لا تكفّ إمارة الشارقة عن الاحتفاء بالمسرح والمسرحيين في الوطن العربي، من خلال هيئاتها المتعددة، منها “إدارة المسرح” التابعة لـ”دائرة الإعلام والثقافة”. فمن مهرجان إلى مهرجان ومن ملتقى إلى ملتقى ومن جائزة إلى أخرى، حتى باتت جديرة بلقب “عاصمة المسرح في الفضاء العربي”.
هذه المرة، توجه اهتمام “الدائرة” إلى المسرح الثنائي، أي الذي يمثل فيه شخصان، من خلال “مهرجان دبا الحصن للمسرح الثنائي” في دورته الثانية، الذي يعدّ سابقة في المشهد العربي، ودعيت إليه فرقة مسرح الشارقة الوطني، بمسرحية “اسكوريال” لحميد سميج، ومسرحية “صفحة 7″ من لبنان، و”النافذة” من البحرين، و”عقاب أحد” من تونس، و”حلم” من سوريا”. اختلفت في الجماليات، والتقت في مخاطبة الذات والبحث عن أفق بديل للحاضر المشوّه.
لم تقتصر المشاركة في المهرجان على الفرق العارضة، بل تعدّتها إلى عشرات المسرحيين والكتّاب والإعلاميين، ممّا جعله منصة للحوار وتبادل الأفكار والخبرات، ولا شكّ في أن ذلك سيثمر شراكاتٍ وعلاقاتٍ مسرحية، تعمل على ردم الهوة بين المسرحيين العرب. كما أن طبيعة المكان والإنسان، في مدينتي “دبا الحصن” و”خوفركان” الساحليتين، ساعد على خلق مناخاتٍ حميمة وتأثيث اللحظة بالعميق من التواصل.
ضمن المهرجان، تمّ تنظيم الدورة الرابعة عشر لـ”ملتقى المسرح العربي”، وقارب موضوعة “المسرح والرواية”، في تقاطعاتهما المختلفة، في ظل حاجة عربية إلى ما يرفد النص المسرحي الذي يعد العمود الفقري للفعل المسرحي.
في السياق، قال الشاعر والروائي والإعلامي والكاتب المسرحي المصري وليد علاء الدين إن الكتابة فعل صعب والحديث عنه أكثر صعوبة، “رغم ذلك سأتحدث عن تجربتي الشخصية، من باب أن التمثال ماكث في الصّخر، فقط ينتظر من يكشف عنه، من خلال نصي الروائي “ابن القبطية” الذي تحوّل إلى نص مسرحي حمل عنوان صورة يوسف”. هنا قرأ الكاتب مفاصل من النص المسرحي، وما يقابل مناخاته في الرواية. الروح بقيت هي نفسها، لكن التناول ظهر مختلفًا، انسجامًا مع طبيعة المسرح.
وتحدثت الكاتبة الإماراتية فاطمة المزروعي عن تجوالها بين الأجناس الأدبية، القصة والشعر والرواية، ثم عن تجربتها في الكتابة المسرحية، وعن اختلافها عن الأجناس الأخرى، فمسرحية “الطين والزواج” تناولت موضوع الهوية والصراع، وهي محاولة تجريبية في المسرح الصّوتي، أما مسرحية “حصة” فقاربت المرأة بصفتها صورة مفتوحة على المعاني الإنسانية. ” من هنا، لا بد أن نهتم بالمسرح أكثر، لأنه الأقدر على احتضان الهموم والأفكار والأجناس، باعتباره أبا الفنون فعلًا”.
وقال الكاتب المسرحي الجزائري مراد سنوسي إنه اشتغل على 16 نصًّا مسرحيًا نصفها تأليف أصلي، والباقي مقتبس من روايات، منها رواية “الاعتداء” لياسمينة خضرة و”أنثى السراب” لوسيني الأعرج، وقد عرضتا في الجزائر. وأرجع سنوسي هذه النزعة الى علاقته بالمسرح أصلًا منذ 1979، “أينما أجد موضوعي آخذه، سواء في الرواية أو في المسرح، بعض الروايات التي اشتغلت عليها تتميز بالإيقاع السريع، عكس رواية الأعرج، فقد كانت ذهنية وتجريدية، وفيها الكثير من السرد، لكنني اخترتها رغبة مني في التوثيق لمرحلة العنف في الجزائر، مخافة أن تتغلب علينا ثقافة النسيان الذي لا يقلّ تدميرًا عن الإرهاب، وبعد العرض تم نشر النص المقتبس ورقيًا”.
من جهتها قالت الأكاديمية المصرية أسماء يحي الطاهر: “كان موضوعي في الماجستير عن المسرح والرواية، انطلاقًا من كوني ابنة الكاتب يحي عبد الله الذي كتب رواية تحولت إلى مسرحية هي “الطوق والإسورة”، ونالت نجاحًا. وتقصدتُ أن أكشف مناطق الضعف في النصوص المسرحية المقتبسة من الروايات، باعتبار أن الأصل يبقى أقوى من الناتج عنه”. أضافت: “اشتغلت على التقنيات التي يعتمدها المقتبس في تكييف الرواية مسرحيًا، منها تغيير طبيعة الراوي والزمن الذي يشتغل عليه/ فيه، وطبيعة المكان، إذ يكون متعددًا في المتون الروائية، واقعية ومتخيلة، بينما يكون واحدًا في المسرح، وإن تعدد، فتلعب العناصر المسرحية، مثل الإضاءة، على التكفل بذلك. من هنا أشرت إلى هوامش تدخل المقتبِس في النص الروائي”.
