الرئيسية | سرديات | ترتيب الأرفف | ياسر عبد اللطي

ترتيب الأرفف | ياسر عبد اللطي

ياسر عبد اللطيف  (مصر):

 

حلمت أنني عُدْتُ إلى مدرستي القديمة…

ليس في الأمر جديد، فكثير من الناس – على الأقل ممن تلقّوا تعليماً في مدارس – يحلمون بأنهم عادوا، وهم كبار إلى المدارس التي ترددوا عليها صغارا. وعادةً ما تتواتر مثل هذه الأحلام على الناس في فترات القلق، وسيما ذلك الحلم المتكرر بالمثول أمام لجنة امتحان صعب. أو بالتأخر عن الوصول إلى الامتحان، أو الحلم بأنك ذهبت إلى المدرسة عارياً، لتقضي يوم الدراسة الحلمي في محاولة خداع الآخرين بأنك ترتدي مثلهم الملابس أو في محاولات يائسة لستر العُري.

لكن حلمي بالمدرسة هذه المرة كان واقعياً في جانب منه. كنت في الحلم كبيراً، في عمري الحالي، وكنت أحاول إقناع الإدارة بقبولي في المدرسة مرةً أخرى، ولو بصيغة انتساب أو استماع، كما في الجامعات، وفي نيتي أن أستعيد الزمن القديم لأصحح خطأً ما حدث في الماضي. وكان العام الدراسي على الأبواب في الحلم، كما في سبتمبر 2008 الواقعي.

ماتم تهويمه في الحلم، أو قل ماتم»كلفتته” هو: هل كنت سألتحق، بعد موافقة الإدارة العسيرة، وقد حصلت عليها، بنفس دفعتي الدراسية، أم بدفعة حديثة من مراهقين أكون في وسطهم كالعم الخائب؟ انتهى الحلم قبل أن توضع إجابة على هذا السؤال الذي لم أطرحه على نفسي أثناءه. ولكن الغرض الأساسي والذي من أجله ذهبت إلى المدرسة يفترض أنني سألتحق بالمدرسة مجدداً مع نفس الدفعة من الزملاء لأصحح ذلك الخطأ المزعوم الذي وقع في الماضي، والذي يبدو أنه طبع حياتي من بعده بما يشبه اللعنة أو الوصمة أو على أقل تقدير، نوع من سوء الحظ الذي كان يمكن تجنبه.

في تلك»الكلفتة” تكمن حلمية الحلم؛ فالتفاصيل التي تسبق طرح هذا السؤال، كلها، بإمكانها أن تتحقق في الواقع: فبإمكانك أن تذهب فعلاً وأنت كبير إلى مدرستك القديمة، وتقنع إدارتها بأن يقبلوا التحاقك مرة أخرى تحت أي مسمى، وقد يقبلون فعلاً في نظم تعليمية متسامحة، وبعد أن تدفع لهم بالطبع الرسوم الواجبة. لكن أن تعود بعمرك الكبير لتلتحق في الزمن القديم ذاته، ومع نفس الزملاء القدامى، فهنا قد تَدَخل منطق اللامعقول الخاص بالأحلام ليقصَ عمراً انقضى، ويصل زمنين متباعدين، ويحرك إرادات متعددة لصالح رغبة غامضة لتلميذ قديم يحلم.

كمن يمزج الإسمنت بقليل من الجبس تقول الدكتورة سلوان طبيبتي النفسية وهي تمزج مدرستي الرخاوي وعكاشة المصريتين بشيء من الفرويدية ليكون خطابها العلمي أكثر تماسكا: إن الحلم يحتوي على رموز تمثل أحداث أو معضلات مرت في حياتك على فترات متباعدة، لكنها قد ترد متجاورة في الحلم على هيئة هذه الرموز ليستطيع مستوى ما، غير واع تماماً من عقلك، أن يفك تلك الشفرة، فيساعد جهازك النفسي على تجاوز تلك المعضلات.

