الرئيسية | سرديات | الموعد | ابراهيم الحجري

الموعد | ابراهيم الحجري

ابراهيم الحجري (المغرب):

 

أنهى الأستاذ الجامعي الشاب محاضرته حول المناهج الأدبية في النقد الغربي، وقبل أن ينسحب، جمع لوازمه وكراساته ووضعها في حقيبته الجلدية الأنيقة، فهبت عليه عاصفة عطر قوي نفاذ، استثارت لبَّه، قبل أن يرفع عينيه إلى وجه أنثوي ملائكي يحمل روعة الصباح. في البداية أحس نبضا خفيفا متحرجا يهز كيانه، سرعان ما أخذ يتبدد؛ رويدا رويدا لما تيقن من استئناسها به وارتياحها لحديثه. تطلع إليها مبهوتا؛ وقد توقفت حركات يديه المنشغلتين بجمع اللوازم في الحقيبة. كانت عيناه الحائرتان تستفسرانه عن سبب هذا العصف الصباحي. وكان وجهها يشع ثباتا وقوة:

– أستاذ، من فضلك، لقد أثارتني محاضرتكم الشيقة حول المناهج، واستمتعت بسعة درايتكم بالموضوع. وقد اخترت موضوع البحث هذه السنة حول المنهج السيميوطيقي بين النظرية والتطبيق من خلال الرؤية الكريماسية. فقلت أستشيركم وأستفيد من تجربتكم وباعكم الثري في هذا المجال؛ خصوصا أنتم تعلمون أن المراجع والمصادر نادرة في هذا الباب وأغلبها باللغة الأجنبية، فهلا ساعدتموني جازاكم الله كل الخير؟

ظل واجما ينظر إلى سرائرها العميقة ويحدق في عينيها الجسورتين، كان يحس أنها تسبر أغواره ولا يفطن إلى أغوارها، تَسْتكنه خباياه ولا يصل إلى نبضها، تظاهر، لحظة،  بالتفكير، ثم عاد إلى جمع حقيبته وترتيب نظاراته الدقيقة ومعطفه السماوي. وحاول أن يتماسك ويعيد هيبته. ثم أطلق بصره، بعيدا، يترصد إن كان أحد  يلاحظه. وقال باقتضاب:

  • أجل، يمكنك الاعتماد علي… عندي مصادر ومراجع وبحوث… يمكنني أيضا أن أوجهك، لو أردت، تجدينني في مقهى” الجوهرة”…

ثم ابتسم لها نصف ابتسامة وانصرف مسرعا ينزلق طيفه النحيف بين حشود الطلبة والطالبات.

مرت أسابيع لم يلتقيا خلالها، لكنها ظلت تترصده؛ وظل كلما رفع بصره نحو مقاعد الطلبة المحتشدة، إلا وطالعه وجهها بالسحر نفسه وبالتأثير الذي لم يستشعره يوما في حياته، هو الذي كان يظن أنه عرك  بحر النساء، على شساعته، وجرب  حربهن، على شدة صهدها…

“لكن لماذا كلما نظرتُ إلى هذا الوجه؛ أحس بهزيمة نكراء تجتاح الدواخل وتكسر الأعماق؟ لماذا أشعر أنني مطالب بفعل شيء ما تجاه هذا الكائن، شيء ما تنطقه الأعماق اللعينة؟”.

كان يهتف بحرقه عنيدة  لذاته، ويكابد همه في صمت.