ونسب المخرج المسرحي المصري ناصر عبد المنعم، الذي أخرج نصًّا مقتبسًا من رواية “الحوات والقصر” للطاهر وطار، بداية ثمانينيات القرن العشرين، انتعاشَ ظاهرة الاقتباس من الروايات، إلى وقوع النّص المسرحي في وحل ادعاء امتلاك الحقيقة، والانغلاق على موضوعة العلاقة التي تجمع السلطة بالشعب، وانتصرت لطرف على حساب آخر، مما أفقدها مصداقيتها الفنية. “فكانت الاستعانة بالمدونة الروائية الثرية بتعدد الأصوات، طريقًا للانعتاق من هذا التناول الأحادي”.
وذهب الروائي والسيناريست المغربي يوسف فاضل إلى أن الخشبة حيز ضيق، والديكور متقشف وقوة المسرح في المباشرة وما تمنحه من انفعالات، بينما الرواية عالم من ورق مفتوح، فالروائي يبني أحداثًا، وفق تصور فرداني يتم في العزلة، بينما المسرحية متعددة الأصوات التي تتحرك جماعيًا، فانتقال الرواية إلى المسرح هو انتقال إلى الضجيج. “النص المسرحي عالم غير مكتمل، وتبقى ثقوبه فاتحة فمها، وهو ما ينعش روح التأويل”.
وتساءل المسرحي اللبناني مصطفى مشهور: “ماذا نريد من عنوان الملتقى؟ هل نريد المقارنة بين النص المسرحي والنص الروائي، باعتبارهما جنسين أدبيين؟ أم تحويل النص الروائي إلى الخشبة المسرحية؟ ذلك أن لكل واحد منهما بنيته الخاصة به، ومنه “لا بد من منهجة الموضوع حتى نستطيع أن نجي ثمارًا يحتاجها المسرح والسرد معًا. وقال مشهور إن الزمن في الرواية غيره في المسرحية، وكذلك الحوار والشخوص والإيقاع والفضاء والحدث، “ونقل ذلك كله إلى العرض المسرحي الذي يقوم على الحسية يقتضي وعيًا خاصًّا، بما يوصلنا إلى الخشبة العارفة”.
وهو ما وافق عليه الباحث التونسي حافظ الجديدي، بالقول إن الرواية والمسرح يشتركان في الاشتغال على الخرافة والحوار والشخوص، “من هنا، فهل الروايات كلها قابلة للمسرحة؟”. يجيب: “هناك تجارب روائية لا تقبل إلا أن تقرأ، وعروض مسرحية لا تقبل إلا أن ترى، وهذا ما يفسر فشل بعض الاقتباسات، رغم أهمية الروائيين الذين تمّ اقتباس أعمالهم”.
وأثار مصطلح الاقتباس الروائي والناقد المسرحي العراقي علي عواد، مفضلًا عليه مصطلح “التكييف”، “لأنه لا يقتصر على المسرح، بل يشمل الفنون كلها، إذ يمكن تكييف لوحة أو قصيدة أو قصة قصيرة، في إطار حوار الفنون”. يضيف: “التكييف الماهر لأي رواية هو الذي يُشعرنا بالقطع مع النص الأصلي، وإلا فقد الفعل مبرر القيام به، وأفسد جمالية التلقي”.
“في الرواية، خلاص للمسرح والسينما في الوطن العربي”. هذا ما ذهبت إليه الباحثة اللبنانية نجوى بركات، “إذ هناك روايات تجعلك، وأنت تقرأ تفاصيلها، تتخيلها مسرحية أو فيلمًا، يبقى فقط كيف نخضع لشروط المسرح حين ننقل رواية ما إليه، فأدوات هذا مختلفة عن أدوات ذاك”. وتطالب بركات العرب بأن يعترفوا بكونهم لا يملكون ما يكفي من الكتاب المسرحيين، وما عليهم إلا الترحيب بالروائيين.
هنا، قال الروائي الفلسطيني أنور حامد إن التفاعل بين الروائي والمسرحي، هو رهين تفاعل المتلقي، “فكأن المخرج يعقد اتفاقًا معنويًا مع المشاهد، بأن يقدم له عملًا فرجوًيا يقنعه، فإن هو لم يحقق له ذلك، وأدّى إلى انسحابه، نستطيع الحكم على العمل بأنه فاشل وغير ناضج”. يتدارك: “هنا على المقتبس والمخرج معًا، أن يكونا ملمّين بسياقات التلقي في محيطهما”.
وعاد الكاتب المغربي محمد أمنصور إلى الإشارة التي أطلقها محمد خير الدين: “المسرح يعتمد ما هو أساسي، في حين تعتمد الرواية ما هو عابر وتافه ومؤقت ومبتذل”. منبّهًا إلى أن هناك جيلًا جديدًا في الفضاء المغربي يشتغل بروح تجربية عالية، مكنته من تحويل نخبة من الروايات التي تبدو مستعصية على المسرحة، ذكر منها رواية “بعيدًا عن الضوضاء” لمحمد برادة.
وتساءل الروائي والكاتب المسرحي الجزائري إسماعيل يبرير: “هل افتقارنا إلى نصوص مسرحية أصلية هو ما يدفعنا إلى الاستعارة من الرواية، أم أن هناك رواياتٍ تفرض علينا ذلك، بحكم توفرها على مناخات ومقولات لا توجد إلا فيها؟”. وأحال صاحب “مولى الحيرة” الحاضرين على مسرح الحلقة في الفضاء المغاربي الذي يعتمد أساسًا على الحكاية التي هي نواة الرواية، أهمها تجربة عبد القادر علولة.