الرئيسية | بالواضح | الصورة في الإسلام المعاصر: الشرائع المتلفزة | عزالدين بوركة

الصورة في الإسلام المعاصر: الشرائع المتلفزة | عزالدين بوركة

عزالدين بوركة

1

قد يتساءل سائل ما نعني بالإسلام المعاصر… ليس أكثر من الإسلام الحالي الذي يزامن هذا العصر.. ونحن لا نكتب الآن لتبيين تاريخ الصورة وأي علاقة تربطها بالدين الإسلامي… ولا نتحدث عن لاقدسية أو قدسية الصورة في الإسلام.. يصب حديثنا، في هذه الزاوية، عن تلك الشرائع الدينية التي يبثها التلفاز على طول الجغرافية المشرقية والمغاربية.. ونحن لا ننسى الذكر هنا أن ذلك الجهاز العجائبي “صندوق العجب”، الذي يدخل صورة الرجال لبيت فيه نساء… والذي يبث صوت المرأة العورة… قد تم تحريمه بادئ وصوله لهذه الجغرافية “العجائبية”…

إن تم تحريم التلفاز، فلم تسلم، من ذاك، آلات واختراعات قبله، من المطبعة التي اتهمت بتدنيس القرآن ومحاربة الكتبة والحفظة… إذ لا يعقل أن يطبع الكتاب المقدس بآلة اخترعتها يد مدنس. ولم يسلم الميكرفون الذي يهدد بجهر المرأة بصوتها أعلى من الرجل.. ولم يسلم من التحريم أيضا، التلغراف، هذا الاختراع الثوري الذي وحد دول أمثال أمريكا زمن الحرب الأهلية، هذا الجهاز الذي سهل نقل المعلومة وسرعتها عبر أسلاكه، حورب ومونع من بث أخبار مواعيد الصلاة وتواقتها وخبر ظهور الهلال إعلانا ببدء رمضان، وخطابات دينية… إذ إنه جهاز تسكنه أرواح جنية صنعته أياد الكفرة…

وإن حرم التلفاز سلفا.. فقد صار آلة قوة وجودية بيد رجال الدين الذين سبق وحرموه..

لقد أحدث قرار بث الآذان عبر “صندوق العجب” ضجة كبرى، إذ كيف يعقل أن يبث ما هو مقدس عبر ما هو مدنس… إنه تهديد وجودي لمهنة المؤذن.. ولن تطال أعناق أناس يوم القيامة.. إلا أنه كانت للسلطة كلمتها، ورضخ رجال الدين، ولم تضع مهنة المؤذن، حتى مع ظهور الهاتف وتطبيقاته “الذكية”… فالتحريم عادة ما يقام على اعتبارات سلطوية وخوفا من ضياع السلطة الدينية من رجالها. وحدثت ذات الضجة مع بث الصلاة، صلاة الجمعة، عبر التلفاز… علت أصوات تهلهل بخوفها من فقدان المسجد “لقدسيته”، و خوفا من أن ينتقل إلى كل منزل، وتضيع روح الجماعة، التي يبنى عليها الدين. وهل سيصلي المرء خلف مكعب؟ خلف صورة؟

إن المسلم لم يسمح لنفسه بأن يعتبر الصلاة في التلفاز “قداسا”… إذ لم يعتبر الصلاة في التلفاز صلاة، من أصله… إنها قداس بلا قدسية.. قداس ناقص.. إن الصلاة قداس وشريعة جماعية، إنها عماد الدين المبني على الجماعة، فالصلاة في المسجد بمائة ضعف من الصلاة الفردية…

إنك لا تصلي أمام وجه الإمام.. كما يظهر في التلفاز.. إنك تصلي خلفه، خلف ظهره.. و”ليس هناك من حضور عن بعد حقيقي بين البدن والدم” أو هكذا يخبرنا ريجيس دوبري (حياة الصورة وموتها، ص 243 ).

****

2
«لا رهينة في الإسلام”.. هكذا يخبرنا حديث منسوبة إلى الرسول محمد. ولا شيء مقدس في الإسلام إلا الحجر الأسود.. وهذا ما نسمع.. اليوم نحن أمام رهبنة جديدة وحجر مقدس جديد.. إنه حجر يمحو الذنوب جميعها، عن بعد. إنه “مكعب الراهب”.. لقد صار الداعية الإسلامي راهبا… يمسح ذنوب الناس، يكفيه الظهور على شاشة التلفزيون.. ليمحو أوزارهم. إذ يكفي أن يتصل متصل ويترك “ذنبه”، يشهر به.. “وإن أبتليتم فاستتيروا” لا معنى لها هنا.. الراهب الداعية لديه الحلول الفورية… زمن السرعة دخل للدعوة والإرشاد. الداعية يعلم دواء كل شيء وكل الذنوب وكل الأوزار والعين والجن والحسد… إنه “أب pape” بالمعنى المسيحي إلا أنه بمعطف إسلامي. وأما الغرفة المعزولة فقد أخذ مكانها التلفاز (الغرفة المظلمة).

لم تعد هناك ضرورة للرحيل والسفر والتنقل صوب طارد “الجن والشياطين والعين والحسد….” التلفاز يفي بالغرض، فقد صار الطارد الداعية والراهب الجديد، يظهر عبر كبسة زر. إنه في كل مكان، أو بالأحرى صوته وصورته في كل مكان. يكفي أن يضغط المرء على آلة التحكم عن بعد، تلك الآلة التي تمنحه سلطة لا مثيلة لها، سلطة التنقل بين بقاع العالم بلا أي حركة، يكفي ذلك حتى يشتغل الداعية ويعمل في مباركة المنزل والأسرة والبدن ومطاردة السوء… إنه قداس من نوع جديد، قداس متلفز. إلا أنه مدفوع الأجر آلاف المرات.. إنك لا تقدم “البركة” للطارد الشيطان، بل تقدم نفسك كأداة استقطاب، أداة استهلاك، وخزان لمواد استهلاكية، في الذاكرة. إنه أكيد وأنت تمر في سوق تجاري بمقربة بضاعة صاحبت صوت الداعية، تتحرك الذاكرة واليد، إنها بضاعة تم مباركتها… إنه بهذا المعنى النفسي “استدعاء”، دعوة ودعاية. سلطة المقدس بمعنى آخر. أو “استدعاء ايديولوجي”، تصير معه البضاعة “ماركة مقدسة” ويصير الشراء نوعا من تقديم “البركة المضاعفة” للداعية وطارد الأرواح.

خرج القداس المتلفز من مكعب العجب إلى السوق. وإنه ينتقل من الصورة المتلفزة والصوت المسجل إلى الذاكرة. ويصير سلطة استهلاكية وربحية. وتصير بالتالي الشعائر أداة ربح لا عبادة. وإن كان السوق قد جاور دائما المسجد، فالسوق اليوم يرتبط بصوت الداعية وصورته في التلفاز وبرنامجه وقناته. ويصير التلفاز مسجدا، وآلة استقطاب ايديولوجي واستهلاكي، وماحيا للذنوب، إنه صك غفران جديد.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.