تأملتني ملياً من خلف نظارتها وهي تنقل قلمها بين أصابعها وشفتيها على هيئة سيجارة وقالت: أحلامك نفسها شديدة الدلالة في هذا السياق.. وذكرتني بحلم قديم كنت قد رويته لها، وفيه كنت قد حصلتُ عن طريق الصدفة على شريط تسجيل يحتوي على ثماني أغنيات بواقع أربعة على كل  وجه هي الأغنيات الأقرب إلى قلبي على مدار عمري. كان الشريط نفسه من نوع شديد الجودة، مصنوع من بلاستيك أسود في غير لمعة بلون وملمس يقارب خشب الأبنوس. كانت أغلب الأغنيات الموجودة بهذا الشريط وربما كلها موجودة بالفعل في مكتبتي، لكنها موزعة على شرائط متعددة طواها النسيان بين الأرفف والغبار… وكان العثور على هذا الشريط في الحلم بمثابة استرداد لقيمة مفقودة، أو قل مبعثرة… ولست أدري هل حدث في الحلم نفسه، أم في حلم لاحق أني فقدت الشريط في النهاية، واستيقظت وأنا أقلب بين الأرفف باحثاً عنه. وكنت مقتنعا في صحوي، وربما لا زلت، أن ذلك الشريط الأبنوسي وجِدَ بين يدي ذات يوم..

قالت: هل تذكر…كنت أعالجك من الاكتئاب وقتها… وكان لديك إحساس أن حياتك تتبدد… وأنك تفقد أصدقاءك الواحد تلو الآخر، لكنك لم تفقد سوى الشريط في الحلم وبضعة عشرات من جنيهات راتبك القليل على جلسات العلاج وأقراص البروزاك…

وواصلتُ الحكي. كانت الدكتورة سلوان تقطع الغرفة جيئةً وذهاباً وهي تستمع لي. قلت لها إني خرجت من المدرسة في الحلم، وذهبت لأجلس بمقهى مجاور، وطلبت زجاجة مثلجة من مشروب»سينالكو” المنقرض، كما كنت أفعل في صباي بالثمانينيات، وأخذت أتأمل التلاميذ المتسكعين بالمنطقة كمن يتأمل ماضيه. وسألتها مجدداً عن دلالة ذلك.

 قالت: العودة إلى مكان قديم هي فكرة جوهرية في حياتك وفي كتابتك… ألم تكتب مرة قصيدةً عن مراهقين عادوا وبشكل قدري لمكان ارتكبوا فيه حماقة عنيفة… وتلك القصيدة الأخرى عن شخص يشعر بالتورط في جريمة حدثت قبل أن يولد فيذهب لمسرحها كشريك قديم… بداخلك شعور عميق بالذنب تجاه أمر مجهول… وهو نوع غريب من الشعور بالذنب لا يخامره الندم… كأنك تلوم نفسك وتتواطأ معها في نفس الوقت..

عادت الدكتورة سلوان وجلست على مكتبها، وخطت شيئاً بالقلم في دفترها، وقالت إن الأمور كما تبدو لها ليست سيئة، وإن علي أن أبدأ بالكف عن تعاطي دواء القلق تدريجياً.. وحددت موعد الزيارة التالية في الشهرالقادم.

عدت سيراً على الأقدام من الزمالك حيث عيادة الدكتورة سلوان، إلى مقر عملي بمبنى الإذاعة والتلفزيون على كورنيش النيل في ماسبيرو. في هذا المساء، كانت نسائم خريفية لطيفة تهب من جهة الشمال فوق النهر وأنا سائر على»كوبري مايو” أفكر بكلام الدكتورة حول طريقة الذهن في معالجة نفسه عن طريق الأحلام، وخطر ببالي بيت  الشعر الذي يقول:»وإن كواني الهوى وطارا.َ.. كانت رياح الدجى طبيبي” من قصيدة النهر الخالد بصوت عبد الوهاب، ورحت أردده طوال الطريق جهراً بصوتي تارةً، وتارةً بترديد اللحن فقط، أو الصفير به. وبدا لي وأنا أسير فوق الجسر أُدندن بهذه الأغنية، ومن حولي أضواء المدينة بانعكاساتها على»النهر الخالد” أن ثمة معنى يلف حياتي كلها في تلك اللحظة، أو كأن تطابقاً غامضاً يجري بين تصور مجرد من معاني الحياة الكبرى وحركتي الآن كمواطن يقطع الجسر ليلاً ذاهباً إلى عمله.

كانت لديَّ سهرة الليلة في حجرة المونتاچ بالدور الرابع لتوليف حلقة من برنامج»سينما المؤلف” الذي أقوم بإعداده. لم أهبط من الجسر باتجاه مبنى التلفزيون مباشرةً، لكني آثرت اختراق حي بولاق أبي العلاء لشراء بعض سندويتشات الفول والطعمية، لي وللمونتير الذي سيسهر معي، ثم دخول مبنى التلفزيون من الباب الخلفي.

