الرئيسية | فكر ونقد | بورتريه انتصاب أسود | محمود عوّاد

بورتريه انتصاب أسود | محمود عوّاد

محمود عوّاد

المحكي واستعمالات اللغة

1 تحتَ مختبر ما بعد الحداثيّ السرديّ ، ذابَ جلـيد البهرجة اللغوية ،وبـــــانت أخاديد جغرافية البلاغات، فأصبحت اللغة مـرغمةً على أن تنحو بالثوابت نحو المتغيّر من المناخ الجزئيّ للتكوين النصيَّ، هذا الإنغمار في الجزئيات بات مؤشراً على إمكان خلق نصٍ تُستمـــــــــد مادّتهُ مـن حضــــــورِ الفعلِ الحدثيّ المكـــوّن للمحكي قبل تسويقهِ إلى متبضعهِ المتعددِ و المتنوع بتنويعات ِالنسق الماثلةِ داخــلَ منظومة مستوى التلقيات، التي ستكون القراءةُ الفيصل لما سيُنتَجُ عنها، وفي الوقتِ الذي أخذت فيه اللغةُ تُشكل علماً واضح َالحركةِ، ومؤثراً فاعلاً في تحديد مقروئيةالمُنتج، نراها قد أُلزِمَت بقتـــــــلِ سُلــــطَتِها بالمعنى النـاتجِ عن تنوعات التلقي،  وحضورها داخـــل المكتـــوب، إذ هي ليست أداة فقط بل هدف  في ذاتها بحسب ســوزان سونتاغ، ربمــا تأتي ضريبةُ ذلك باهظة ولا تعطي أيةَ مسوّغاتٍ، بمقدورها منح الـلغة تـحركها المعتاد، بهذا تكون اللغة متمثلةً  في خروجها عن سلطتها خــطاباً من ناحية، وإعلان معارضـتها لنسقها الثقافي مؤسسةً  لحيويتها المقهورة تحت ذريعة قائـــــمة على ضرورة توافر المسـحة الجمالية في المقروء  من ناحيةٍ أُخرى.

في انتصاب أســـــود للكاتب التـونسي أيمن الدبـوسي ،تضــــطلع مهارة تغـليب فاعليةِ المحكيّ من دون تعــقيدات ِ تُقعد السرد وتعترضُ انسيابَ تــدفقه، بحجةِ استخدام الــزخارف المركبة، تلـك التي يدعو أندريه جيد الابتعاد عنه،فإنها إن حضرت ستؤذي الفكر وتحطّ من قيمته،

لذا نجد أن الدبوسيّ، قد نحا خــــلاف ما تراه جماليات القراءة، إذ اعتمد لغةً ينحتها الــتيه، وليست ما تصنعها المعاجم، ربما سلاسةُ كتابتهِ  تمنحنا فرصة القــــول ، إنَّ الدبوسي انبثــق مـن كتابة مائية ،لينـــــتج من خلالها نصه بكلّ أريحيةٍ،والكـتابة المائية تختـــــلفُ بطبيعتها عن الممارساتِ الكتابيةِ الأُخرى،

ففــــــيها يعتمدُ الكاتبُ محاكـــاتهُ للــغتهِ بــــهواجس مجردةٍ إلّا من الحدث ،بـــذلك تكون مهــــــمةُ اللغة الاسـتـعمال ولــيس التــوظيف، واســـتعمالُها

 يجعـلُ منها تجربةً معـاشةً، فأحياناً تــــكتمل  لذةُ النــــصّ بطريقةٍ عميقةٍ، حينما يرتحـــلُ الكتابُ في حياتنا ،وحينما  تأتي كتابةٌ أخرى لكتابةِ شذرات ٍمـن أيامنا المألوفة ، باختصار حـــينما يحصل  التعايش ،  من مقولة  بارت هذه يحق عَدُّ انتصاب أسود كتابة استعمالاً ومعايشةً،مما حــــدا إلى اجتذاب قارئها  بخلقهِ لـغتهُ داخلها ،التي ما إذا قلنا بمائيتها،فذلك ناجمٌ عن الجرأةِ العميقة ِ والمشذبةِ من الادّعاءات والمحظورات ،فكلُّ كتابةٍ حـــــــذرةٍ هي ميتةٌ بحسب بوكوفسكي، ولاشكَّ من أنَّ صوتَ الأخيرِ كــــــان حاضراً بقوةٍ ،حيث أنَّ السرد البرونوي مُتأسس على مرتكزات رصينة وبوكوفسكي يُعد من ضمن أهم أصواته ،

