الرئيسية | سرديات | تغريدات | فاطمة الزهراء رياض

تغريدات | فاطمة الزهراء رياض

فاطمة الزهراء رياض  (المغرب):

 

كان البطل في الطرف الآخر من الأحجية؛ تركه السارد ملتصقا بجدار الذاكرة الخرب.. ومنذ ذلك الوقت وهما يدوران حول نفسيهما بغية أن يحتضن الأول الثاني ولكن بلا نهاية محسوبة التفاصيل فالسارد يدرك جيدا أن انتشار الكلام في مقدمة القصة ما هو إﻻ عبث دائري تجري فيه المشاعر المرتبكة على خجل.
يلج البطل الطريق الطويلة وسط خلاء مضجر؛ كانت السيارات المارة بالفعل ترتطم بصوته الداخلي المتصاغر.. حتى أن صوت الشاحنات تزمجر كأنها ﻻ تمر أو كأن بضاعة السهو قد ردت إليه.. زاهدا في ما مضى موقنا فيما سيأتي..أن الطريق الآن ما عادت طريفة كالماضي..
تلقفت يده الهواء وبدت مثلما تلويحة أصابع جريد منهك على يد نخلة؛ تطورت المشاهد لتستقيم الكف أكثر ولتضع حدا عظيماً لسخرية مضجرة من مشيته الهلامية التي دامت لساعة ونصف تقريبا..
وقفت الشاحنة الطويلة على بضع خطوات؛ كان زحفه إليها بطيئا تعبا لكأن “زفتها” يتلفظه أو يدغدغه.. لكأنه ﻻ يريد الذهاب على متن شاحنة أو كأن الشاحنة آخر المنقذات وأول البدايات..كأن قلبه مستوقن من فطرة آدميته مستفيض بالدمع بلا دمع .. متراقص في القدم دونما شيب منهمك بالمسير بلا قضية.. هو السفر؛ دليل المولع بالله والصفاء.. إنما هو مسافر دليله غياهب مهجورة في الحزن.. دفاتر مشوهة الخط.. حسابات موشومة بالخزي؛ يقترب من هذه الحقائق وتلتصق به الطريق؛ فينتصف اليقين على جبينه ومع هذا كله ﻻزال بإمكانك أن تراه متفائلا؛ عينيه حمراوتين كحبة فروﻻ أسيوية وجبينه مخضب بالأرق وعلامة الصلاة تبدو جلية كنجمة عيد أو فرحة حب.
أخرج السائق رأسه الثقيل المتكدس على جثته العفنة وراح يأمره بالإسراع؛ كانت حكاية التعب مادة يتقاسمانها.. وهنا يتذكر السارد تسارع قلبه أو لعله مدرك للتعب وعلى أي هي لحظة متشظية يتنكر فيها لنفسه ليصبح آخر.. وليصبح الآخر بين هنيهة شريكا لسائق شاحنة في سفر التكوين. . فوق هودج ” الليل”..

تسلق الشاحنة وهو بالكاد يجرب لياقته؛ تبادﻻ سلاما مستعجلا فيما انطلقت المسافات تحارب معهما الضجر.. في لحظة ما كان عليهما أن يجدا طريقة لإذابة الجليد فانطلق السائق الشجاع مبادرا بالسؤال عن الحال والأحوال .. كانت الإجابات مرهقة ومقتضبة وﻻ توحي بسريرة نية ثم بإيعاز شديد قال أنه لم ينم الليلة الماضية بسبب أرق عائلي وهو ينوي أن يغمض جفنه في مقعده إن لم يكن في ذلك إحراج..
كان السائق بجثته طيبا وعلى سليقته؛ تمنى له قيلولة هادئة فيما أشعل سيجارته وراح يلعن بها الحر والزيادة الحكومية وتسلط جبابرة الشركات وغطرسة الزمن..
على غير عادة استيقظ الرجل مذعورا على صوت المحرك إيذانا بالوقوف في باحة استراحة؛ نظر السائق بابتسامة محتفظة بفضول ملتبس ثم قال:

  • سقطت منك هذه الصورة من جيب سروالك؛ اسمي “علال” وبضحكة أكثر أريحية اردف قائلا “علال القلدة” لقبوني إياه على إثر عرض فيلم “رشيد الوالي” “علال القلدة”.. أنظر يا أخي يرون في كثل الشحم عضلات “فاندام” أليس من المضحك أن تبرر القوة بأرطال من الدهن الخام؟

    كان الرجل ﻻزال بدهشة وارتباك إثر وقوع صورة فتاته؛ استدرك مبتسما ماددا يد للسلام على علال ثم قال:

 – فليسامحنا الله على أفعالنا..
آمين.. أجاب “علال” وهو يحاور نادل المقهى المتخصصة في شَيّ اللحوم؛ يقول السارد هنا أن المغربي يقدس الشواء ويعتبره محطة مهمة لاثبات كرمه وحسن ضيافته.. يشوي الكبد والقلب والأضلع ويحرص على تناولها بالسفر فلربما بالسفر ضيعنا أعضاءنا الحيوية بالتأمل والنسيان..

