الرئيسية | سرديات | اللسع أكثر من العسل | محمد بنميلود

اللسع أكثر من العسل | محمد بنميلود

اكتشفت بالصدفة أني كاتب قصة، وأعجبني ذلك كثيرا، فواصلت كتابة القصة.

القصة جنس أدبي فاتن، البعض لا يستطيع أبدا الحديث عنها إلا بربطها بالرواية، مثلما لا يستطيعون أبدا الحديث عن فتاة جميلة، إلا بربطها بالزواج. بينما القصة جنس أدبي مستقل بذاته وصفاته بحدّة شديدة، ودون أي مجال للشك أو للخلط أو لضعف النظر.

أكتب الشعر والقصة والرواية، وأنا مستعد في حقيقة الأمر لكتابة أي شيء قابل للكتابة عبر أي جنس من الأجناس الأدبية، لكن علاقتي بالقصة خاصة جدا وحميمة جدا. إنها علاقة حب متبادل بيني وبينها خال من أي كلفة أو مسؤوليات مجتمعية أو أعراف وتقاليد. ألاقيها خفية بعيدا عن الأنظار والتوقعات وأجدها دائما في انتظاري، في كامل فتنتها، ورقتها، ورشاقتها، واقتضابها، وخجلها، واستعدادها الفطري للخيانة. هذا هو ما يجعل علاقتي السرية العلنية بها أبدية، متقطعة، ومتتالية، كنبضات.

   طبعا أتحدث هنا بالضبط عن القصة القصيرة، دون غيرها، وحين نضيف كلمة: قصيرة، لا يكون ذلك إطنابا في الوصف أو حشوا، بل دقة ميليمترية لازمة في الأدب كما في الرياضيات. إنها قصيرة لكنها ليست صغيرة، إذ لا يمكننا اعتبار جوهرة صغيرةً فقط لأنها صغيرة، واعتبار شاطئ من رمل الحكي الرتيب اللانهائي كبيرا فقط لأنه كبير.

   كان هناك خلاف لسنوات ومازال حول الجنس الأدبي الذي يمكننا اعتباره ديوان العرب، أو ديوان العصر، البعض انتصر للشعر، والبعض انتصر للرواية، وهكذا كل مرة ترجح كفة من بين هاتين الكفتين، بينما تظل القصة كل مرة، منتصبة في الوسط بدقة، كإبرة الميزان النحيفة، غير مرئية دائما للوازنين والكيّالين. تحتاج القصة القصيرة لوزنها إلى ميزان الصائغ، ذلك الميزان الصغير جدا للمقادير غير المرئية، اللمّاع في الشمس كما في الظل، المفقود في الأسواق الكبيرة والمرائب وأهراءات المؤونة.

لكن، بعيدا عن التنظيرات الأدبية والاستنتاجات النظرية المتفق عليها في الغالب بإجماعات فقهية، فالواقع الحديث يفرض نفسه على الأرض الحية، سابقا المنظّرين بأميال كثيرة، مخلّفهم وراءه، إلى درجة أنه لم يعد مرئيا لهم، ولا هم مرئيين له. فارضا أساليب تعبيره الأكثر تطورا ونجاعة وسرعة وكفاءة، منتعلا حذاء القصة الرياضي، وشورتها القصير، واقتضابها الحكيم.

إنها ديوان العصر الحديث على الأرجح، والغائب اليوم في الأدب المكتوب باللغة العربية ليس القصة القصيرة كما يعتقد كثيرون من الذين لا يبصرون إلا بنظّارات، بل الغائب هو العصر ذاته. أما القصة بندرتها التي للمجوهرات، فحاضرة ولمّاعة لمعانها المصقول السحري، حتى في غيابه.

لذلك سنواصل كتابة القصة القصيرة، هذا الجنس الأدبي الفاتن، الدقيق كمشرط، والمفارق، القادر على الاختصار أكثر من الإسهاب، وعلى اللسع أكثر من العسل، وعلى الزوال أكثر من الخلود. هذا الجنس الأدبي القادر على كل شيء.

سنواصل كتابته وعشقه، مؤمنين به وبالمستقبل أكثر من الماضي، وبالحي أكثر من الميت.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.