غير أنه، وفي مساء مطري بارد، حينما كان يستعد لإغلاق باب سيارته ومغادرة الكلية، داهمه الوجه نفسه، مُحمَّلا بكل تفاصيل الإثارة، ولم يستطع أن يتذكر ما الذي أحياه فيه ذاك الهبوب المسائي المفاجئ، كما لم يستطع أن يتذكر ما إن كانت ترتدي فستانا أم بذلة رومية أم سروال دجينز، كما أنه ظن، بنفس الطريقة، أن سيارته مرتفعة الحرارة فوق المعتاد رغم أن الجو شتائي وبرد” الليالي” قد كشر عن أنيابه، وقفتْ ولم تنطق ببنت شفة، وظلت، بالباب، واجمة يانعة كشجرة لوتس. قال لها، دون أن يستطيع دفع ارتعاشة عن شفتيه الممتلئتين:

– هيا، اطلعي، تذهبين إلى سيدي الضاوي أو حي الصفاء أو البركاوي؟

– لا، أنا أقطن بحي القلعة.

– على كل حال، فتلك طريقي، أنا طالع لديور الأمان  بحي السعادة الثالثة…

– تُشْكرْ يا أستاذ!

– لا داعي لذلك… أستاذ في المدرج، نحن، الآن وهنا، خارج الجامعة مجرد أصدقاء. تلك المفاهيم لا تروقني، وعليها أن لا تطاردني حتى في الشوارع وباحات المدينة!

– هذا تواضع منك!

– العفو!

         صعدتْ فشربهما الطريق. وأثناء المسير؛ كان منتشيا مسرورا، ملفوفا بفرح غامض. مرت اللحظة كالبرق، وجد نفسه مرغما على المسير وحده، بعد نزولها، المدينة مشمولة بالظلام والوحشة، ورغم سقوط المطر، كانت الشوارع تحتفي بالناس والأضواء، وكانت المظلات ترقص فوق الرؤوس مثل صحون مقلوبة… وجد نفسه مداهما برجفة برد فأسرع قليلا وأشعل الأضواء…

استدفأ بلفافة تبغ. وقبل أن يصل إلى شقته؛ تنبه إلى أن الفتاة تركت له بطاقة قبل أن تنزل، التقطها. وضعها في جيب سترته. وقبل أن يقرأها، كان لا بد أن يهيئ الطقوس الملائمة للحظة مثل هاته: أشعل الفوانيس الخضراء الخافتة وأحضر كأس قهوة معطر بالقرفاء ثم استلقى على الأريكة؛ بعد أن شغل التلفاز واختار قناة ميوزيك بلوس، فتح البطاقة وقرأ:

         ” انتظرْنِي يوم السبت على الساعة السابعة مساء، لن أزعجك في جلسة المقهى مع الأصدقاء. أود، لو تسمح لي، أن أجتاح خلوتك بشقتك. أعرف أنك وحيدا، مثلما أعرف أنك تسكن في شقة بالطابق الثالث من إقامة الفردوس، عمارة القرنفل، انتظرْني بشقتك، سأكون في الموعد. وتأكد أنك لن تندم”.

  وفاء

تزلزلتْ أعماقه؛ فأعلن قلبُه حالة الطوارئ: خرجت البطاقة من جمجمته لكن وفاء (لم يكن يعرف اسمها من قبل) دخلت قلبه، واتخذته مسكنا. أحس بعاصفة تحدث خارج البيت في الظلام الدامس؛ فأحكم إغلاق النوافذ وحاول أن ينام.. لكن هناك شيء ما يحول دون ذلك. شيء ما يتشكل في الدواخل، يحسه ولا يعرف كنهه، عاصفة خارج الجسد وعاصفة داخله.

         طيلة اليومين المتبقيين، ظل ساهيا واجما يدمن المقهى والسجائر ويعد الدقائق التي كان ينبض بها القلب، لكنه، في كل مرة، كان يتصور شكلها، قوامها، سمرتها، لثغتها البربرية، شعرها الكوريسيكي، عينيها الشهلاوين وتضاريس أخرى آسرة…

