الرئيسية | سرديات | الصَّوتُ والصَّدَى | صفوت فوزي

الصَّوتُ والصَّدَى | صفوت فوزي

صفوت فوزي (مصر):

 

أنفاسُ البلدة تأتي إليَّ زاخرةً بصخبٍ وبهجةٍ. الأضواءُ المبهرة، اللغط والتصايُح ونداءاتُ الباعةِ الجوَّالين تتجاوبُ وتترامَى. الناسُ تحت سماءِ الليل أمواجٌ تروحُ وتجيء. تدور في الساحة الممتدة وسط السرادقات والخيام المنصوبة، مغروزةً أوتادها في الأرض. ريحٌ طيبةٌ تهبُّ على الوجوه فتبترد. قررررب. قرب. قرب. بتسعة مليم التذكرة والمفلس يرجع ورا. قررررب. الساحر الهندي العجيب. الراقصة اللولبية. الشيكا بيكا. البقرة العجيبة. الصعيدي والبحيري. العرض هايبدأ حالًا. قررررب.

شاطئ “الحلوة” ممتلئ عن آخره بخيام الزوار المرابطين منذ بدء الصِّيام. لاعبو الثلاث ورقات. المراجيح. بائعو الطراطير الملوَّنة الزاهية. دقاقو الوشم والصلبان بماكيناتهم الزنانة. أكوام الحمص الأصفر وأقراص السمسمية والحمصية والفولية. ألفُّ وأدورُ بين وجوهٍ مستبشرةٍ راضية. يقتنصون لحظاتٍ من الفرحة تبقى ذبالتُها معهم حين يؤوبون إلى مضاجِعِهم. يجترونها في أماسيهم الطويلة.

أنحرف يسارًا إلى الممشى الضيق، يحتشدُ على جانبيه بائعو الصور والأيقونات. المنشد الضرير الضاوي الجسم يتلو ألحانَه القبطيةَ العتيقةَ على إيقاعات الدَّف. في الفناء الوسيع يفترش الكثيرون الأرض فيما يتهادى همسُ الصلوات والاستغاثات غير المستبينة. صدح التراتيل وسط الضجيج تحمله الريح، تدورُ به على الزائرين والعابرين في الطرقات.

على ذراعها اليُسرَى تحمله، فيما انتصبت يدُها اليمنى مفرودة الكف والأصابع تردِّد خلف الكاهن: أجحدك أيها الشيطان.

أمام “جرن المعمودية” المملوء بالماء، خلعوا ملابسه. عاريًا كما ولدته أمه يضرب الهواء بيديه الصغيرتين صارخًا.

ثلاث مرات غطسه الكاهن في الماء. رفس بيديه وقدميه الصغيرتين بطن الماء. تعالت صرخاته والماء يقطر من الجسد العاري. تمتم الكاهن بأدعيته.

غريق. غريق. شقت الصرخة الجموع المحتشدة كسهم نافذ مفاجئ اخترق الأحشاء واندفن عميقًا فيها. تلقي بالروع في الصفوف الكثيرة المتزاحمة. يعلو الصريخ ويضطرب. دبت امرأة على صدرها تقول: يا قلب أمك. كل سنة لها واحد أو اثنين في المولد. الترعة المشئومة.

في المرة الأولى– حين رفع يديه– ظنوه يحييهم. في الثانية قالوا: يمثل. في المرة الثالثة، رعشة التحدي والاقدام تزوى وتتراخى. يشرق بالماء. يكاد يشده التيار إلى الأعماق. كان التعب قد نال منه، وذراعاه قد ثقلتا وأصبحتا عصيَّتين على الحركة. الأصوات تقرع أذنيه ثم تعود لها أصداء مكتومة تصل إليه من قرار جُبٍّ سحيق. سقط في هوة عميقة تتلقاه في طيات مائها المدوم.

كان لم يزل يبكي. ألبسوه رداءه الأبيض. طافوا به أرجاء المكان مرتلين مهللين. ارتفعت الزغاريد وغمرت المكان رائحة بخور فيما كان الكاهن يتلو: أيتها الكنيسة المقدسة، افرحي وتهللي، ومدى يديكِ، واقبلي مَن وُلِد ثانيةً من الماء والروح.

منتفخا مائلًا للزرقة كان جسده. مسفوحًا على الظهر، شاخصًا للسماء مفتوح العينين، مستباحًا للريح وأسماك النهر. صفير المزامير ودق الدفوف وترداد الألحان يتناهى من بعيد. الأمواج تتقلب بهدوء، تترقرق عليها الأضواء.

  • ● ●

الحواري الضيقة المتلوية على نفسها. الليل حالكٌ، مُحمَّلٌ بالسرِّ والهيبة. حيطان البيوت جهمة مُحاصَرة مُهدَّدة، والطريق لا يخلص، لا ينتهي. أحسست بجانبي أنفاسًا حارة. تلك العينان أعرفهما. عينان غزيرتا الطلة، نافذتا النظرة، يتقطر منهما ودٌّ سيال. عرفته. حضورًا مُجسَّمًا في الصمت الرازح، لكنه يروغ كظلٍّ منسحب. وكأنني رأيته في الظلمة المطبقة. هو، هو، ما في ذلك شك. لكنه مات، غرق. رأيته ورآه الكل طافيًا على مياه “الحلوة” منتفخ الوجه، نصف غارق في الماء، وجرفه التيار ناحية “سرياقوس”. أنينه الخفيض، خاضع ومتوجع، ساطع الوجه كان يعبر الحارة في حلكة الليل.

أمضي مليئًا بالخوف والتوجس. قشعريرةُ فرح تشملني وأنا أطالع وليدي مقمطًا في رداء أبيض حيًّا ونابضًا يضرب الهواء بقبضتيه الصغيرتين الطريتين ويبتسم في وجهي.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.