الرئيسية | سرديات | تبسم ! | لطيفة لبصير

تبسم ! | لطيفة لبصير

لطيفة لبصير (المغرب):

 

استيقظت بوجه يشع بالضوء…

 أصبحت أنا، وأصبح وجهي باسما.

كان الضوء غريبا، يزداد جمالا واتساعا؛ يداعب الغمازات ويمنحها شيئا من الألفة؛ هذا ما ترسمه المرآة. لمَ حدث ذلك !؟ فأنا أستفيق منذ سنوات على وجه منكمش، أزرق، وكأن خلاياه لا تلامس أجنحة الهواء ولا تداعب الأفق. عزوت ذلك إلى الحادث الذي رأيته أمس، حين اكتشف جارنا زوجته في منزل الجارالجديد، فقالت له وهي تصرخ بأنها كانت، فقط، تعد  طبق اللوبياء البيضاء للجار الأنيق، وكان الأنيق مرتديا منامته البنفسجية الجميلة، ويبتسم ابتسامة عريضة وكأنه لا يريد أن يزعج أحد فرحه النادر…

أنظر من جديد إلى المرآة، وأحاول أن أقوم بتدليك الوجه…

على التو جاءني هاتف يخبرني بأن أبي يغادر  هذا العالم. حاولت أن أستجمع انفراج أسارير الوجه لكنه أبى.

 أبي يودع هذا العالم، وأنا أضع يدَي على فمي لأخفي

البسمة. عبثا حاولت أن أستحضر كل مآسي العالم كي ينكمش الوجه، لكنه كان منوعا، حتى وأبي يغادر المنزل إلى الرقدة الأخيرة، كان وجهي يبتسم وكأنه يزغرد من الفرح اللعين، وكان الآخرون يلعونني في سرهم.

شيء غريب كان يحدث، ويبدو أنني سأختفي عن العيون كي أشفى من داء الابتسام. كان كل من يراني يقف مشدوها أمام ابتسامتي التي لا يصيبها الوهن. تأملت كيف مر ربع قرن ووجهي يتجهم، كأنني اعتدت القتامة والعُبوس! لكن، لم يسبق أن انتفض أحد ضد قُـنوط وجهي و تصلب شرايينه، وكأن هذا الوجه الذي أرتديه عادي تماما !

والآن حين صار وجهي يبتسم، تسألني عيون العابرين، والواجهات الزجاجية للمحلات، والنوافذ السرية،       والجارة الثرثارة، والجار الذي يحصي أفراد الحي قبل النوم، وتسألني أمي كل يوم، هل ما زلت أبتسم؟

بدأت أبحث في كل الكتب، وفي كنوز الأسرار القديمة للأمراض عن داء الابتسام، بحثت في بطون كتب التاريخ، وحكايات الأحداث العجيبة والخارقة، فلم أعثر على شيء. وأخيرا، فكرت في الذهاب إلى طبيب الأعصاب، فلا يستبعد أن  يكون ذلك تشنج عضلي شد الوجه وجعله منشرحا على الدوام. كان الطبيب ينظر إلي، وكانت عيناه تقول إن تلك حالة غريبة لم يرها من قبل، وأن الطبيب النفساني ربما له رأي آخر. يا للغرابة ! كنت ذاهبة بورقة من طبيب الأعصاب إلى طبيب النفس كي أعالج الفرح !

لم يحدث أن اشتكى مريض من البهجة؟ !

و لكنني اليوم كائن مبتهج، يتضاعف جماله في كل يوم وسأقول له بعد قليل: عالجني من الفرح ! يا لسخرية القدر! كيف تتحول الأمور!؟

أمضيت أياما صعبة قاسية، و صرت أتوارى عن العيون، وحصلت على إجازة من العمل، واختفيت لأعالج هذا الداء الغريب؛ بدأت أسعى بكل ما لدي ألا أحضر طقوس الحزن، وأن لا أرتاد أماكن الموتى، وكثيرا ما أسمع الناس ينتحبون، وأنامنفرجة الأسارير ! من الغريب أنني، بعد أيام، أدركت أن وجهي  هوالذي يبتسم، و”أنا” لا تبتسم…

حملت بعضي إلى الطبيب لأخبره أن ملامحي وحدها تفرح أو تغرد،  وقد ابتعدت عني إلى حيث لا أعرف…أمسك الرجل بكل لوائحه القديمة وقال لي: حاولي أن تهدئي قليلا، وأن تستدعي كل ما مر بكووو…لكنني تركته و ذهبت.

