في ماضيهم وحاضرهم بوصفهم قطائعية بشرية ذات أقلية ولكنها جزء من الانثربولوجيا الحديثة.

وقد حاول الكاتب السباهي أن يفكك ذلك التمظهر عن اثنية الغجر بفلسفة اعتراضية مضادة لما هو سائد.. ويتم تشخيص الممارسات الواعية واللاواعية للثقافة الشعبية لدى الغجر بوصفها معطيات جاهزة يسهل التعامل معها بخلاف ما يذهب إليه عامة المجتمع الذين يرون في ممارسات الغجر نزعة منفلتة غير مسؤولة .

ومن أمثلة ذلك ما تمارسه الذاكرة السردية من تفسير اثنولوجي لرقص الغجرية فضاء ليقلب المفهوم من الدناءة الى الارتقاء وتستعين الذاكرة بوسائلها الفنية كلها من أجل تقديم محتوى اثنولوجي يريد ان ينقلب على المؤسس والعتيد في إطار قضية ثقافية ذات علاقة بالاعراق والالوان والاجناس[13] وهذا ما يولِّد تعددية ثقافية multiculturalism لتضرب على المركزية الثقافية ذات الوجاهة الراسخة .

ولا نجانب الصواب إذا ما قلنا إن ما تعنى به الذاكرة الروائية ليس نقد الخطاب بل نقد المؤسسة والطبقية من دون الوقوع في حبائلها فهي ثائرة علىالشعور بالدونية وهذا ما يعبر عنه بنقطة الحضور او الأصل الثابت اللذين يشيران الى المركز .

ولذلك يسعى فعل التذكر الى تشظية كل ما هو مركزي عتيد وقد تمقت الذاكرة مركزية المؤسسة الثقافية ممثلة برجالها المتدينين وهذا ما يجعل الذاكرة تتعاطف بالمقابل مع الفئات البشرية المقموعة والمهمشة ممثلة بالغجر .

ويذهب الناقد الدكتور شجاع العاني الى أن اختيار مجموعة من المسحوقين أو المحرومين ليشكلوا بطولة جماعية في رواية الاحداث انما يؤشر تأثر الروائي العراقي بالرواية الواقعية الأمريكية [14]

وترفض الانثربولوجيا الحديثة النظرة الاستعلائية نحو الاقليات الاثنية من منطلق دريدا الذي رأى أن لا شيء خارج النص وأن التاريخ نص قابل للتجدد وهذا ما حاول الروائي محمد سعدون السباهي تقديمه في روايته( ثعالب من عسل) كروائي مهتم بالسؤال الثقافي.

 

فهرس الاحالات/

[1] تيار الوعي في الرواية الحديثة ، روبرت همفري، ترجمة د. محمود الربيعي، دار المعارف بمصر، طبعة ثانية، 1975/ 63

[2] م . ن / 63ـ64

[3] ثعالب من عسل رواية، محمد سعدون السباهي ، دار كوفار للطباعة والنشر ، أربيل، طبعة اولى، 2015.

[4] بنائه(كذا) في الرواية

[5] ينظر: البناء الفني في الرواية العربية في العراق، د. شجاع مسلم العاني، الجزء الثالث بناء المنظور، طبع دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، طبعة اولى، 2012 /135

[6] ينظر: م . ن /13

[7] يقصد بالمونولوج الداخلي غير المباشر أن” المؤلف الواسع المعرفة يقدم مادة غير معبر عنها على نحو مباشر من الذهن” ينظر: تيار الوعي في الرواية الحديثة/ 55.

[8] ينظر:  ثعالب من عسل رواية /22

[9] ينظر: تيار الوعي في الرواية الحيثة / 56

[10] ينظر: تيار الوعي في الرواية الحديثة/72

[11] ينظر: م . ن /76

[12] ينظر: م . ن /27

[13] ينظر: النقد الثقافي قراءة في الانساق الثقافية العربية ، عبد الله الغذامي، المركز الثقافي العربي، المغرب ، طبعة ثالثة، 2005/ 41.

[14] ينظر : البناء الفني في الرواية العربية في العراق، الجزء الأول بناء السرد/ 93.

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.