الرئيسية | سرديات | تكوينات بائع الأعشاب | زيد الشهيد

تكوينات بائع الأعشاب | زيد الشهيد

زيد الشهيد (العراق ):

 

1 تكوين فقد

لم تخشَ قِفرَ الزقاقِ ووحشتَه، ولا ساورتها رجفةُ خوفٍ من صمتٍ تمتصُّهُ حِلكةٌ تُحجِّم صفرةً ذاويةً لمصباح ٍ يتدلى من عمودِ كهرباء مائل جوار حائطٍ بطابوقٍ مُثلَّم الحواف.. تلفُّ العباءةَ السوداء حول قوامِها وتبرح منزلَها كنخلةٍ متفحمة.. تبرح زقاقاً وزقاق، مندفعةً بخطى لا تأبه لتعثّرٍ يسببّه الدربُ غير السوي. همُّها بلوغَ السوق والدخولِ إلى فنائه.. هناك! تقطع نصفَه غير آبهةٍ للعيونِ المتصالبة والدواخل المُمتعضة المتابعةِ من أصحابِ المحلات والمعارضَ لتقف أمامَ دكانٍ يبيعُ الأعشاب. (الدكانُ مغلقٌ في انتصافِ الليل لكنَّها تراه مرفوعَا لكبنك، وضوءُ المصباح يُبعثر ضياءَه على قناني الأعشاب الزجاجية  المرصوفة فوقَ الرفوف المتعالية حتى السقف ، مثلما ترى البائعَ الشاب مُنهمكاً بخلطِ مكوناتٍ يلتقطها بأصابعَ صبغتها ألوانٌ متنوعة من جوفِ القناني ) تومئ له أنْ يخرج لها .. في العينين شررٌ، وفي القلبِ حرقة.. من عمق الدكان يظهرُ الشاب. يقف إزاءها بعينين غائمتين تُمطران حيرةً وتُطلقان تساؤلاً عن هدفِ وقوفها وندائِها.. تقول له كعادتِها: “ما عملتَ لي من خلطةٍ لم تؤدِّ مفعولَها؟ ومَن أردتُه يفتح قلبه ويستقبلني بمثلِ ما استقبله لم يفعل؟.. أيُّ عشّابٍ أنت؟ أليسَ لكَ قلب يتدفَّق بدماءِ الشباب؟ وهل جمُدت مشاعرُك بحيث لا تُعير همّاً لمن يتضرَّع إليك؟”… يطأطئ الشاب رأسه، وتدمع عيناه؛ لكنَّه يتمالك نفسه.. يحدِّق في عينيها ويتأسى، ثم يقول يُطمئِنها: “اهدئي؛ لنجرِّب خلطةً أخر، لعلَّها هذه المرة تكون لصالحِك فيأتيك طيِّعاً ، ذليلاً ، يركع عند قدميك.

عاد إلى جوفِ المحل.. أبصرته يتناول قنينةً من هنا وأخرى من هناك؛ مستخلَصاً زيتيّاً من هنا وآخر من هناك. يخلط الأعشاب مع الزيوت، وينثر فوقَها آياتٍ يسكبُها فمه. حتى إذا صرفَ ما يدنو من الربعِ ساعة وضعَ الخليط في قارورةٍ صغيرةٍ  ودفعها في حضنِ كفَّيها اللتين ارتعشتا لحرارةِ أصابعه.

قال مُنبِّهاً: ضعي في حسبانِك أنَّها خلطةٌ لا يأتي مفعولُها سريعاً.. قد يستغرقُ شهراً أو أكثر. عليكِ بالصبر.

صرخت جزعةٌ: شهر أو أكثر!!.. لا ! لا.. هذا ثقيل على قلبي؟ “..

طأطأ رأسَه ودمعت عيناه.. هتفَ في سره: “وهل ترينه خفيفاً على قلبي؟!”

ويوماً فيوماً طفقت تنتظر التأثير.. تمرُّ من أمام دكانِه كلَّ صباح، تطالع وجودَه.. تريد أن تدنو منه لتستفهم؟.. استفهامُها ليس لانعدام تأثير الخلطة  بل لذوائه هو.. ذواءٌ تدريجي اكتشفته بعين الرعب.. أرادت مرة أنْ تقتحم الدكان لتقول: يا حبيبي أنتَ تذوي، وأخشى أنْ لا أحظى بمفعولِ وصفتك ..لكنَّها تراجعت خشيةَ امتعاضِه، والتسبب في إطلاق كلماتِ تذمّره…

لم تغب إلا يومين.. وفي اليوم الثالث اندفعت بكلِّ شوقِ القلب وخشية الروح عليه.. تركت الزقاقَ واندفعت إلى عمقِ السوق لتروي نظراتِها بقامتهِ وطلّةِ وجهِه الحَييّة عندما كُبِحت بانغلاقِ الدكان وارتفاعِ لافتة سوداء كلماتُها تنعي مالكَه المتوفى بمرضٍ عضال.