*الرواية بوصفها القارئ المتحوّل

الحديثُ في  انتصاب اســود حـــديثٌ مجــــازفٌ به ، يـــــضعُنا أمامَ مواجهةٍ مباشرةٍ مـــع ما يُنتج اليــــوم من كتاباتٍ جُلّ ما يهمها  الفـــــوز بقارئ يلاحقُ الرغبةَ مـن دون تفتيـشه عن المطرودِ من حياته ، بينما رواية مثل “انتصاب اسود” خالفت كل تآلفات القــراءة ، ولأنها موازية للـحياة فحــتما هي من ستــــــقرأُ الآخر ،بتــــمزيقها الغـشاءَ الحياتيّ للــــــــقارئِ،وهــنا أتَت الكتابةُ بوصفهاممحاةً مــزيلةً للفوارز، مـانحةً الانهيارات لذةً واحـدة ً، مــن دون ضرورةٍ فاصلةٍ بين الجنس والدين والسياسة ؛ طالمـــــــا طاحــونةُ الخرابِ قائمةً على إمكانية توليد تابوات تجاوزت ثلاثية الضياع ،  وإنّ لاستفزازية العنونة الوقع الأكبر على النص ، حيت إنماز العــنوان بتصديرهِ التكــــــهن نوعاً ما  عن ما تنطوي عليه الصــــفحات ، مــــــن خروقات ٍفضّاحةٍ ومُعريةٍ لقلقِ الكينونةِ وعطبها بتـعاقبِ أزمنتها ، ،فمـــن مفتتحِ الرواية ِالقــائل ” ما من انتصاب إلاّ ويعقبه ارتخاء ٌ ،نرى أنه قـــد عتّـــب نصه بتخميات أصـّر على تحركِها بـيـن طيّات محكـياته ، ليمـنـــح القارئَ  الجرأة َ من اقتراحه انتـصـابات هو يتخيلها ،ربــــــــما تصل إلى التخــــــــيّل البيني  ،فالانتصاب من منـظارٍ فلسفيٍّ يُعنى بحـضورِ الآخر أو اقـتراح حــــــضوره على الأقل، ولم تـكتف بونوغرافيته بهذا الحدّ، إنما انغمر في  استعمالها مثلما فعلها مـــــــع اللغة، جاعلاً منها لوحــاتٍ ساخرةٍ بأُطر تنظيرية ،لينال بها من المفاهيم التسلطية للدول القامعـة لعالميـــة العربي ، أو ليُعلـــــــنَ عن تراثه المُحمل بالجنسِ وأسئــــــلةِ الجسدِ والتـذكير بما هــو مخبوءٌ مـــــنه ، تحت شعارات الشرف والعفة المُبطنة، وتـــــجـلّى ذلك في ص34 ، وما تضمــنت من تنظيرات حــــــول “عضو الذكورة”.

ما أدى إلى دخـول هيلين، العالم البــــــــــــرونوي للـبطل ” الـــــــروائي “، ثم لحقها حبـيبها كريسـتوف ليكونا تـحت المطرقةِ الجنســــيةِ لسوادِ الانتصابات العربية “الثورات”  والتي يرى الدبوسيّ أنّ ســبب سوادها يعود إلى هيمــنةِ دولا لقرار في الشأن الداخليّ ،إذا ما أردنا  الإحاطةَ بالروايةِ  أكـثر، فيـجب علينا عدم التعلّل بما عُرض سرداً ، بــل تكثيف الرؤيا عن عمق من حيث التنقل شبــــقياً

بين ثالوثيةِ الانتصابِ ، بتشهياتِ الحــــــــــــدث السارد لا المســــــرود عنه ، لأنَّ اســـتدعاءَ راوٍ يعني قتل الدهشة وموتها بالمرة، فكل عمـــل يبحث في الحلم واحتراقاتهِ لا يتحمل غيـر صوت حدثه.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.