الرئيسية | سرديات | الوعر الأزرق | إبراهيم صموئيل

الوعر الأزرق | إبراهيم صموئيل

إبراهيم صموئيل  (سوريا ):

 

 الآن فقط، وسط المياه الزرقاء، على مسافة أبعد من قدرتي، وأنا أسفح، صامتاً، ما تبقّى من عزمٍ لديَّ لألحق بها.. أدرك أنني أخطأت خطأ مميتاً إذ قبلت دعوتها.

 ومع كل ذراع أخبط به الماء، آملاً في النجاة، يعضّني لوم بعد لوم فينهكني ويزيد من اضطرابي: ” ولِمَ قبلت يا سعيد!؟ لِمَ قبلت! لو تريثتَ قليلاً، أو فكَّرت لحظة لكانت عدلتْ عن دعوتها ربما، أو استطعتَ اختلاق ذريعة ما، أية ذريعة ولو واهية، وانتهى الأمر دون أن تجد نفسك هكذا، في خضم مواجهة لا تعرف كيف تنجو منها..” وأجاهد دافعاً جسدي نحو الشاطئ، هارباً من تقريع نفسي، فلا أقوى. لكأنما الملامات، إذ يعي المرء غلطته، تتجمّع عليه لتنهشه نهشاً كما يفعل سمك القرش بجثة مدماة.

حقاً كيف قبلتُ دعوتها!؟ كيف لم أمتنع وأنا أعرف تماماً أنها ابنة الشواطئ والبحر، الأمهر ضمن مجموعتنا في السباحة، وأنا وليد الجبال والوعر، الحابي في الماء كالأطفال!

وما يثير الاستغراب في قبولي أن أصدقائي أيضاً كانوا، في كل رحلة، ودون طلب مني، يحرصون على اختيار الشواطئ الرملية، متدرجة العمق، كي أتمكّن من اللهو في الماء دون خوف من غرق، إذ كنت بينهم الوحيد الجاهل بالسباحة والعوم في المياه العميقة.

  وبالطبع، ما كانوا، بسبب من جهلي السباحة، ليلازموني على تخوم الرمال، بل كانوا يمضون في العمق متسابقين، تموج ضحكاتهم ويصطخب صياحهم، فأمكث، مفرداً، وسط مسكبة ضحلة من المياه، متأملاً قوتهم وجرأتهم لهنيهات، إلى أن أغفل عنهم لاهياً مع وحدتي، أرشق الماء بالماء حتى أملّ، أو كنت أنظر إلى الأمواج كيف تندفع بقوة بداية، ثم تخور على الحصى مزبدة إلى أن تغور بين الرمال وتتبدد..

  في فسحات الوحدة تلك، بدوت لنفسي ثقيلاً، بليداً، مثل دبّ. أدور في المكان كسجين، عاجزاً سوى عن إرسال بصري نحو الأعماق المتلألئة، صافية الزرقة، واشتهائها. كم عزّ عليّ بقائي أسير جبني، وكم لعنت نفسي: ” كيف يستطيعون العوم ولا تستطيع!؟ جرّب، في أسوأ الأحوال لن تغرق هنا” ورحت أجرّب. حاولت وفشلت، ثم حاولت وفشلت.. إلى أن رأف البحر بيّ فعوَّمني على صدره.

وجننت!

 ما تركت الماء بعدها إلا لضرورة قصوى. هنا مملكتي. كأنما اكتشفت لعبة لا يعرفها الناس اسمها: السباحة! عومي شجعني على العوم. ذراعاً بعد ذراع شرعت أتسلل نحو العميق الأزرق، بعيداً عن حظيرة مسكبتي الضحلة، ثم أسارع إلى الشاطئ نشوان، مثلما كنت أدبّ، في طفولتي، على حواف الجبل الضخم ثم أهبط إلى سفحه حالماً بالصعود إلى قمّته، يوماً.

أأغراني البحر حتى غامرت كمجنون؟

أعترف بأن البحر خلبني وسلب روحي. شيء مجهول فيه سحرني. شدّتني إليه لذّة غامضة. ربما كانت لذّة الاغتسال من جبني وعجزي. ما إن ينسحب قاعه من تحت قدميّ وأعوم، حتى يجفل قلبي ثم يغرّد. ومن تلك المسافة المجهولة المثيرة، بين القاع وقدميَّ، ولد عشقي، حتى بتّ، إذ أعود إلى البلد، سارحاً في المراعي، مستلقياً على الأعشاب، أشعر بأن تلك السهول، متماوجة الخضرة، هي بحار أيضاً.

