الرئيسية | منبر الموجة | تعدد الآلهة والإله الواحد | حمودي عبد محسن – السويد / العراق

تعدد الآلهة والإله الواحد | حمودي عبد محسن – السويد / العراق

حمودي عبد محسن

لا يخفي على أحد أن انسان المجتمعات البدائية اتخذ له من المكونات الحية رموزا صورية بغية العبادة، معتقدا أن بهذا التمثل يستطيع تجنب شرها او تمنحه بركاتها في صيدها ليستثمر لحمها في سد جوعه، ويكون جلدها ملبسه. هكذا كانت الطوطمية، وهكذا كان الإعتقاد البدائي من التخيل المحدود الذي كان جوهره هو الخوف من الموت خاصة وأنه كان يقف مشلول الإرادة إزاء الحيوانات المفترسة أو الكوارث الطبيعية.
ثم اندفع بفكره المحدود إلى المجهول الغائب فيما وراء الطبيعة باحثا عن منقذ مخلص يتعبد له سواء في المرحلة الرعوية الذي اتخذ من القمر إلها له أو في المرحلة الزراعية الذي اتخذ من الشمس إله له، فكان المعبد، وصارت تقدم فيه الأضاحي، وتشعل الشموع والبخور وتردد الأدعية والترانيم والابتهالات والصلوات لهذا المقدس الغيبي، الرحيم، القادر على كل شيء بغية إنقاذه من الموت وآلام الوجود.
ثم كانت المدينة سواء في مصر القديمة وكتابها ـ كتاب الموتى ـ  أو في العراق القديم، وكتابها ـ ملحمة جلجامش ـ وما بحث جلجامش عن الخلود إلا هو الخوف من الموت خاصة بعد موت صديقه انكيدو. هذه الملحمة نستنبط منها أيضا تلك الأساطير عن تعدد الألهة التي كان لها محفل يتزعمه أنليل الذي أطلق عليه رب الأرباب المكون من خمسين إلها وإلاهة، وتمركزت مهام إدارة الكون في أيد سبعة آلهة، ثم صار كبير الآلهة في بابل مردوخ، وكان رع عند الفراعنة، وقد ورد 3000 اسم للآلهة في بابل. وهذا العدد الكبير من الآهة أيضا نجده في الأساطير الأغريقية كما الرومانية والطروادية، وكذلك بقية المجتمعات البشرية الأخرى.
فكان الملك هو الراعي، وهو ممثل الرب الكبير على الأرض لإدارة شؤون الرعية التي هي الشعب، فتمركزت السلطات في يده، فهو الحاكم المطلق الذي يحكم باسم الخالق الأعظم، لذلك صار رمز السلطة في شخصه، وكلمة الراعي مشتقة من الرعي للغنم الذي يكمن فيه ايجاد المرعى والمياه للماشية وإبعاد الذئاب عنها كي لا تفترس ماشيته ثم يسوقها إلى الحظائر، ويستفيد منها، فالملك هو الراعي يسوس الشعب بإرادة كبير الآلهة، وهو الحاكم المطلق، وهو يتلقى القرارات العلوية من الغائب الأعظم المجهول ليطبقها على الرعية، ومن هنا نشأت السلطة الاستبدادية التي سخرت لها المعابد ليكون كل شئ إلهي مقدس.
وقد حاول أخناتون توحيد العبادة إلى الإله الواحد رع لكنه لاقى مقاومة شديدة من قبل كهنة المعابد، وكذلك نفس الشئ حدث لحمورابي المشرع الأول في التاريخ حين حاول أن يمركز المعابد في عبادة مردوخ، فمن هذا نرى أن تعدد الألهة امتازت في مرحلتها التاريخ بعدة سمات:
1 ـ حرية إختيار العابد لمعبوده سواء كان شخصا أم عشيرة أم شعبا، إذ ظهر في تلك المرحلة البشرية فيها التجلي إلى المقدس يتوخى منه العابد الخير والشفاء والعلاج، وأن ينصره على الأعداء.
2 ـ انبثاق الأساطير لتكون ملهمة في التعبد والتذلل للغائب المقدس، ومن يمثله على الأرض.
3 ـ ظهور العبودية والسلطة القمعية، وكذلك الحروب التي فتكت بكثير من الأقوام والحضارات، وأصبح يطلق عليها البائدة ومنها حضارة سومر ومصر واليمن والأغريق والرومان.