تردد “علال” كثيرا في خلق حديث ضروري لتمر الطريق الطويلة بخير؛ وإلا لما هو يركب معه العابرين الباحثين عن وسيلة سفر مجانية ومريحة؟ قال “علال” للسيد المضطرب:

– أحمل أطنان الوقود يوميا؛ أضع الشاحنة لساعتين ليتمدد البنزين .. نفرغ الحاوية من سعتها القانونية فيما أبيع الزائد من الوقود ..

– تعني أنك تسرق الباقي؟

– يمكننا تسميتها “سرقة” لو كنا في وطن يحاسب فيه الظالم والوزير الفاسد والمدير المرتشي.. ما أفعله يدخل في نطاق ترقيع الأجرة التي لا تكفي مصاريف الأولاد على أيامنا.. تغدى يا رجل ! سيبرد الشواء وتتلاشى حلاوته !

– لقد سرقت أنا أيضاً

تبعثرت أصابع “علال” المنهك في الأكل وبدا يراقب وجه محدثه الهادئة والمشردة في آن واحد.. ماذا تقصد؟ تساءل علال بفضول؛

  • سرقت سعادة فلذة كبدي؛ عشت حياتي معها حاد الطباع ظانا مني أن الأب “هيبة” إن راحت تهدمت أعمدة بيته ثم أشار مشددا على قوله إلى الصورة التي ضاعت منه حين غفوته..

  • ابنتك.. إنها تشبهك

  • أولادنا نسخ مصغرة من دواخلنا؛ معظمنا يعيش كل يوم ليحقق أبناؤنا أحلامنا ..لكنها أحلام لا تتحقق مرتين.. الأبوة حلم بحد ذاته

نعيش فوق الخطيئة وفوق الخطأ؛ الآباء لا يعتذرون لأولادهم..لا يعتذرون..

  • لي ابنان صغيران أراهم مرتين في الأسبوع ربما كنت لأرفض أن يصبح واحدا منهم سائق شاحنة ! نحن نسرق وقود الشركة ليصبحوا أصحاب مال وجاه يوما ما

  • ليبقيهم الله لك.. ربت الرجل على كتف علال منهيا الحديث الحميمي الذي انفلت منهما على حين بغثة

ثلاث ساعات متواصلة من السفر والصمت؛ كان الرجل يخرج الصورة ويرجعها مرات عديدة من جيب بنطلونه؛ أزال بعض اللحم العالق بأسنانه ثم أدار وجهه نحو النافذة محاولا الإمساك بصور البيوت البعيدة على خط الطريق؛ متأكدا أو محاولا إقناع نفسه أن كل بيت هناك يعيش مشكلة ما.. يعاني فقدا أو ضيق عيش وقلة حيلة.. ولعل الجميل هو أن يستيقظ الحزين من بركة أساه ويجد أن الأبواب المغلقة قد فتحت على غفلة منه؛ كذلك فعل صباحاً حين توجه إلى الطريق تاركا وراءه أناس يكرهونه لقسوته؛ هم يكرهونه وهو يعرف ذلك.. يزمجر النهار طولا وعرضا باحثا عن خيط فتيل يشعل به اليوم.. يجلس ببهو البيت مثل غول حكايات الجدة معترضا أبناءه بالوعظ والإرشاد؛ يفرغ من الصلاة منتظرا صلاة أخرى .. استغفر الله العظيم؛ هكذا بدّدَ شريط حياته؛ تاركا برأسه صورة ابنته الجميلة عروسا مكلومة الجوارح وقد حمل إليهم بعض جيرانها أخبارا إنها سجينة زوجها الذي يعنفها كل يوم.. فلماذا لم تخبرني إذن؟

تردد في الإجابة التي كانت تبدو له براقة وحادة مثل خنجر؛ أي ملجأ هذا الذي تعود إليه مُطلّقة؟ يعود الأحرار لبراح السماء لا لأقفاص من حديد منفر..