في صباح آخر…كان المطر ينزل غزيرا، وكنت ألتحف معطفي الوردي، وأضع وشاحا أصفر على فمي، وأمشي وحيدة في الطرقات وأنا أتأمل هذا الجمال الذي يساقط علي. كانت حبات عنيدة تداعبني وترشني فترجني من الداخل، وكنت أشعر بأن كل الضلوع التي بداخلي تعيد ترتيب أماكنها. كانت تعود إلى حضنها، ثم ترنو إلى بعضها البعض بحنو جميل، كانت كأنها تعانق بعضها في وئام تام. دلفت إلى المكتب حيث لا أحد هناك، هيأت شايا ساخنا وجلست أرسم؛ وضعت وجوها كثيرة لأناس عبروا في حياتي، وكانوا عبوسين، وقاتمين، ومبتئسين، وغاضبين وقانطين، ومتألمين، وحزينين جدا…وضعت وجوههم الكئيبة، وبدأت أرسم ملامحهم الغريبة، وسرعان ما حملت لونا أزرق وبدأت أمحو كل آثار الزمن عن وجوههم، صرت أمحوثم أمحو وأضع فوق كل وجه تعيس شفاها تفتر عن بسْمات عملاقة. كنت أنتقم من لغطهم وصراخهم، كانوا يئنون طوال حياتي. كنت أرى وجه أمي الذابل وقد سقاه الزمن كأسه المُرة، وكنت أمحو حزنها بهدوء، وأجعلها تغادر ذلك المكان الخرب، كانت فرحة جدا وهي تودع أبي، وكان الجميع قادمين يضحكون وهم يودعون الموتى برفق، ويضعونهم في القبور! وبدل أن تتساقط الدموع، كانت الأعين تزغرد فرحا، والبَسَمات تتوزع، والأعشاب الندية من ورد وريحان وخزامى تتناثر على القبور، ونعود ونحن نبتسم…

بدا المشهد بطيئا، وكنت كأنني أسمع وقع دقات الحوافر على الأرض وكأنهاتسعى لتخرج ما تهاطل فوق ترابها من دموع غزيرة وآلام كثيرة…

أهاه… أهاه… أهاه…

وفجأة، حولت كل الوجوه التعيسة إلى وجوه باسمة، بسَمات زرقاء، وحمراء، وخضراء، وصفراء، ووردية، وبرتقالية، وبنفسجية…وصارت كل الوجوه قريبة من جلدي، بل وضعتني في قلب لوحة تكتظ بالبسَمات، وكنت وسطهم أبتسم بعمق… بعد شهور، أقمت معرضا تشكيليا وضعت له عنوان: تبسم…

صار الناس يتبسمون، كان ذلك غريبا حين “تتزاحم الأضداد” ويصير التبسم سيد المكان والظل والوجه، حين تصبح وردة مؤجلة تنتظر…

أصبح للمكان نكهة التبسم، إذ لم يعد فيه مكان للحزن أوللألم أو الجرح… وصار القادم إليه مثلَ القادم إلى مكان ينفض فيه غبار آلامه، وينضو عنه ما علق من تعب، وكأنه يغادر جلده المنكمش، إذ تتهلل الملامح، وتشرق الشفاه، وتهرب التجاعيد، وتتراجع انكماشات الوجه، وتغيب انكساراته، ويختفي سواد ما تحت العيون، وينسرح الحاجبان كخطين يرقصان على حبل أنيق، ويرتاح الأنف ليستقبل أعذب الرياح، وتهدأ الأذنان لتسمعا كل ما يعبر من أصوات وألفاظ جميلة، وتمتد العيون لترى الجمال الذي يسبح في الهواء …

كان كل شيء حولي يتبسم، اللوحات، ووجوه قديمة عادت لتحتل ريشتي وألواني. الناس الذين لا أعرفهم، والقادمون بفعل الرغبة في تغيير الجلد… القبعات القديمة التي تناسيتها…اللوحات تتبسم…الشرفات، والطرقات والواجهات، والألوان، والمكاتب، وبيتي، وبيت أمي وبيوت الجيران، والجدران والذكرياتوبائع الزيتون الأسمر، ومقهى البحر…كل شيء كان يتبسم…

وكنت مثلهم؛ أتبسم…أتبسم…أتبسم…

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.