كانت الحلقة التي سنعمل على مونتاچها الليلة عن المخرج الأمريكي»روبرت زيمكس”. بادرني المونتير، وهو من النوع المثقف قياساً لبني مهنته: هل يعتبر روبرت زيمكس مخرجاً مؤلفاً؟؟ كنا قد استنفدنا في حلقات سابقة اسماء نحو دستة من المخرجين المؤلفين: من الكاهن السويدي، للرسول الروسي، للسحرة الطليان الثلاثة، للسوريالي القطالوني، لأرباب الموجة الجديدة في فرنسا، مروراً بتيار السينما النقدية في أمريكا؛ حتى نفدت سبل الحصول على مادة فيلمية لمخرجين كلما ازدادوا ايغالاً في شعرية السينما كلما صاروا أقل شهرة. قلت له إن زيمكس ليس مخرجاً مؤلفاً بالضبط، لكن المُضطر يركب الصعب، وزيمكس رغم كونه مخرجاً تجارياً بوضوح، إلا إنه كتب بنفسه أشهر أفلامه وأنجحها، أي فيلم”العودة للمستقبل” وهو فيلم شديد الإتقان بمعايير السينما التجارية… في النهاية أفهمته أن البرنامج لابد وأن يستمر لتكتمل دورته، ولنجد قوت يومنا. وهو ما كان ليجادل، فقط يدلي بدلوه في المادة، بدلاً من أن يعمل على مونتاچها كالحمار يحمل أسفاراً. وبالطبع، كان هو على حق.

جلسنا في البداية، وأكلنا سندوتشات الفول والطعمية، وشربنا كوبين من الشاي مع سيجارتين، على الرغم من حظر الإدارة الصارم لتناول الأطعمة والمشروبات والتدخين داخل وحدات المونتاچ، وبدأنا العمل في نحو الواحدة بعد منتصف الليل. كان الشغل على الحلقة لا يحتاج إلى مجهود ذهني كبير مني، فقد أديت عملي مسبقاً، فقط عليّ أن أتابع رصّ ما تم تصويره وفقا لـ”سكريبت المونتاچ” الذي أعددته. مما يعني تسجيل كلام المذيعة تقرأ ما كتبته لها، ثم يلي ذلك تسجيل مقطع من فيلم. وتتكرر نفس المسالة نحو ثلاث او أربع مرات وتكون لدينا حلقة من فئة 30 دقيقة جاهزة للبث. وهو ما لا يتطلب أيضا مهارات فائقة من المونتير، هو فقط يقص ويلصق بالمنطق القديم. كانت تقديمات المذيعة كلها مسجلة على شريط، والمقاطع من أفلام زيمكس كلها على شريط آخر، وما عليه سوى دمجهما معاً على الشريط”الماستر” أي الشريط الذي يذهب ـ بعد عدة اجراءات بيروقراطية ـ لوحدة البث.

