الرئيسية | سرديات | الويل لمن لا يترك قصة في العالم | سعد محمد رحيم
سعد محمد رحيم

الويل لمن لا يترك قصة في العالم | سعد محمد رحيم

سعد محمد رحيم (العراق):

 

   في يوم ما، قبل أكثر من ثلاثين سنة، آمنت بمعجزات القصة القصيرة.. قلت: لن أخلص إلا لها.. لن أكتب في أي حقلٍ أدبي، أو معرفي آخر.. سيكون الارتباط بيننا كاثوليكياً خالصاً. لكنني خنت، في النهاية، هذا الوعد. ربما لأنه لم يكن معقولاً، وأطلقته تحت تأثير عاطفة قوية تليق بسن المراهقة. أو لأن ما أردت التعبير عنه، فيما بعد، لم يكن بمستطاع هذا الجنس السردي، وحده، الإيفاء بمتطلباته. غير أنني لم أقطع معها ذلك الحبل السري قط.. بقيت سنة بعد أخرى أقرأ القصص القصيرة وأكتبها.. أقترب منها كثيراً أحياناً، وأحياناً أبتعد.. ولكن من غير أن أفقد احترامي العميق لها، واهتمامي بها.. ومن غير أن أنساها. والآن أحسني وكأن في كل قصة كتبتها شظية من روحي، أو كما لو أنها طفلة من صلبي.

   نشرت أول نص قصصي وأنا ابن السادسة عشرة في مجلة للأولاد.. ومنذ ذلك الحين باتت الكتابة في هذا المحفل شغفي الدائم.. تأخذني الرواية حينا إلى عوالمها، وكذلك تفعل الكتابة في مجالات الفكر والنقد، لكن الحنين للقصة القصيرة لا يكاد يبارحني.. إنها بيت الطفولة القديم.. المنزل/ الرحم الذي يشعرني بالغبطة والدفء والأمان. والآن أعترف أن شعرية القصة القصيرة هي الأكثر توافقاً وانسجاماً مع إيقاعاتي الذهنية والنفسية والروحية.

   كان حلمي أن أعكس هويتي الوجودية وتجربتي في الحياة، وصورة العالم الذي خبرته وعرفته في قصة قصيرة واحدة، مبهرة، محكمة البناء، متعددة المستويات والأبعاد، مجللة ببعض الغموض الذي هو من طبيعة الأشياء، ومن قيم الجمال في الكتابة السردية. ويقيناً أن مثل هذه القصة تقع على تخوم المستحيل.

   لكل جنس أدبي وعوده، ووعود القصة القصيرة، باعتقادي، هي الأكثر رقياً وارستقراطية.. هنا أتكلم عن الجمال، عن صناعة الدهشة. فكاتب القصة القصيرة هو الصانع.. إنه المعني أكثر من أي مشتغل في الفنون الأدبية الأخرى بالدقة، والخفة، والانسجام، والتماسك، أي بتلك الفسيفساء من القيم الجمالية العالية كلها. لا لأن هذا الكاتب/ الصانع عليه أن يقتنص العالم في لحظة خاطفة ويعيد تشكيله وحسب، بل عليه أيضاً أن يكون حاذقاً في صياغة نصه، دقيقاً، صبوراً، يفصح عن مهارة لا تُكتسب بيسر.

   القصة القصيرة الجيدة نقية، ناصعة، وأية شائبة فيها لابد من أن تلفت النظر، لأنها تكسر ما هو متسق، وتربك ما هو متناغم، فهنا لا يُغفر لاختلال الإيقاع؛ لتعثرات اللغة وتناشزات البناء.

   جمال الرواية هو جمال النهر العريض المتدفق، أما جمال القصة القصيرة فهو جمال الساقية الصافية، وأكاد أقول جمال الشراب الملوّن في كأس شفافة.

   ليست للقصة القصيرة قواعد نهائية صارمة. وما يميزها عن بقية ألأجناس الأدبية هو وجوب وجود الخيط السردي بصوت راوٍ واحد في الأقل، وقصر الشريط اللغوي بالقياس إلى الرواية، فضلاً عن الشروط/ القيم الجمالية التي ذكرناها آنفاً.. وهذا ما يمنح كاتبها فسحة كافية للحركة الحرّة في التصوير، وتطويع اللغة السردية، واختيار الأسلوب والتقنيات الملائمة في بناء الحدث القصصي ونحت الجملة القصصية.. هنا نحتاج إلى الخيال المهذّب، لا المحدود.. التأنق، لا الافتعال والتزويق.. التشذيب لا الاختزال الفج.. فيما الفطنة واجبة في استثمار ممكنات الخيال وآفاقه.

   مع القصة القصيرة نكون في حضرة الجمال والثقافة.. نكون مع اللوحة والشعر والموسيقى أكثر من أي شيء آخر.

   حين نرحل تبقى القصص.. الويل لمن لا يترك قصة في العالم.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.