عادت إلى بيتِها متعثرةً، خاوية.. وفي غرفتِها كانت الدموعُ قصيدةَ النعي التي صارت تمارسها يومياً.. ويومياً تخرج، في منتصفات الليالي، لتقف أمامَ الدكان تحاورُه، وترجوه وصفةً أبديةً للقاءٍ دائم.

 

2 تكوين ضياع

أجهدت نفسَها، قاطعةً درباً ريفياً مترباً، مصمِّمة على الوصول إلى المدينة حتى لو تطلَّب الأمر مشياً في حالة تخلّف باص القرية عن المجيء. تتعقبها الكلاب الناطّة من البيوت المتناثرة على جانبي الطريق، مُطلقة نباحاً لإخافتها .الشفق يتسيد السماء بينما الفجر بعيد. قال لها: أنتِ تحمَّلتِ كثيراً، وما تقومين به لن يوقف جنون السكاكين التي تمزق أحشائي. كم من مرة نزلتِ إلى المدينة وكم قدَّم لك بائع الأعشاب وصفات قال ستبيد المرض عن آخره، وستأتين يوماً وإياه بكامل عافيته لتلقيا التحية.. هذا مرض لعين يتمناه الناس لأعدائهم. سأموت، يا حبيبتي!.. أدري أنني سأموت .

حثت الخطى . ومع الخطى المسرعة ثمة فورة غبار تتعالى وراءها. كانت تتمنى مجيء باص المدينة سعياً لاختزال زمن إدراكها.. ولم يجانبها الحظ ويعاندها، فقد لاح الباص  من بعيد يبعث ضوء مصابيحه ويتوقف بعد لحظات، فتصعد وقد خمنته فألاً حسناً ليوم قد يغدق عليها خلطةَ أعشاب تعود بها لتصارع معركة السكاكين وفتكها في جوف الحبيب.

تلقفتها خثرة السوق المسقَّف بعدما عبرت راجلةً جسر المدينة الخشبي ونهلت من نسائم النهر ما يعينها على شرح آخر أعراض مريضها الذي تركته هناك يرجوها البقاء معه ليشبع من مشاهدة قسماتها ويستعيد ذلك الوجه الحنطي والقوام المتعثر خجلاً يوم أبصرها لحظة نزولها من سيارة أجرة تحيطها نسوة، هنَّ أيضاً متعثرات، بعدما جسدت مراسيم الاستحمام في حمام المدينة وتولت الحافوفة حفَّ حاجبيها ووجهها مُمَرِرةً أحمر الشفاه على شفتيها الراعشتين جراء خجل التجربة الأولى مثلما يستعيد تفاصيل ليلة زواجهما الأولى.

وكان الفرح كبيراً في صدرها، والرؤى فراشات جذل مهفهفة في رأسها. أما خلطة الأعشاب فكان الكفّان يضمانها بحرص ويجهدان في عدم حدوث ما يبدد سحرها جراء اهتزاز الباص العائد في درب القرية الترابي المتعثر.

الفرح يكبر ويزداد كلما لاحت لها بيوتات القرية الطينية. والخيال يأخذ طابع الصور المُطمئِّنة المتهافتة؛ فتراه في صورةٍ يسعَدُ لوصولِها، وصورةٍ يرتشف من بين أناملها كاس الخلطة السحرية، وصورةٍ يتكئ على الوسادة وقد تسللت الدماء إلى وجهه فبدا صحيحاً معافى، وصورةٍ يفرد ذراعيه يضمها لصدره ويهمس: ليس الدواء هو من أشفاني إنما أنفاسك!. فتدمع عيناها ، ويروح سيل من لؤلؤ يتقاطر على كتفه. لؤلؤ الفرح بدوام عناقه لها وسعادتها الدائمة معه… فجأة انتبهت لجمع نسوة يتوزعن مقاعد الجلوس معها في الباص يرددن بتطيّر: يا ستّار.. ما تلك الصيحات؟! ما ذلك العويل؟! .