الفيلمان الأساسيان اللذان تناولتهما في الحلقة هما فيلما»العودة للمستقبل” و”فورست جامب”. في الفيلم الأول يلعب الممثل الكندي ذو البيبي فيس»مايكل جي فوكس” دور تلميذ مراهق في ثمانينيات القرن الماضي يؤرقه ضعف شخصية أبيه. ويستطيع عن طريق آلة زمن اخترعها صديقه العالم المخبول، أن يرجع في الماضي إلى حقبة الخمسينيات، حين كان أبوه وأمه في مثل عمره وبنفس مرحلته الدراسية. للمصادفات المشينة، تكاد أمه أن تقع في حبه هو، وتبتعد عن طريق التلميذ الخائب الذي يشاغلها: أباه في المستقبل. يدفعهما جي فوكس دفعا في طريق بعضهما، وإلا تهدد احتمال وجوده هو الشخصي في المستقبل في حالة فشل العلاقة. وتذوي ملامحه من صورة عائلية يحملها من زمن الثمانينات، كلما ابتعد أبوه المستقبلي عن طريق أمه المستقبلية في زمن الخمسينيات. في أحد المشاهد يعزف جي فوكس الجيتار في حفل بمدرسة أبيه وأمه، فتأخذه الجلالة ويندمج فيسرٍّع العزف حتى يقارب أسلوب الهارد روك الذي لم يكن معروفاً وقتها. يسمعه أحد العاملين السود بالمدرسة، فيسارع بالاتصال بقريبه الذي لم يكن سوى»تشاك بيري” مبتكر الروك أند رول ويخبره أنه عثر له على النغمة التي كان يبحث عنها. زائر المستقبل يُلهم المعاصرين بما سيكون طليعياً. نفس التيمة أستعملها زيمكس في فيلمه الأنجح»فورست جامب” حين جعل المشية المعاقة لفورست الطفل تلهم إلفيس بريسلي رقصته الشهيرة. أبطال زيمكس العاديون يتدخلون دون أن يشعروا في صناعة التاريخ؛ وهكذا يعود فورست من الصين بعد زيارتها كلاعب تنس طاولة في فريق المصالحة التاريخي، ليقابل جون لينون في برنامج تلفزيوني ويلهمه كلمات أغنيه»تخيل” من حيث لا يدري. وقلت إن فيلم فورست جامب هو إعادة صياغة أمريكية لرواية»كانديد” أو الساذج لفولتير: البطل الناييف الذي يطفو على سطح التاريخ كالريشة التي جعلها زيمكس في أول الفيلم تطير فوق الموجودات. وقلت إن الولايات المتحدة في القرن العشرين هي ألمانيا وفرنسا القرن الثامن عشر في تصور فولتير. كانديد وجامب مرّا بكل تقلبات عصرهما وخاضا الحروب، وأحبا امرأة واحدة منذ البداية، ليجدا المحبوبتين في النهاية وقد تدهورتا بفعل تصاريف الزمن؛ فيعثر كانديد بعد السنين على حبيبته كونيجوند في منفاها التركي وقد صارت قبيحةً بشعة. فيما يعثر جامب على جين حبيبته في نهاية الفيلم بعد رحلة موازية، في ولاية ثالثة وقد أُصيبت بالأيدز. قال لي رامي المونتير:» لكن فولتير كان يقصد من وراء قصته توصيل الحكمة التي أوردها على لسان مؤدِب كانديد في قلعة عمه بويستفاليا، تلك الحكمة القائلة إن ذلك العالم الذي نحياه هو أفضل العوالم الممكنة، وهو مالم يظهر في الفيلم اطلاقاً. مرةً أخرى يبهرني رامي بثقافته التي لا محل لها من الإعراب، ولن أجد رداً أبلغ من أن أردد على مسامعه حكمة فولتير بفرنسية سليمة:» لو ميور ديه موند پوسيبل” متجاهلاً ملحوظته.

انتهينا من المونتاچ نحو السادسة صباحاً، فنزلنا إلى الشارع شبه نائمين، وافترقنا على باب المبنى، فأخذت تاكسي استلم الطريق بمحاذاة النيل لنحو ثلث الساعة حتى انحرف داخلاً نحو بيتي في المعادي. بدلت ملابسي وشربت كوباً دافئاً من الحليب واستسلمت لنوم عميق. ثم كنت فجأة وبدون مقدمات، مرةً أخرى في عيادة الدكتورة سلوان، أقص عليها تلك الواقعة البعيدة التي كنت قد نسيتها. كانت جالسةً أمامي على مكتبها تنصت، وكنت أقول إني خرجت من المدرسة في نهاية ذلك اليوم البعيد، في الصف الثاني الثانوي راكباً دراجتي، وقد وضعت كتبي مربوطةً على المقعد الخلفي. وفي الشارع، ما إن بلغت اول منعطف حتى وجدتهما واقفين: خالد شقيق داليا طالب الكلية الحربية وصديقه العملاق ماجد الأبراشي.  قطعا علي الطريق وأجبراني على التوقف. وما إن نزلت من على الدراجة حتي بادرني ماجد بلكمة عنيفة في وجهي أطارت نظارتي، وجعلت أنفي ينزف، ثم دفعني بكل قوته فسقطت أرضاً، فركلني خالد في جنبي وقال لي: “مش قلت لك تبعد عنها”، ورأى أصدقائي المشهد لدى خروجهم من باب المدرسة فجاءوا ركضاً؛ لكن خالد وماجد كانا قد فرا هاربين على ظهر موتوسيكل. أقامني الأصدقاء من على الأرض، واصطحبنى هشام ومحمد تركي إلى بيتنا، وسحب هشام الدراجة طوال الطريق مشكورا.

قامت عندها الدكتورة سلوان من على مكتبها، وسارت حتى وصلت خلف الكرسي الذي أجلس عليه، وشعرت بيدها فوق كتفي بلمسة تعاطف مع اتكاءة ناعمة. وقالت لي تعال معي. خرجت معها من غرفة الكشف فتأبطت ذراعي، وسرنا بدهليز طويل على جانبيه أبواب موصدة ـ و لم أكن أعرف أبداً أن عيادتها بهذا الحجم ـ حتى دخلنا غرفةً في نهاية الدهليز لم تكن سوى وحدة مونتاچ عملاقة. كان جهاز المونتاچ الذي بها أشبه بأورغون كاتدرائية صرحية في مدينة قروسطية، ثلاث شاشات بحجم»هوم ثيتر” محترم وأزرار ذهبية وفضية على لوحات مفاتيح من خشب أسود.