بلى.. أغراني البحر. غير أن اندفاعي الحاسم، مثل موجة، لم يكن بسبب من إغرائه فحسب.. في ندهتها، حين كنا قبل دقائق على الشاطئ، دعوة لا تقاوم. كنت خارجاً لتوي من الماء آن صفّقتْ مهلّلة: ” رائع يا سعيد.. رائع!” ثم ندهتْ بصوت راغب ودود: ” أتسابقني..؟”. دون لحظة تريث، استدرت عائداً: ” تعالي”. طارت كفراشة وحطّت إلى جانبي. تجمّع أصدقاؤنا مشجعين، وعدّوا: “واحد.. اثنان.. ثلاثة..” خوّضنا بضع خطوات، مبعثرَين الماء والضحكات، ثم غطسنا معاً.

وأعترف ثانية، بأنني ما عشت دقائق كنت فيها ذاتي كما في تلك الدقائق من شوط الذهاب.

في برهة، حين ندهتْ، خرَّ الدبّ صريعاً. ولحظة استدرت عازماً: “تعالي”، انبسط البحر أمامي كسهول البلد الخضراء. ومعها، حين خوّضت، انعتقتُ من مسكبة الماء الضحلة دفعة واحدة. وما إن غطسنا حتى غابت الدنيا كلها. خصلة الماء، الفوّارة الضّاجة بين جسدينا، صارت البحر كلّه. صاخباً، باذلاً من الجهد ما في روحي من توق، رحت أدفع ذراعاً بعد ذراع، وساقاً خلف ساق. لا انسحاب القاع شغلني، ولا المسافة المجهولة همَّتني. كنت أمضي رامحاً كما لو نحو الشاطئ.

غير أن الشاطئ كان خلفي، وخلفي كان يرتسم مصيري!

فما إن أدرت وجهي، ولمحتُ الشاطئ كيف ينأى فارّاً بالأصدقاء.. حتى تملّكني الرعب: “كيف قطعتُ تلك المسافة! وكيف سأعود؟!” التفتُّ إليها لأخبرها عن تعبي، بادرتني: “أما تعبت؟” أنكرتُ مكابراً: “أبداً”، غير أن لهاثي المتلاحق كذَّبني. عاودتْ بنبرة شاكَّة: “إذا تعبت أخبرني” وأضافت ممازحة: “لأنك غلبتني” ثم فوجئتُ بها، كأنها استشعرت حالتي، تنقلب بحركة رشيقة، عائمة في المكان، مثبّتة عينيها القلقتين عليَّ. قالت لترشدني دون أن تلفتني إلى مخاوفها: “أنا حين أتعب أنقلب على ظهري فأعوم من تلقائي دون جهد” ولتعلِّمني، انقلبتْ على ظهرها فانبسط لها الماء فراشاً من حرير. “تعال نرجع” هتفتْ وهي تجدّف بساعديها. “هيا” صرختُ كي أخفي عنها فزعي “لنعدَّ. واحد.. اثنان.. ..” وخنقتني ملوحة موجة جعلتني أسعل وأتفّ.

اندفعتُ، وقد جرَّحني ضعفي، فانسابت موهومة باندفاعي. كدت أستغيث: ساعديني، وخجلت. ثم عزمتُ، من ضيق صدري، لكنني تراجعت. كانت روحي تدفعني للسباحة وجسدي يثنيني. وبين تنازعين عنيدين، استطالت المسافة بيننا وامتدت. لكأنما كنتُ أراوح في مكاني في حين تغذُّ منسابةً.

وإذ أجهد الآن، بشقّ النفس، ساعياً خلفها، متشوقاً للوصول.. أتلفّت حولي، وقد بتّ وحيداً في هذا العمق، فلا أجد غير مياه تتماوج في مياه. لا صخرة. ولا رمل. ولا متكأ. أشجع نفسي فلا تجرؤ. إبطاي يتخلّعان من الألم، وساقاي تلوبان تحتي، واللوم لا يكفّ: “ولِمَ قبلتَ يا سعيد؟ لِمَ قبلت!” أقرّع نفسي وأنا أحاول رفع جسدي الثقيل فيهبط. أعاود رفعه فيغوص. كأني وسط حوض من الزيت. أستنجد من يأسٍ بآخر مَنْ تبقى لي: يا سعيد! ثم أخبط خبط عشواء، مشتهياً، في ومضة، مسكبةَ الماء الضحلة، حرارةَ حبّات الرمل، بياضَ الزبد فوق الحصى، القاع الراسخ تحت قدميَّ.. أرفع يدي مستغيثاً، منادياً، فلا يصل صوتي. أتعلّق بزرقة السماء، وأتلفّت حولي، تخنقني الملوحة. أجاهد منقلباً على ظهري، فأغطس كصفيح من المعدن. أتخبّط بكل ما تبقى من عزمي.. ثم أبكي. أبكي صارخاً، مُوَلْوِلاً، فيختلط الملح بالملح. يا أمي.. أنده وقد حجبت عينيَّ غشاوةٌ، لم أعد أرى غير الشاطئ الرملي البعيد، فوقه الأصدقاء، يعومون تارة، ويغطسون أخرى، كما لو كانوا في النزع الأخير.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.