ثم ظهرت التوحيدية التي تعتبر تقدمية لما سبقها سيما وكانت تدعو إلى العدالة والمساواة والتآخي بالرغم من أنها لم تقض على العبودية أو تحاربها ثم صارت متنافسة متصارعة تدعي صحتها وحقها المنشود على الأرض، وما وجودها إلا تسخير للإرادة الإلهية العليا، فنشبت الحروب والغزوات للسيطرة وبسط النفوذ، وهنا صارت التوحيدية أيدولوجية دينية في سلطة الإستبداد والقمع التي استثمرها الملوك والأباطرة والأولياء لخدمة مصالحهم، وقد دفع الكثير من العلماء والمؤرخين والفلاسفة والكتاب حياتهم لأنهم لم يتمثلوا لإرادة الخالق الأعظم، وقد وصفوا بالزنادقة أو الكفرة أو المرتدين التي ما زالت شعوب الشرق الأوسط تدفع ثمن هذه الأيدولوجية لتتحول إلى فكر متخلف إرهابي تستمد منه المنظمات الإرهابية شرائعها كالقاعدة وداعش والنصرة وتذبح باسم الخالق الأعظم.
وعند مراجعتنا الى زمن تعدد الآلهة خاصة عند السومريين والبابليين نجد أن التوحيدية قد اسمدت من أساطيرها، ومنها:
1 ـ الجنة:
لقد وردت في ملحمة جلجامش الجنة باسم دلمون، وهي أرض الخالدين التي لا أمراض فيها، ولا قلق أو خوف، ولا شيخوخة، وتزخر بأنواع الطيب، وقد وصل إليها جلجامش ، واستطاع أن يلتقي اتو ـ نبشتم في موضع أشبه بالبرزخ في الأديان التوحيدية، وفيما بعد استطاع جلجامش أن يحصل على عشبة الخلود التي أكلتها الأفعى. هذا وقد وردت الجنة عند التوحيديين بجنة عدن. هذا ويعتقد أيضا الكثير من الباحثين أن ماركس قد استمد مرحلة المشاعية البدائية أو الشيوعية من اٍسطورة جنة عدن.
2 ـ الطوفان:
تقول الأسطورة السومرية أن أنكي قد عرف بسر كبير الآلهة أنليل برغبته في إفناء البشر لأنهم كثروا، وصاروا يزعجونه، فأباح انكي بهذا السر إلى ملك سومر زيوسدرا ، فبنى الملك سفينة له ولعائلته لينقذ نفسه من عقاب أنليل، فحدث الطوفان، وغرقت الأرض إلا أن نجاة زيوسدرا من الطوفان حافط على الوجود البشري، وهذه الأسطورة هي نفسها في قصة نوح.
3 ـ الآخرة:
عند السومريين عالم علوي وعالم سفلي أي عالم الأموات، وفي هذا العالم عفاريت الجلا أي الشياطين، وهم قساة لا يرحمون، وقد نزلت إليه عشتار عند البابليين، ثم خرجت منه بواسطة وتشفع، وعندما خرجت منه وجدت زوجها وحبيبها دموزي لم يهتم بأمرها، وكان شرط إخراجها من العالم السفلي هو أن تجد بديلا لها. هكذا اختارت دموزي لتنتقم منه، لكنها ندمت فيما بعد، وراحت تنوح عليه.
هنا نجد الآخرة عند السومريين مقرها في أعماق الأرض بينما التوحيدية تعتبرها في العالم العلوي وقد ابدع دانتي في الكوميديا الإلهية التي تدور أحداث ملحمته التي جعلها في ثلاثة أجزاء: الجحيم، المطهر، والجنة.
إذن نجد أن تعدد الألهة والإله الواحد فيها الكثير من السمات المشتركة سوى الاختلاف بالتعدد والتوحيد خاصة وإن أغلب الصلوات والابتهالات والأدعية تكاد تكون متماثلة، وتكاد تختلف نسبيا بتحويرات، والتي تنطلق من مفهوم أن الإله هو وجود لخدمة الإنسان، وليس الإنسان في خدمته، فما خدمة الإنسان للإله إلا أخلاقي لتجنب الشر والحصول على الخير في تفادي الخوف من الموت.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.