أجلستني الدكتورة سلوان على مقعد وأخرجت شيئأ من حقيبتها لم يكن سوى شريط فيديو من بلاستيك بملمس يشبه خشب الابنوس، وقالت لي: سنتجاوز تلك العلقة وما تركته في نفسك من جروح. ثم وضعت الشريط في المُشغل وضَغَطَت على زر فظهرتُ على إحدى الشاشات وأنا أسير جريحاً ممزق الملابس وسط هشام ومحمد تركي، ثم ضَغَطَت على زر آخر فتوقفت الصورة، ثم زر ثالث فأخذت الصور تتلاحق في اتجاه التراجع للخلف، وعند لحظة معينة، فرقعت الدكتورة إصبعيها وأوقفت الجهاز بحركة مفاجئة وقالت من هنا نبدأ. ثم داست زري التشغيل والتسجيل معاً.

رأيتني في نفس يوم العلقة، ولكن في لحظة سابقة عليها، في ساعة مبكرة من ساعات اليوم المدرسي ـ ربما كانت بعد الحصة الثانية ـ وقد قررت»التزويغ” من المدرسة. أخذت كتبي تحت إبطي ومضيت نحو دراجتي المركونة بجوار السور، وربطتها في العارض الخشبي بالسلسلة والقفل، عازماً على أن أبيّتها الليلة في المدرسة، على أن آخذها غداً في المرواح، ثم قفزت من فوق السور، وخرجت إلى»رحابة الحياة”. اشتريت علبة سجائر كليوباترا بخمسة وأربعين قرشاً، ثم ذهبت إلى مقهى»القمر السياحي” بمنطقة»الثكنات” قرب المدرسة. طلبتُ قهوةً مضبوطة، وأخرجت دفتري وقررت أن أعمل على الرواية التي انا بصدد كتابتها:»ثقب في الرأس”. كانت الرواية عن شخص يشبهني، جعلته يعيش في زمن حرب 1967، مجنداً عائداً من الحرب بعد ست سنوات ليجد حبيبته التي تشبه داليا كثيرا قد تزوجت، فيقضي الوقت جالساً على المقهى مستشعراً أن برأسه ثقباً لا يعرف سببه.  كنت افكر فيما سيفعله البطل بعد ذلك، وقد تقدم به العمر دون أن يبدأ الحياة. عندما انتبهت لرجل في نحو الأربعين يجلس بجواري يتأملني.

ارتبكت وأغلقت دفتري عن تطفله، فوجدته يبتسم ويقول لي: اطمئن ستكون كاتباً بالفعل، لكنك لن ترى داليا ثانيةً. سألته بارتياب: من أنت وكيف عرفت ذلك؟ قال لي بابتسامته: هل نسيت الدرس القديم. قلت له: أي درس؟ قال: لو ميور ديه موند بوسيبل أفضل العوالم الممكنة. قلت له من أنت؟ قال: هنا فقط، وفي هذا الزمن الافتراضي بإمكانك أن تراني، ولوح في وجهي بزجاجة السينالكو التي كان يشربها قائلا:»في صحتك…” ثم غامت الشاشة حتى أظلمت تدريجياً.

انتبهتُ لجسد الدكتورة سلوان الملتصق بجسدي مع إظلام الشاشة، ثم انقلب التصاقنا عناقاً حاراً وانقلبت معها على الأريكة و…

استيقظت بنشوة هائلة. كانت الساعة في تليفوني المحمول تشير إلى الواحدة ظهراً. مضت نحو ست ساعات على عودتي للمنزل. كان أول ما فعلته أن طلبت الدكتورة سلوان في التليفون وقلت لها: أريد تحديد موعد عاجل، حدثت أشياء عظيمة لا بد أن أحكيها لك. قالت لي إن عيادتها تنتهي في الحادية عشرة مساءاً، وستنتظرني بعدها بعشر دقائق في المكتب. أغلقت التليفون في قمة الابتهاج، وذهبت لأصنع قهوة الصباح بالحليب وقلبي يرقص فرحاً. وفي المطبخ تسرب لي خيط رفيع من الأسى: أين ذهبت دراجتي في الحقيقة؟

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.