ظلت مشاعره متوترة في أغلب الأوقات. تعطلت جميع الرغبات لديه، ولم تتبقّ سوى تلك الهمسة الجميلة، في ذلك المساء البارد الموحش.»إلى اللقاء”، نطقت القاف كافا مرققة مصحوبة بغنة رائعة تفيِّض الخلايا النائمة وتحيي القصائد البائدة. وظل، برباطة جأش، يحاول تمالك نفسه النافرة وإعادة التوازن إليها. فرأى أن يعود لقراءة بعض الروايات الآسرة، أو يطالع بعض الجرائد أو يتابع الأخبار والتحاليل على شاشة القنوات العالمية أو يستمتع ببعض أفلام الأكسيون…

دخن كثيرا، مثلما يليق بعاشق قديم، وملأ المطفأة عشرات المرات، وامتلأت سلة مهملاته الموضوعة بعناية قرب الباب بعلب السجائر. وفي الليل؛ كان يحلم بفرح، وفي الصباح يجد بللا بأثوابه الداخلية. يستيقظ نادما. يقصد المقهى الشاطئي، يحرق الكثير من الوقت والكثير من السجائر، ويعب الكثير من القهوة السوداء، ويعود في القيلولة مهروس الدماغ.

         ها هو المساء الموعود، المزحوم بالرغبات والهواجس، يطل من فجوات هذا الصباح، وها إن عطر كل النساء هب مع أول شعاع انفلت من قبضة الغياب ليغمره وحده في شقته الباردة بالطابق الثاني، وجد نفسه يمتشق كل حماس الدنيا مغلفا بفرح غامض، ولكم أن تتصوروا كيف يمكن لعازب مثله يمتلك سريرا من سبيريا وجسدا إفريقيا أن يستعد لاستقبال ذلك الدفء البري. وكيف يمكنه أن يجتهد لإرضاء هذا الدفق العاطفي العارم… لقد استفاق مبكرا على غير عادته، وتزين بما يليق بعاشق ينتظر أنثاه، وحشد نفسه بأنواع الهمم والفحولات والفروسيات بما يليق ببطل روماني، ورفع من معنوياته حد الامتلاء وتأبط ضحكته الدبلوماسية وقصد سوق أسيما… اقتنى شرائح اللحم والفواكه والعصير والتبغ وكمية من الخضر وملأ القفة عن آخرها ثم أضاف كيسا بلاستيكيا وضع فيه بعض أنواع البيرة والويسكي فرحا كمضياف عربي عريق.

         اليوم لا نوم ولا قيلولة، والجسد جذلان يغني أغنيات غريبة والنفس متيقظة والأشواق نهر فائض. لا اطمئنان: فوضى الرغبات تلهث قرب الباب تستبق الحدوس، وتترصد كل خطو يهسهس أدراج السلم. أي سبيل إلى النوم والخلايا متهيجة ترقص كلها طربا لحفل قادم تنفك من خلاله عقدة لسانها فتعزف كل الألحان نشوانة بعزف محتمل وشيك…

التنهيدة تلو التنهيدة، والسيجارة تشتعل من عقب أختها، الأذن على الباب والعين على النافذة والأنف يترقب العبير في الطرقات المجاورة. تزهو المائدة بنشيد الامتلاء. ترقص الكؤوس رقصة الكدرة، والقنينة ملكة والبيرة جوق من العازفين الغرباء، والعطر المبخر يصَّاعد من مجمر قريب مركون في زاوية معتمة والسرير جحيم يفور، يغلي، يصبح المرسم والمسقاة و(…).

كانت الساعة الحائطية تشير إلى السابعة مساء، عندما كان وقع خطى أنثوية يصعد الدرجات بحذر. توقفت الأنفاس معلنة حالة الطوارئ، سكون غريب يهتف بالصمت، حتى الحاكي الذي كان يقول معزوفات تركية صامتة توقف محتفيا باللحظة. تتوقف الخطوات. طرقٌ خفيف على الباب… نهضَ مرتجفا، بأيادٍ متخشبة باردة فتح الباب بفتور. تنحنحَ مصطنعا بسمة دبلوماسية ليخرج الضيف من فواصل الحرج… يرفع عينيه: يا لوقع المفاجأة! أمه بالباب.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.