كان علال منغمسا هو الآخر في طريقه التي تبدو بلا آخر !ملامح التعب اتخذت محلها الجلي من الوجه؛ تنهد فيها الرجل وأخذ نفسا عميقا غير سليم

  • هل أنت بخير ؛ سأل علال الرجل

  • قليلا.. كم بقي لنصل مدينة “ن”؟

  • ساعة ونصف؛ نحن الآن نقترب من آخر محطة بنزين.. هنا أفرغ الحاوية وأبيع الباقي .. تتبقى لي منعرجات قرى (زهير) ما إن نصلها نسلك الطريق السيار مرة ثانية.. عندها لا يتبق سوى عشرون دقيقة على المدينة.. تحس بالضجر قهقه علال ليغير مسار الحديث قليلا

  • لم أر ابنتي منذ ما يزيد عن الست سنوات؛ أريد أن أصل إليها بسرعة لأخلصها من العذاب

  • هل الأمر خطير؟

  • نعم إنه أخطر مما يبدو لنا جميعا؛ ستفقد ابنتي عقلها إذ لم أصل في الوقت المناسب علي أن أخلصها من بين يدي زوجها

ارتبكت ملامح علال؛ كانت عضلات الرجل تتقلص وبدا على جبينه عرق التوتر وأخذت يداه ترجفان رجفات حقيقية؛ لكنه في الحقيقة أدرك محنة قادمة لا مجال لأن يفك طلامسها .. ستصل سيد؟ لم أعرف اسمك أتصدق !

  • لا اعرف ربما اسمي “عبد الله”

  • وابنتك؟

  • لا اعرف

  • لا تعرف اسم ابنتك؟

  • مشمشة.. مشمشة؛ أناديها مشمشة حين مسكتها بين يدي أول مرة.. ثم بدأ صوته يستكين لأغنية .. واضعا صورتها على كفه مثلما رضيع يهز كتفه لتنام: مشمشة يا مشمشة ..جميلتي يا مشمشة

  • تيقن “علال” أن الرجل به مس أو سحر؛ وأنه غير طبيعي البتة.. أوقف الشاحنة بحافة الطريق مع اقتراب غروب حزين؛ تداخلت فيه حمرة الشفق مع زرقة السماء وتحالفا ليكثفا من وحشة الليل القادم؛ كانت أكتافه لا تزال تهز يده بحنين وحنان لتنام المشمشة .. اقترب علال من الرجل ثم ابتسم له بخبث:

  • لقد وصلنا عند مشمشة بيتها يوجد خلف تلك الرابية

لم يجبه؛ اقتنص خبث علال وهو يقنعه على النزول من الشاحنة؛ فتح الرجل القليل من زجاج النافذة ثم أخرج رأسه التعب مستجمعا لعابا كثيفا نفثه على وجه علال بكل ما أوتي بقوة: لقد اعتبرتني أحمقا يا عزيزي وهذا شيء يثير غضبي واستفزازي .. أن تكون لص بنزين فذاك يخصك لوحدك والله هو الوحيد القادر على محاسبتك.. لكن اتهام الناس بالحمق لا شأن لها بالله إنها شأن مشاعر إنسانية خالصة !

أغلق بزر أوتوماتيكي البابان وزجاج النوافذ؛ تسلق علال شاحنته مذعورا محاولا فتح الأبواب بلا جدوى.. أدار الرجل محرك الشاحنة وضغط باحترافية على الفرامل معلنا انطلاقه نحو بيت مشمشة

توسل علال كثيرا؛ لكن نظرات الرجل كانت مصوبة ومقتولة الحس كأنه أمسك أخيرا بمقود الحياة..

تناقلت المواقع الاجتماعية الحدث وسط اهتمام وامتعاض كبيرين واعتبره المغردون خبراً يُلاك بالقليل من الإبداع:

“رجل يدهس سائق شاحنة للبنزين”

“رجل مختل عقليا يدهس سائق شاحنة للبنزين بعدما وفر عليه ثمن الرحلة”

“رجل مصاب بالباركنسون يدهس سائق شاحنة مشتبه بسرقة بنزين السرقة بعدما وفر عليه ثمن الرحلة..فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ! “

“رجل مصاب بالباركنسون والزهيمر عثر على جثته في حادث سير مروع بعدما دهس سائق شاحنة “

“رجل مصاب بالباركنسون والزهيمر.. تذكر ابنته المتوفاة من أعوام ليلتقيها في الجانب الآخر من الموت”

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.