كان صراخاً حادّاً يتناهى من بيوتات بعيدة تطلقه نسوة نائحات ، يلوحن بالأيدي كأنهن يرمين المختلس الذي انسل توّاً من بيت كان في إحدى حجراته عليلٌ يتلوى ألما ويتمنى حبيبةً تمطر وجهه بمطر أنفاسها وتمد كفاً يتوسد دفأها ويغفو إلى الأبد على ترنيمة هدأتها ، وحميميتِها .

3 تكوين خذلان

خلَّفت عويلَ القطار وراءها واستدارت تبحث عن واسطة تقلها إليه.. حدقتاها مضببتان وفي اليد ورقة مطوية بلَّلها العرق، تقبض عليها بإحكام لئلا تنفلت من بين أناملها وتضيع، فيضيع أملُها في لقائه… المسافرون يحثّون الخطى. يحملون الحقائب أو يدفعونها في عربات بينما آذانهم ترهف السمع لمن يرحب بهم من أهل وأقرباء سيجدونهم ينتظرون في صالة الاستقبال، أما هي فليس إلا حقيبة الرأس ملآى بالقلق والخشية من أن لا يتحقق مرادُها فتفشل في رؤيته ..قال لها في آخر نداء عبر الهاتف : سامحيني ، لا قدرة لي على استقبالك ، المطهرات تنفذ في رأسي وتدوّمه ، والسرير يصمّغ جسدي ويعطبه .

في سيارة الأجرة التي حملتها على هدي كلمات العنوان الذي في الورقة المعروقة كانت تحرّك أناملها على صرّةٍ احتوت خلطة أعشاب ستشفيه من علّته … فمثلما شفاها بائع الأعشاب من خفق القلب السريع وانحباس النفس وهروب الهواء وحوَّلها مهرةً جامحة بخلطة سحرية ألغت كل أدوية الأطباء فانَّ الخلطة التي جمعها بناء على توصيفه الداء الحبيب ستكون تميمةً  للشفاء الأبدي.

القلبُ مجنون والمشاعرُ في هوس. كل لحظة ترجو السائق السير الأسرع.. لا تصدق أنها ستلتقيه لتقول: “جئتُك بما يُشفيك.. أيها الحبيب يوم واحد لا أكثر .ليس غير يوم وسيصبح الداء من الماضي. ستنهض كالحصان؛ تستهين بالخبب فتعدو كالريح”.

كانت المسافة بين البوابة العريضة للمستشفى والردهة المقصودة بحراً. كانت محيطاً وأرخبيلات؛ جزراً وبرمودات.. متاهات من ممرات وحشود من أسئلة واستفسارات… وإذ طالعته من الباب البيضاء المواربة على الأسرّة الموزعة بانتظام بعدما مسحت الردهة بشبابيكه االمشرعة على هواء الضحى هرعت إليه مثل أُمٍّ قدَّموا لها خبر حضور ابن فقدته منذ زمن وأبعدته عنها عاديات الأيام  فراحت تُشبع وجهه بالقبل ؛ وهي تردد: ما شاء الله. ليس كما تخيلتك عليلاً نحيلاً ذاوياً .. لا.. لا.. أنتَ والحمد لله معافى .”..” ولكنَّ العلّةَ في القلب لا بالجسد.”.. “لا عليك كان قلبي كقلبِ. لكن بهذا سيصبح قلبُك كقلبي “..دفعت بأناملها إلى الصرّة المشدودة إلى بطنها “خلطةُ الأعشاب هذه ستُنهِضُك قوياً وصلباً وشامخاً.”

سهرا طويلاً وسط إكبار المرضى بحبٍّ غامرٍو صافٍ وصادقٍ يغرق الاثنين ، ويجعلهما كبلبلين في خميلة رياض عاطر.

تلك الليلة نامت على الأرض جوار السرير: هانئةً، مسرورةً، مُطمَّئِنَّة. نامت على أمل النهوض صباحاً لعمل إكسير الخلطة في قوري على هسيس النار ليرتشفها على رواء. بعدها ينهضا ويبرحا المستشفى على ترنيمة كلما توداع النزلاء الحميم ودعاءَهم بحياة عسل… بيدَ أنَّ الصباح أنبأ الجميع بتوقف أنفاس المرأة التي قال الطبيب الذي قدِم لفحصها أنَّ القلب هو الذي غدر بها فخذلها، وتسبَّبَ بالوفاة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.